برنامج العمل كآلية أساسية في التدبير العمومي الترابي

مقال بعنوان: برنامج العمل كآلية أساسية في التدبير العمومي الترابي 

مقال بعنوان: برنامج العمل كآلية أساسية في التدبير العمومي الترابي بالمغرب
من انجاز: عبد اللطيف أكناو
طالب باحث في سلك الدكتوراه
جامعة ابن زهر أكادير
تقديم

يعتبر برنامج العمل آلية أساسية في التدبير العمومي الترابي اللامركزي، تمارس الجماعة من خلاله اختصاصاتها، خصوصا الذاتية منها. فهو مرجعيتها الأساسية لبرمجة المشاريع والأنشطة ذات الأولوية، المقرر أو المزمع إنجازها، للاستجابة إلى حاجيات المجتمع المحلي من خدمات القرب، ولمواجهة المشاكل العمومية المطروحة على مستوى تراب الجماعة.

وهو كذلك وثيقة تعاقدية بين الفاعلين في السياسات العمومية الترابية، حيث تخضع بلورته لمبدأ التشاور، الذي يثمر التوافق المجتمعي حول الأولويات التنموية للجماعة، ويؤمن مشاركة الساكنة المحلية، والرفع من مساهمتها في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة. وهو بهذه المرجعية يعتبر أحد مرتكزات الديمقراطية التشاركية والتنظيم الجهوي والترابي للدولة، كما ينص على ذلك دستور 2011[1].

واستنادا لذلك ألزمت القوانين التنظيمية رؤساء الجماعات الترابية باحترام آليات الديمقراطية التشاركية في إعداد برنامج العمل[2].
وبرنامج العمل هو وثيقة للترافع من قبل المجلس والمجتمع المدني على حد سواء، أمام الحكومة ومصالحها اللاممركزة والمؤسسات والمقاولات العمومية، من أجل البحث عن تمويل المشاريع والأعمال التنموية. فهذه الوثيقة تؤسس للإلتقائية بين السياسات الحكومية القطاعية والسياسات العامة الأفقية على تراب الجماعة.

وهو أيضا وثيقة مرجعية للتفاوض مع القطاع الخاص وجلب الاستثمار، حيث تضبط معايير وحدود التعاقد والشراكة، من أجل تنويع مصادر التمويل بغية تنفيذ المشاريع بشكل يحقق النجاعة والفعالية بأقل تكلفة.

وهو أيضا أرضية للتعاون اللامركزي سواء على المستوى الإقليمي أو الجهوي أو الوطني أو الدولي، من أجل خلق "التوأمات les jumelages" كمصدر آخر للتمويل.

وبناء عليه يتم إعداد هذه الوثيقة استنادا إلى السياق والإطار المرجعي العام لسياسة الدولة في اللامركزية والجهوية والتنمية، ووفق الإطار الدستوري والقانوني الجديد، وباعتماد المنهجية والمقاربات التي تؤطرها مبادئ وأدبيات الديمقراطية التشاركية.

أولا ـ السياق والإطار المرجعي العام

تؤطر مجموعة من المفاهيم والمبادئ التجربة الجديدة للمغرب في اللامركزية والتدبير العمومي الترابي اللامركزي، التي تعكس تغير مرجعية الدولة في التعاطي مع إشكالية التنمية من جهة، ومن جهة أخرى مع المجتمعات المحلية والجماعات الترابية. وأهم هذه المفاهيم والمبادئ هي الحكامة الترابية، المقاربة المجالية والبيئية، مقاربة النوع، الديموقراطية التشاورية، سياسة القرب، العدالة المجالية والتلقائية السياسات والتدخلات والبرامج.

هذه المبادئ والمفاهيم جميعها تتأسس على مبدأي اللامركزية والجهوية المتقدمة، التي تعطي للجماعات الترابية مكانة جديدة في الفعل العمومي وتكرس علاقة جديدة بينها وبين الدولة، تقوم على التعاقد والتعاون بدل الوصاية والتبعية، وكل ذلك في إطار مقومات الوحدة الوطنية.

فاللامركزية الترابية تشكل رهانا لكسب كل التحديات والعوائق التي تحول دون اشراك كافة المواطنين في صنع السياسات العمومية. وهي بهذه الخلفية، تشكل مقاربة تدبيرية للشأن المحلي ومدخلا للديمقراطية المحلية الحقيقية التي تستند على الكفاءات والمؤهلات البشرية والاقتصادية والطبيعية المحلية عبر اشراك الافراد في تدبير شأنهم العمومي[3].

وهذا ما جعل الحاجة ماسة إلى وسطاء وفضاءات جديدة لتوسيع دائرة مشاركة المواطنين، مؤسسات وجماعات وأفراد، في الحياة العامة والحياة السياسية. وقد أثبتت اللامركزية الترابية والمقاربة المجالية نجاعتها في العديد من الدول وعلى رأسها ألمانيا وايطاليا واسبانيا.
وبتبني هذا النهج تنتقل الجماعات الترابية من مجرد هيئات إدارية، تسهر على الإدارة اليومية لشؤون الساكنة المحلية إلى فاعل سياسي واقتصادي واجتماعي. فسياسيا ستكون الجماعة مدخلا وفضاء لمشاركة المواطنين في الحياة العامة. أما اقتصاديا فالمراد هو أن تكون الجماعة فضاء لنجاعة اقتصاد التنمية، وطريقا لتنزيل سياسات الدولة الاجتماعية للحد من الفوارق والتفاوتات المجالية. هذا بالإضافة إلى تسهيل ولوج المواطنين للخدمات الأساسية والحيوية.

ويمكن إجمال الإطار المرجعي العام فيما يلي:
- علاقة الدولة مع المجتمعات المحلية والمجال الترابي: من التوجس والضبط والمراقبة إلى المواطنة والديمقراطية والتنمية.
- علاقة الدولة بالجماعات الترابية: من الوظيفة الإدارية والوصاية الإدارية إلى فاعل اقتصادي واجتماعي وسياسي على أساس التعاقد والشراكة والتعاون.


ورغم أن هذا التوجه، قد انطلق بشكل فعلي ابتداء من 2002 سنة إصلاح وتعديل قانون الميثاق الجماعي، بفضل التعديلات التي أدخلت عليه، والتعزيز من مكانة المجالس المنتخبة التداولية في التنمية الترابية والتدبير الترابي، إلا أن النقلة النوعية إلى اللامركزية الترابية والديمقراطية التشاورية والمواطنة والتنمية والتدبير الديمقراطي الحر ستتم مع دستور 2011 والقوانين التنظيمية للجماعات الترابية.

ثانيا ـ الإطار الدستوري والقانوني

1- الدستور
تضمن الدستور مجموعة من المقتضيات المؤسسة لفلسفة برنامج العمل ومنهجية إعداده، خصوصا ما يتعلق بالديمقراطية التشاورية كمنهجية عامة في الإعداد. ويتعلق الأمر بمبادئ التدبير الحر والديمقراطي إلى جانب الفصول التي تؤسس للمنحى الجديد للامركزية الترابية والجهوية.

ومن أهم الفصول:
- الفصل 1 الذي يؤكد على أن التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة القائم على مرتكزات الديمقراطية المواطنة والتشاركية ومبادئ الحكامة الجيدة، التي تكرسها ديباجة الدستور.
- الفصول 12، 13، 136 و139 التي تكرس بقوة المشاركة المدنية في صناعة السياسات العمومية الترابية، خصوصا من خلال المشاركة والمساهمة في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية وتفعيلها وتقييمها، علاوة على إعداد برنامج عمل الجماعة وتنفيذه وتقييمه.

هذه الفصول تلزم الجماعات الترابية بإحداث هيئات التشاور ووضع الآليات الكفيلة بتفعيل مشاركة المواطنات والمواطنين والجمعيات ومختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها.

ولهذا الاعتبار أسس الدستور لمرتكزات جديدة للتنظيم الترابي وهي مبادئ التدبير الحر والتعاون والتضامن؛ بما يؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة.

2- القوانين التنظيمية للجماعات الترابية
جاءت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية بما في ذلك القانون التنظيمي للجماعات 113.14، لكي يعكس توجهات الدستور على مستويين، على مستوى احترام المنهجية الديمقراطية التشاركية ــــ التشاورية في إعداد وتنفيذ وتقييم برنامج العمل. وعلى مستوى تكريس مبادئ التدبير الديمقراطي في العلاقة بين المركز والجماعات الترابية، وفيما بين هذه الجماعات. وعلى هذا الأساس ميز المشرع اختصاصات للجماعات عن تلك التي خص بها العمالات والأقاليم وعن التي خص بها الجهة.

ويتمثل الاختصاص الجوهري للجماعات في خدمات القرب[4]، في مقابل التنمية الاجتماعية ومحاربة الهشاشة والفقر وفك العزلة بالنسبة للعمالات والأقاليم، والتنمية الاقتصادية المندمجة والمستدامة بالنسبة للجهات.

واعتبرت المادة 78 من القانون التنظيمي 113.14 برنامج العمل بالاختصاصات الذاتية التي من خلاله تحدد الجماعة الأعمال التنموية التي تعتزم القيام بها للاستجابة لحاجات المجتمع المحلي من الخدمات.

كما أكدت هذه المادة على إلزامية المقاربة التشاورية ومقاربة النوع في إعداد هذا البرنامج، وكذلك ضرورة الالتقائية مع برنامج التنمية الجهوية وكذلك القطاعية من خلال التنسيق مع عامل الإقليم بصفته المنسق الترابي بين المصالح اللاممركزة.[5]

وحددت نفس المادة مضمون برنامج العمل في ثلاثة محاور أساسية وهي التشخيص الترابي التشاوري للحاجيات والإمكانيات بالجماعة، ثم تحديد واستخراج الأولويات من خلال ذلك التشخيص، ثم تقييم الموارد المالية والنفقات التقديرية لثلاث سنوات الأولى من الولاية.

أما المادة 81 و82 فتتعلقان بالجانب الإجرائي المسطري في الإعداد، حيث نصت الأولى على ضرورة إصدار نص تنظيمي يحدد مسطرة الإعداد والتتبع والتحيين والتقييم، وأشارت الثانية إلى إلزامية أن تمد الإدارة والجماعات الترابية الأخرى والمقاولات والمؤسسات العمومية الجماعة بالوثائق والمعلومات المتوفرة المتعلقة بمشاريع التجهيز المراد إنجازها بتراب الجماعة.

ثالثا ـ مسطرة ومراحل إعداد برنامج العمل

يأتي إعداد برنامج عمل الجماعة في سياق مجموعة من المقتضيات الدستورية والقانونية التي وضعت إطارا مرجعيا جديدا موجها، حددت مضمون وأهداف برنامج العمل، وكذا منهجية ومسطرة ومراحل الإعداد والإقرار. وشددت تلك المقتضيات على التشخيص الترابي التشاوري التشاركي كمنهجية أساسية وحجر الزاوية في هذا الإعداد. وهذا ما اقتضى اعتماد مجموعة من التقنيات العلمية التطبيقية لأجرأة هذه المنهجية.

1. المبادئ والضوابط الأساسية
حددها المرسوم رقم 2.16.301 في المادة الثالثة والمادة السابعة منه وهي:
- تحديد الأولويات التنموية للجماعة.
- الالتقائية مع برنامج التنمية الجهوية وبرنامج تنمية الإقليم عند وجودهما.
- اعتماد البعد البيئي.
- تنويع التمويل بين الذاتي وعبر الشراكة والتعاون اللامركزي.
- المنهج التشاركي من خلال إجراء مشاورات مع المواطنات والمواطنين والجمعيات والهيأة الاستشارية المكلفة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع.
- التنسيق مع عامل الاقليم أو العمالة بصفته منسق المصالح اللاممركزة.

2. الإجراءات القبلية

حددتها المادة 4 فيما يلي:
- عقد رئيس الجماعة للقاء إخباري تشاوري يدعو له أعضاء المكتب ورؤساء اللجن ويحضره العامل أو من يمثله. كما يمكن له أن يدعو رؤساء المصالح اللاممركزة وأي شخص يرى فائدة في حضوره.
- إصدار رئيس الجماعة لقرار إعداد برنامج العمل يتضمن الجدولة الزمنية وتاريخ بداية الانطلاق.

3. مراحل الإعداد
حددها المرسوم في المادة 6 منه في:
- إنجاز تشخيص يحدد الحاجيات والإمكانيات ويبرز الأولويات.
- وضع وترتيب الأولويات التنموية انطلاقا من سياسات واستراتيجيات الدولة في خدمات القرب، وانسجاما مع برنامج تنمية الجهة وبرنامج تنمية الإقليم متى وجدا.
- تحديد المشاريع والأنشطة ذات الأولوية.
- تقييم موارد الجماعة ونفقاتها التقديرية.
- بلورة وثيقة مشروع برنامج العمل.
- وضع منظومة تتبع المشاريع والبرامج وتحديد الأهداف المراد بلوغها ومؤشرات الفعالية.

4. الإجراءات المصاحبة
حددتها المادة 9 فيما يلي:
- طلب المعلومات والمعطيات والمؤشرات والوثائق من المصالح الخارجية للدولة والجماعات الترابية الأخرى والمقاولات والمؤسسات العمومية.
- طلب تعبئة الموارد البشرية للمصالح الخارجية عند الحاجة.

5. الإقرار
حدد في المادة 10 والمادة11 والمادة12 من المرسوم في:
- عرض مشروع برنامج العمل على اللجان الدائمة لمدة ثلاثين يوما على الأقل.
- عرض المشروع على المجلس للمصادقة عليه.
- التأشير على البرنامج بعد المصادقة عليه من قبل السيد العامل.

رابعا ـ المقاربات العلمية للعملية

إن برنامج العمل هو مجموعة من المشاريع والبرامج التي تحمل مجموع السياسات العمومية الترابية التي سيعمل المجلس الجماعي، بتعاون مع باقي الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين والمهنيين والإداريين والسياسيين، على تنزيلها لمعالجة المشاكل العمومية المطروحة، خصوصا في مجال خدمات القرب.

وإعداد السياسات العمومية الترابية يقتضي توظيف الخبرات العلمية والمعارف المتعددة بالتراب والمجال والمعرفة بالاقتصاد والفاعلين فيه، ومعرفة بالمجتمع والعلاقات الاجتماعية، سواء في مرحلة تحديد وتشخيص المشاكل العمومية أو مرحلة اقتراح وبلورة الحلول أو مرحلة اتخاذ القرارات، وحتى عند التنفيذ والتقييم والتتبع. وهنا تأتي أهمية الاستناد إلى مجموعة من المقاربات العملية والعلمية التي تمكن مما يلي:
- التشخيص الدقيق والعلمي للمشاكل العمومية من خلال المعاينات الميدانية والمقابلات الجماعية والفردية ومن خلال الاستمارات.
- خلق التقارب والتوافق حول المشاكل العمومية وحول الحلول الممكنة والمناسبة والأكثر نجاعة وفعالية والأقل تكلفة.
- التأسيس والتمهيد لانخراط الفاعلين المشاركين في التشخيص في عملية التنفيذ والتتبع والتقييم.

ولهذه الاعتبارات من المفترض تبني المقاربات التالية:

1- المقاربة المجالية الترابية والبيئية
تنطلق الرؤية المجالية للتنمية من أولوية عناصر المجال من جهة، ومركزية الإنسان الذي يعيش على هذا المجال في وضع السياسات والمشاريع والبرامج من جهة آخرى، حيث ينبغي أن تنعكس الإمكانيات المتوفرة في المجال على مستوى حياة الناس، وحيث ينبغي الانطلاق من خلفية أن التنمية تنطلق من تثمين الموارد المادية والرمزية التي يتوفر عليها ذلك المجال، وحيث كذلك ينبغي انخراط جميع الفاعلين المتواجدين في التراب في العملية التنموية.

وتمكن المجالية من تحقيق التقائية السياسات القطاعية في سياق نظرة شمولية تهدف إلى تحقيق العدالة المجالية والحد من التفاوت الترابي، وإبراز المؤهلات التنموية الكفيلة بإنتاج الثروات الجديدة ومن تم توفير التشغيل وتيسير الولوج للخدمات. كما أن المقاربة المجالية تضمن التوازن بين استغلال المجال من أجل العدالة الاجتماعية، والحفاظ على البيئة واستدامة الموارد سواء منها المادية أو الرمزية.

وبناء عليه سيستحضر التشخيص والإعداد الخصائص المميزة لمجال تراب الجماعة، والعناصر المتفاعلة به، طبيعية بشرية واقتصادية وبيئية. وهي أبعاد تمكن من تحقيق أهداف التنمية المستدامة والمندمجة.

2- المقاربة التشاورية - التشاركية
التشاور هو مسار للتبادل بين مجموعة من الأفراد يمثلون أنفسهم بصفة شخصية أو يمثلون تنظيمات أو مؤسسات، مختلفين في وضعياتهم، وفي المصالح والأهداف التي يريدونها، غايتهم بلورة حلول بشكل جماعي بغية توجيه القرارات المستقبلية. أما الهدف منه فهو تغذية القرارات العامة أو الخاصة لكي تصبح ذات أولوية أكثر، ذات مشروعية أكبر، مفهومة بشكل أحسن وقابلة للتنفيذ بشكل أجود.

وقد برزت هذه المقاربة عندما استنفذت المقاربات التقليدية (السياسية والإدارية والتقنية) طاقاتها وأبانت عن محدوديتها في حل المشكلات التنموية. وتتميز هذه المقاربة على مستوى التنظيم باللامركزية والديناميكية والانفتاح، وعلى مستوى الإجراءات تتميز بالمرونة والوضوح وسهولة التكييف، أما على مستوى اتخاذ القرار فهي تقوم على عملية التواصل مع السكان والحوار واللقاء المباشر والملاحظة والتفاوض والملائمة.

وتيسر المقاربة التشاركية ــ التشاورية التعبير بحرية، تعبئة المشاركين وتحفيزهم على العمل، وزيادة القوة الاقتراحية والمبادرة وفعالية التواصل بين المجموعات، اتخاذ القرارات بإرادة وتحمل المسؤولية. وتقوم هذه المقاربة على ثلاثة أساليب وهي تحليل الوثائق، الملاحظة بالمشاركة والمقابلات شبه المنظمة الفردية والجماعية. وتساعد هذه العملية على التشخيص الواقعي والمنطقي للوضعية والتحليل العلمي لطبيعة المشاكل وكذلك التفكير الجماعي في الحلول.

3- المقاربة الحقوقية ومقاربة النوع
يعتبر احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية من الشروط الأساسية لإعطاء معنى كامل للتحولات الاقتصادية والاجتماعية ولترسيخ آمال جديدة للإنسانية، وذلك بهدف بناء “العالم الجديد الذي نريد” على قاعدة متينة أكثر إنصافا واستدامة.

فبلورة السياسات العمومية الترابية على قاعدة مرجعية لحقوق الإنسان أصبحت أمرا ملحا وتستدعي وضع أهداف ذات أولوية، خاصة في مجال تقليص التفاوتات الاجتماعية والمجالية. ويجب أن تعطي هذه الأهداف الأفضلية لمنطق الإدماج والإشراك والمساءلة خدمة لآليات الديمقراطية التشاركية.

وتحتل قضية النوع الاجتماعي مكانة محورية سواء من منظور الاعتبارات الأخلاقية أو من خلال المتطلبات الاقتصادية الموجهة إلى ضرورة تعبئة مجمل إمكانيات النساء وكذا قدراتهن في تعزيز المسارات الجديدة للرفاهية والتقدم.

ترتكز مقاربة النوع على البحث عن الفعالية والنجاعة المثلى للسياسات العمومية الترابية لتحقيق نتائج أكثر تنسيقا واستهدافا بالنظر إلى الحاجيات المتباينة لمختلف شرائح الساكنة. كما تدعو المقاربة الحقوقية إلى إعادة بلورة منطق وأهداف المخططات والسياسات العمومية في اتجاه احترام أكبر للحقوق والواجبات المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.

ويقتضي اعتماد هذه المقاربة في إعداد برنامج العمل استحضار حقوق الفئات في وضعية هشاشة، والنساء على الخصوص، عند تحديد الأولويات التنموية للجماعة وعند وضع المشاريع ذات الأولوية.

خامسا ـ التقنيات العلمية المستعملة لتفعيل المقاربات

سيرورة إعداد برنامج العمل، خصوصا في مرحلة التشخيص، تفترض الاعتماد على مجموعة من التقنيات العلمية التي تمكن من إعمال واحترام المقاربات والمقتضيات المسطرية والمبادئ التي نصت عليها القوانين. وتؤطر هذه التقنيات بخطاطة "جونز" في السياسات العمومية التي تضع خطة لإعداد السياسات تبدأ بتحديد وتشخيص المشكل وتنتهي بالتتبع والتقييم. ويمكن تعزيز هذه الخطاطة بتقنية سووت"SWOT"التي تعتمد في التشخيص على تحديد نقط القوة ونقط الضعف، والفرص المتاحة والمخاطر المحتملة.

ويمكن إجمال هذه التقنيات في:
- نافذة سووت SWOT [6].
- المجموعات البؤرية الموجهة Focus groupe [7]، التي تستعمل بالأساس في اللقاءات التشاورية.
- المقابلات الفردية والجماعية الني غالبا ما تعتمد في اللقاءات والاستشارات مع المصالح اللاممركزة، المؤسسات والمقاولات العمومية والمجلس الجهوي والاقليمي، ثم مصالح إدارة الجماعة في التشخيص الداخلي.
- الاستمارات لجمع المعطيات والمعلومات من المصالح اللاممركزة والمؤسسات والمقاولات العمومية والجماعات الترابية الأخرى ومصالح إدارة الجماعة.
- المعاينة الميدانية لتراب الجماعة للوقوف عند وضعية الأحياء والشوارع والأزقة والمرافق المتواجدة أو الناقصة.

سادسا ـ منهجية التشخيص الترابي

1- ما هو التشخيص الترابي؟
جعل برنامج العمل من التشخيص الترابي أول إجراء ترابي لهذا الفعل التعاقدي الترابي. فهو ليس مجرد جرد أو مسح بسيط لواقع الحال أو صورة فوتوغرافية لمجال ترابي معين. بل هو قبل كل شيء إثارة انتباه الفاعلين في التراب ودفعهم للفعل والتفاعل في النقاش والتداول والتشاور حول وضعية الجماعة.

وعلى هذا الأساس، يهدف التشخيص الترابي إلى تقارب وانسجام منظور الفاعلين للمشاكل العمومية وللحلول الممكنة من أجل الانخراط في تفعيل وتنفيذ السياسات والقرارات المتخذة. كما يهدف إلى تحقيق حد أدنى من الالتقائية بين تدخلات الفاعلين وخصوصا التقائية السياسات القطاعية في تراب الجماعة.

2- مراحل التشخيص الترابي
يمكن تحديد تلك المراحل منهجيا وعلميا فيما يلي:
- وصف وضعية تراب الجماعة: الهدف هنا هو تحديد العناصر المكونة والمهيكلة للتراب والعلاقة بين تلك العناصر.
- استخراج الرهانات أو الأولويات: بلورة وصياغة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الممكنة لديناميات العمل مع التحديات والمخاطر المطروحة.
- اختيار الإستراتيجية: أي ترتيب الرهانات أو الأولويات حسب الأهداف المسطرة والإمكانيات المتاحة.
- اقتراح مشاريع البرامج الممكنة: أي تحديد الأعمال التي يرى الفاعلون أنها ستحدث تغييرا في الوضعية.

3- المشاركون في التشخيص
استنادا إلى مناهج السياسيات العمومية وبناء على مقتضيات الدستور والقانون التنظيمي 113.14 وكذا المرسوم رقم 2.16.301 المتعلق بتحديد مسطرة إعداد برنامج عمل الجماعة، وتفعيلا لمبادئ الديمقراطية التشاورية، يشارك في التشخيص الترابي جميع الفاعلين الترابيين إما من خلال اللقاءات التشاورية، أو بواسطة مقابلات استشارية قطاعية، فردية أو جماعية أو عبر استمارات. وقد يشمل هذا العمل الجهات التالية:

- المجلس الجماعي.
- الموظفون الجماعيون.
- المواطنات والمواطنون.
- جمعيات المجتمع المدني.
- الهيأة الاستشارية المكلفة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع.
- المصالح اللاممركزة للوزارات.
- المؤسسات العمومية وشبه العمومية بالإقليم والجهة.
- مجلس الجهة.
- مجلس العمالة أو الإقليم.
- مجالس الجماعات الترابية المكونة للعمالة أو الإقليم.

4- مسار التشخيص
نقدم هذا المسار كما يلي:
- اليوم الدراسي الإخباري لانطلاق إعداد برنامج العمل: يعطي فيه رئيس المجلس الجماعي الانطلاقة الرسمية لإعداد برنامج العمل بمقر الجماعة، وفق ما هو منصوص عليه في المرسوم المحدد لمسطرة إعداد البرنامج والمشار إليه سلفا.
- توجيه مراسلات مرفقة باستمارات للمصالح اللاممركزة والمؤسسات العمومية والمجلس الجهوي والمجلس الإقليمي ومجالس جماعات الإقليم.
- إجراء المقابلات الفردية والجماعية من أجل المعلومة والخبرة والاستشارة مع ممثلي المصالح اللاممركزة، ومع المؤسسات العمومية وشبه العمومية بالإقليم والجهة.
- تنظيم اللقاءات التشاورية مع الهيأة الاستشارية المكلفة بتفعيل مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع، والجمعيات المدنية والمواطنات والمواطنين.
- إجراء معاينات ميدانية لتراب الجماعة.
- إجراء بعض المقابلات مع أهل الخبرة والاختصاص في بعض المجالات خصوصا المتعلقة بمشاكل الفيضانات والماء الصالح للشرب والتأهيل الحضري والمشاكل البيئية.

5- تقنيات التشخيص الترابي
لقد سبقت الإشارة إلى هذه التقنيات عند الحديث عن منهجية إعداد برنامج العمل. ونعيد الإشارة إليها بشكل مقتضب كما يلي:
- المجموعات البؤرية في اللقاءات التشاورية: وهي تقنية تقوم على تنظيم وتوجيه النقاش العمومي حول موضوع ما في مجموعات صغيرة لا تتجاوز 20 شخصا، بهدف خلق توافقات وتقاطعات في تشخيص المشكل وتحديد الحلول والسبل الممكنة لمواجهته.
- المقابلات الفردية في الاستشارات والخبرات مع مدراء المصالح الخارجية والمؤسسات العمومية ومع الخبراء ذوي الاختصاص.
- الاستمارات لجمع المعطيات حول القطاعات.
- المعاينة الميدانية.

خاتمة:
الحكامة نظريا هي منظومة من الإجراءات والمساطر التي تهدف إلى عقلنة ومراقبة التصرفات والقرارات والسلوكات الإدارية والمالية لمجالس لجماعات الترابية، بهدف محاربة هدر المال العام وشطط الإدارة في علاقتها بالمواطنين وعموم المرتفقين، وبهدف تحقيق نجاعة وفعالية القرار المالي والإداري، بشكل يحقق الجودة والمردودية بأقل تكلفة مالية ودون هدر حقوق وحريات المواطنين والمرتفقين، وذلك في مقابل التخفيف من الوصاية والرقابة المتشددة على أعمال وأشخاص مجالس الجماعات الترابية، كل ذلك بتبني آليات الحكامة الترابية.

وقد نصت المادة 269 من القانون التنظيمي للجماعات على مجموعة من قواعد الحكامة خصوصا المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر، جاء فيها ما يلي: " يراد في مدلول هذا القانون التنظيمي بقواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر العمل على الخصوص على احترام المبادئ العامة التالية: المساواة بين المواطنين في ولوج المرافق العمومية التابعة للجماعة؛ الاستمرارية في أداء الخدمات من قبل الجماعة وضمان جودتها؛ تكريس قيم الديمقراطية والشفافية والمحاسبة والمسؤولية؛ ترسيخ سيادة القانون؛ التشارك والفعالية والنزاهة".

وبناء عليه تبقى فعالية ونجاعة المشاريع ذات الأولوية التي سيتم اعتمادها استنادا إلى هذا التشخيص الترابي مشروطة بمرحلة التنفيذ. ويعتبر المنتخبون والموظفون والجمعيات والتعاونيات من الفاعلين الرئيسيين في هذه العملية. ولهذه الاعتبارات، ونظرا لكون هذه الأدوار جديدة على هؤلاء الفاعلين، فإن التنفيذ الجيد للمشاريع يقتضي تأهيل وتعزيز وتقوية قدرات هؤلاء الفاعلين. كما يقتضي تحديث وعقلنة الإدارة ورقمنتها وكذلك تطوير وعصرنة آليات التواصل وتقديم الخدمات.

فتوفير وتجويد وتعميم خدمات القرب الجماعية وتيسير الولوج إليها، كما النهوض بالاقتصاد الاجتماعي التضامني والزيادة من دخل السكان النشيطين، وتأهيل وتنمية التراب هي أوراش كبرى وإستراتيجية تضع تحديات كبيرة على الجماعة، الشيء الذي يقتضي انخراط ومشاركة جميع الفاعلين الترابيين وتنظيم وتنسيق تدخلاتهم في إعداد وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية الترابية بما يضمن الفعالية والنجاعة في القرارات.

ويبقى المنتخبون على رأس هؤلاء الفاعلين لأنهم هم من خولهم الدستور والقانون التنظيمي للجماعات سلطة اتخاذ القرارات، ولأن رئيس الجماعة هو المسؤول عن تنفيذ برنامج العمل. وعليه يعتبر المجلس الجماعي وعلى رأسه الرئيس بمثابة الفاعل السياسي المسؤول عن التعاقد والتفاوض والشراكة مع الفاعلين الآخرين الاقتصاديين والاجتماعيين والمهنيين والإداريين، بما في ذلك السلطة العمومية والمصالح اللاممركزة والمؤسسات والمقاولات العمومية. وهو كذلك المسؤول عن التنسيق بينهم وبين تدخلاتهم على مستوى الجماعة. وهم كذلك مطالبون بتعبئة كل الموارد المالية الممكنة، خصوصا التمويل العمومي، لتنفيذ هذه السياسات الترابية. وهم كذلك مطالبون بتعبئة مكونات المجتمع والمواطنات والمواطنين للانخراط في مشروع الجماعة. ولهذه الاعتبارات ينبغي أن تتوفر للمنتخبين الأهلية والكفاءة والقدرة على التنسيق والتفاوض والتعاقد والشراكة والتواصل الاجتماعي والمؤسساتي.

والفاعل الثاني الرئيسي في الجماعة هو موظفو إدارة الجماعة والذين بوأهم القانون التنظيمي مكانة أساسية في المؤسسة، وذلك نظرا لدورهم الاستراتيجي والحاسم في نجاعة المشاريع والسياسات والقرارات، لأن النجاعة مرتبطة بشكل كبير بمرحلة التنفيذ وليس فقط بمرحلة الإعداد. ونظرا للأدوار الجديدة المنوطة بهم تتبين الحاجة الماسة لإعادة هيكلة وتحديث الإدارة الجماعية، والحاجة الماسة إلى امتلاك مهارات ومعارف جديدة في مجال التدبير العمومي.

ومن الفاعلين المركزيين في عملية التنمية الترابية على مستوى الجماعات الترابية والذي بوأه الدستور أدوارا اجتماعية وسياسية مهمة نجد المجتمع المدني. فهو بمثابة فاعل اجتماعي مدني محوري في الوساطة بين المجتمع والجماعة وباقي مؤسسات الدولة المتدخلة في التراب. فهو قوة مبادرة واقتراحية وترافعية في مجال السياسات العمومية الترابية. ولا يمكنه أن يلعب هذا الدور إلا بالقدرة على تعبئة المجتمع بكل مكوناته للانخراط إيجابيا في بناء وتنمية الجماعة. وكذلك القدرة على حمل مطالب وحاجات المجتمع وبلورتها في مشاريع ومبادرات. وبالتالي فلابد أن تمتلك الجمعيات المدنية القدرة على التأطير والتعبئة والتواصل والوساطة.

------------------

هوامش

[1] - الفصل 136 من دستور المملكة المغربية لفاتح يوليوز 2011، الجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر الصادرة بتاريخ 28 شعبان 1432، الموافق 30 يوليو 2011.
[2] - المادة 243 و244 من القانون التنظيمي 111.14، الجريدة الرسمية عدد 6380 الصادرة بتاريخ 6 شوال 1436 الموافق 23 يوليوز 2015.
المادة 213 و214 من القانون التنظيمي 112.14، الجريدة الرسمية عدد 6380 الصادرة بتاريخ 6 شوال 1436 الموافق 23 يوليوز 2015.
المادة 269 و270 من القانون التنظيمي 113.14، ، الجريدة الرسمية عدد 6380 الصادرة بتاريخ 6 شوال 1436 الموافق 23 يوليوز 2015.
[3] - عبد المالك أحزرير، علاقة الجهوية المتقدمة بالديمقراطية الترابية. التجربة الجهوية بالمغرب، مؤلف جماعي، منشورات المركز المغاربي للأبحاث الاستراتيجية ودراسة السياسات: ص: 31.
[4] - المادة 77 من القانون التنظيمي 113.14، الجريدة الرسمية عدد 6380 الصادرة بتاريخ 6 شوال 1436 الموافق 23 يوليوز 2015.
[5] - المادة 78 من القانون التنظيمي 113.14، الجريدة الرسمية عدد 6380 الصادرة بتاريخ 6 شوال 1436 الموافق 23 يوليوز 2015.
[6] - التحليل الرباعيّ أو Swot analysis، ويتضمّن رصدَ جوانب القوّة والضعف في البيئة الداخليّة للمنظّمة، ورصد الفرص والتهديدات في البيئة الخارجيّة للمنظمة، حيث يدرسُ جوانبَ:
E القوّة Strengths، فهي عواملُ استراتيجيّة داخليّة تتمثّلُ فيما تمتلكُه المنظّمة من قدرات وكفايات تمكّنها من تحسين ميزتها التنافسيّة، وفي تنفيذ استراتيجياتها لتحقيق رؤيتها، وغاياتها، وأهدافها.
E الضّعف أوWeaknesses، فهي عواملُ استراتيجيّة داخليّة تمثّل العوائقَ والعقباتِ التي تحول بين المنظّمة وبين تحقيق رؤيتها ورسالتها وغاياتها وأهدافها.
E الفرص أوOpportunities، فهي عوامل استراتيجيّة خارجيّة يمكنُ أنْ تستفيدَ منها المنظّمة لتحسين وضعها أو ميزتها التنافسيّة.
E التهديدات أوThreats، وهي عوامل استراتيجيّة خارجيّة تحول بين المنظّمة وبين تحقيق أهدافها أو دعم ميزتها التنافسيّة.
[7] - تعد المجموعات البؤرية الموجهة Focus groupe مجموعات النقاش مفيدة في تطبيقها من أجل التوصل إلى فهم أفضل لوجهات النظر المختلفة والعوامل المؤثرة على الآراء والسلوكات، حيث يتم جمع أشخاص من خلفيات أو خبرات متشابهة (مثل: الشابّات، الشباب، ذوي الاحتياجات الخاصة، كبار السن.. إلخ) معًا لمناقشة موضوع معيّن. ويمكن استخدام مجموعات النقاش كأداة لإشراك الأشخاص في عملية صنع القرار في مجال السياسات العمومية الترابية؛ حيث تعطي فرصة لمجموعات محددة من المواطنين للتعبير عن جوانب اهتماماتهم وتضمين رأي كل الفئات المعنيّة في عملية صنع القرار.


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -