فحص شرعية القرار الإداري

 مقال بعنوان: فحص شرعية القرار الإداري

فحص شرعية القرار الإداري في القانون المغربي PDF

مـقـدمـــــــــــــة :
تخضع الإدارة عند ممارسة نشاطها لمبدأ المشروعية، والذي يفرض توافق التصرفات التي تصدر عنها مع القواعد القانونية الموضوعة سلفا، و المشروعية هي رقابة القضاء على أعمال الإدارة وتسمى دعوى المشروعية أو دعوى الإلغاء، وهي دعوة توجه إلى محكمة متخصصة في الإلغاء بسبب تجاوز السلطة (الشطط في استعمال السلطة).
ويستعمل لفظي المشروعية والشرعية كمترادفين عند بعض فقهاء القانون العام، واستعمل البعض الآخر كلمة الشرعية بدل المشروعية عند فقهاء القانون الخاص، ولكن إذا ما تم التدقيق ما بين المصطلحين، نجد أن هناك اختلاف بينهما فالمشروعية وترجمتها بالفرنسية Légalité تعني احترام قواعد القانون القائمة فعلا في المجتمع، أي مشروعية وضعية قانونية قائمة، في حين تعني كلمة الشرعية التي تقابلها بالفرنسية Légitime العدالة وما يجب أن يكون عليه القانون [1].
فمفهوم الشرعية أوسع من مجرد احترام قواعد القانون الوضعي العادل، أي السعي إلى تحقيق المثالية في العدالة التي يتصورها العقل البشري المستقيم، والعمل على تحقيقها في كل ما يصدر من تشريعات وضعية، ولتكون الدولة قانونية وحتى يسود مبدأ المشروعية يجب أن تقوم الدولة على الأسس التالية: 1 مبدأ فصل السلطات 2 خضوع الإدارة للقانون3 تحديد الاختصاصات الإدارية بصورة واضحة 4 إخضاع الإدارة لرقابة القضاء.
و نتيجة لأهمية القرار الإداري كأحد أهم وسائل الإدارة القانونية فقد حظي قضاء الإلغاء بأهمية خاصة ضمن باقي المنازعات الإدارية الرائجة أمام المحاكم الإدارية، باعتبار أن هذا القضاء يقوم أساسا على ضمان بقاء الإدارة عند إصدارها لقراراتها الإدارية داخل إطار المشروعية.
و دعوى الإلغاء أو دعوى تجاوز السلطة هي من صنع قضاء مجلس الدولة الفرنسي بالنسبة لفرنسا، ونقله عند ورودها جمهور الفقهاء الفرنسيين، وهي دعوى موضوعية – أو عينيه – تتضمن مخاصمة القرار الإداري المعيب بسبب مخالفته للقانون، والتوصل إلى إلغائه بأثر قبل الكافة، ولهذا وصفت بأنها دعوى ذات طابع موضوعي وليست ذات طابع شخصي عند صدورها، كما أنها ليست دعوى ضد خصوم ولكنها دعوى ضد قرار.
وإذا كان الحديث عن قضاء الإلغاء ينحصر عادة في الحديث عن دعوى الإلغاء نظرا لأهميتها الخاصة، فإن هناك إلى جانب دعوى الإلغاء دعوى أخرى لا تقل أهمية وهي دعوى فحص شرعية القرارات الإدارية، والتي تعتبر أحد أهم دعاوى قضاء الإلغاء بجانب كل من دعوى الإلغاء و دعوى إيقاف تنفيذ القرارات الإدارية.
وتقدير شرعية القرارات الإدارية مرت بتطور تاريخي كبير، حيت أنه قبل إحداث المحاكم الإدارية كان القاضي وهو يبت في المادة الإدارية لا يملك الاختصاص من أجل النظر في شرعية القرارات الإدارية إلا إذا كان ذلك مرتبطا بتحديد مسؤولية الإدارات العمومية، مع ذلك ظل أسلوب الدفع بعدم المشروعية غير كاف لضمان احترام الشرعية الإدارية في غياب دعوى الإلغاء.
إلا أنه بعد إحداث المجلس الأعلى –محكمة النقض حاليا- بمقتضى ظهير 27 شتنبر 1957 الذي أصبح مختصا وحده بالنظر في دعوى الإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة ، غير أن هذا لا يمنع القاضي من مراقبة شرعية القرارات الإدارية بمناسبة بته في الدعوى المرتبطة بهذه القرارات، ومن تم فإن القاضي الذي يبت في الدعوى هو نفسه الذي يقوم بفحص الشرعية
ومع إحداث المحاكم الإدارية سنة 1993 ومن بعدها محاكم الاستئناف الإدارية في سنة 2006، استقلت دعوى فحص الشرعية بعدما كانت مجرد دفع بفحص الشرعية وهو الدفع الذي يتم بمناسبة دعوى رائجة أمام المحاكم العادية، ودعوى فحص الشرعية هي الدعوى التي يرفعها أحد الأشخاص لمطالبة المحكمة بتقدير القرار الإداري والتصريح بعدم مشروعيته.
وموضوع دعوى فحص شرعية القرارات الإدارية يطرح العديد من الإشكالات منها:
· هل يمكن الحديث عن دعوى مستقلة لفحص شرعية القرارات الإدارية دون الإحالة بالدفع بعدم الشرعية ؟
· ما الفرق بين دعوى فحص الشرعية والدفع بعدم الشرعية ؟
· من هي الجهات القضائية المختصة بفحص شرعية القرارات الإدارية ؟
ولمعالجة هذا الموضوع سنعتمد التصميم التالي:

المبحث الأول : الدفع بعدم الشرعية قبل إحداث المحاكم الإدارية
المطلب الأول : الدفع بعدم الشرعية قبل المجلس الأعلى 1957
المطلب الثاني : الدفع بعدم الشرعية بعد إنشاء المجلس الأعلى 1957ـ 1994
المبحث الثاني : فحص الشرعية بعد إحداث المحاكم الإدارية
المطلب الأول : اختصاص المحاكم الإدارية بفحص شرعية القرارات الإدارية
المطلب الثاني : إقصاء قرارات تقدير الشرعية في مرحلة النقض


المبحث الأول: الدفع بعدم الشرعية قبل إحداث المحاكم الإدارية

سنتطرق في هذا المبحث للدفع بعدم الشرعية من الفترة التي سبقت إحداث المجلس الأعلى سنة 1957 إلى حين إنشاء المحاكم الإدارية سنة 1994.

المطلب الأول: الدفع بعدم الشرعية قبل المجلس الأعلى 1957

قد منح المشرع بمقتضى الفصل الثامن من ظهير التنظيم القضائي الصادر بتاريخ 12 غشت 1913 للمحاكم العصرية مهمة الفصل في المنازعات الإدارية، حيث ينص " في المواد الإدارية تختص جهات القضاء الفرنسي المنشاة في إمبراطوريتنا وذلك في حدود الاختصاص الممنوح لكل منها بنظر جميع الدعاوي التي تهدف إلى تقرير مديونية الإدارات العامة التي أمرت بها، أو بسبب جميع الأعمال الصادرة منها والضارة بالغير، وتختص نفس الجهات بنظر الدعاوي المرفوعة من الإدارات العامة على الأفراد وتمثل الإدارة أمام القضاء بواسطة أحد موظفيها، ولا يجوز لجهات القضاء الحديث أن تأمر سواء بصفة أصلية أو تبعا لدعوى منظورة أمامها عن الدعاوي التي سبق ذكرها بأي إجراء من شأنه أن يعطل أو يعرقل نشاط الإدارات العامة سوءا كان ذلك بتعطيل تنفيذ اللوائح التي أصدرتها أو الأشغال العامة أو بتعديل طريقة أو مدى تنفيذها، كما يمنع عليها أن تنظر في طلبات إلغاء قرار أصدرته الإدارة دون الإخلال بحق صاحب المصلحة في تظلم بطريق الالتماس من جهة الإدارة التي لها وحدها أن تعدل من القرار الذي يمس بمصالحه، وكون الأحكام الصادرة في المسائل الإدارية قابلة في جميع الأحوال للطعن فيها بالاستئناف ولا يجوز الطعن فيها بالنقض، إلا بناء على تجاوز المحاكم لسلطتها بسبب مخالفة الفقرتين الرابعة والخامسة وفي هذه الحالة يرفع النقض مباشرة بوساطة النيابة العامة ويترتب على الطعن بالنقض وقف تنفيذ الحكم ويكون البطلان الذي تنطق به محكمة النقض حجة على جميع أطراف الخصومة"

وتقدير الشرعية يكون في ثلاث حالات :
أولا : ملف جنحي وتختص به المحاكم الزجرية، فالقاعدة أن القانون الجنائي يمس بحقوق وحريات المواطن ، والقاضي الزجري لا يصدر عقوبة و لا يبت في القضية إلا بعد التأكد من مشروعية القرار، فالقاضي الزجري في فرنسا منذ 1903 يستطيع أن يتدخل في تقدير و فحص شرعية القرار الإداري.
ثانيا : ملف مدني 
ثالثا : ملف إداري وتختص بهما المحاكم المدنية، وله علاقة بالفقرتين 4 و5 من الفصل 8 من ظهير التنظيم القضائي لسنة 1913، والدفع بعدم الشرعية كانت هي الآلية الوحيدة لإخضاع أنشطة الإدارة للمراقبة بناء على هذا الفصل، فكانت المحاكم الإقليمية وبعدها المحاكم الابتدائية تبت في النزاعات التي تنشأ بين الإدارة والخواص، ولكن هذه المحاكم كانت مختصة فقط بالنظر في الطلبات الرامية إلى تقرير مديونية الإدارة العمومية عن :
1. الأضرار الناجمة عن العقود التي تبرمها الإدارة؛
2. الأشغال العامة التي تأمر بها؛
3. المسؤولية الناتجة عن الأضرار التي تتسبب فيها الإدارة.
وهذا الفصل خول للمحاكم الفرنسية المقامة بالمغرب إمكانية التعويض عن الأضرار التي تلحق الخواص بسبب أنشطتها المختلفة غير أن المحاكم منعتها من أن تبت في أي طلب من الطلبات الرامية إلى إلغاء القرارات الإدارية أو عرقلة عملها بطريقة أصلية أو تبعية.
هل المحاكم المدنية يمكنها أن تحكم في قضايا الإدارة دون التأكد من مشروعية القرار؟
ليس هناك ما يمنع المحاكم المدنية المحدثة بالمغرب أن تقدر مشروعية القرارات الإدارية، إذا كان هذا التدخل ضروريا لتقرير مديونية الإدارات العمومية فهذه المحاكم كانت تتعرض لتقدير شرعية القرارات الإدارية فقط عند البت في المسؤولية الإدارية للإدارات المحدثة بالمغرب ، في ظل غياب دعوى المشروعية أو الإلغاء.
حيث كانت المحاكم تنطلق في موقفها من المهمة الأساسية التي تضطلع بها السلطة القضائية في تطبيق القانون، وبالتالي استبعاد كل عمل إداري يأتي مخالفا له، واعتماده كسبب لتأسيس مسؤولية الدولة والإدارات العمومية عن الأضرار التي يلحقها ذلك العمل بالغير، حيث تغدو اللامشروعية هي الخطأ التي تنبني عليه المسؤولية الإدارية.
وذلك في حدود اختصاصها بالتصريح بمديونية الإدارة العمومية دون تطاول على الحظر المشار إليه. كما أنه في المادة الزجرية لم يكن يستساغ تحقق مخالفة معاقب عليها إذا كان القرار الإداري الذي تمت مخالفته لا أساس له من المشروعية.
ومع ذلك كانت الرقابة على شرعية القرارات الإدارية عن طريق الدفع بعدم الشرعية محدودة في غالب الأحيان في هذه المرحلة، حيث كان القاضي يقتصر على التحقق فقط من احترام أوجه المشروعية الخارجية وهي قواعد الشكل والاختصاص.
إلا أنه مع توالي العقود ولاسيما في الخمسينات من القرن الماضي، ذهب القضاء إلى أبعد ذلك وبسط رقابته على صحة القرارات الإدارية من جهة أوجه المشروعية الداخلية، أي عيوب السبب ومخالفة القانون والانحراف في استعمال السلطة، ونجد مثالا على ذلك في القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 24ـ2ـ1954، الذي جاء فيه على أنه "يتعين أن تنصب الرقابة القضائية ليس فحسب على المسائل المتعلقة بالشكل والأخطاء المادية للمقرر، ولكن أيضا على صحة الأسباب التي تستند إليها الجزاءات المتخذة من طرف الإدارة وعلى شرعية هذه الجزاءات"[2].

المطلب الثاني: الدفع بعدم الشرعية إنشاء المجلس الأعلى 1957ـ 1994

قبل إنشاء المجلس الأعلى سنة 1957 كان القضاء العادي قد درج من زمن بعيد على فحص شرعية القرارات الإدارية في الدعاوى الرامية إلى الحكم بالتعويض في حالة ما إذا كان الحكم بهذا التعويض مرتبط بتقدير شرعية القرار الإداري وذلك تماشيا مع المبدأ القانوني القائل أن قاضي الموضوع هو قاضي الدفع.
وكان الدفع بعدم الشرعية هي الوسيلة الوحيدة للمحاكم الابتدائية من أجل أن تقرر مسؤولية الإدارة عن أعمالها القانونية غير المشروعية ، إلا أنه بعد إنشاء المجلس الأعلى نشأت دعوى الإلغاء للمطالبة بإلغاء قرار إداري غير مشروع.
و قد قلص قانون إحداث المجلس هذا الاختصاص عن المحاكم العادية بعدما أصبح هو المختص لمراقبة مشروعية القرارات الإدارية عن طريق دعوى الإلغاء وهي دعوى توجه إلى الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى تسمى دعوى المشروعية أو دعوى الإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة.
وكان هناك توجه لبعض المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف بأن الدفع بالفحص هو محاولة لتجاوز أجل الطعن بالإلغاء وقضت أنه بعد إنشاء المجلس الأعلى أنه لم يعد متاحا الدفع بفحص الشرعية أمام المحاكم العادية، ويواجه هذا الرأي أن فوات أجل الطعن بالإلغاء الذي يختص به المجلس الأعلى لا يمنع المعني بالأمر من الحصول على تعويض عن القرار الإداري غير المشروع الذي تنظر فيها المحاكم العادية، بمعنى أنه يتم فحص الشرعية من جهة تقرير التعويض.
والقضاء المغربي قد سبق له أن بث في مثل هذه المسائل وذلك في قرار Bromet بورمي ضد الدولة المغربية المنشور بمجلة قرارات المجلس الأعلى الغرفة الإدارية سنة 61ـ60 (الصفحة 110) إذ جاء في القرار المذكور ما يلي: "حيث أن الفقرة الأولى من الفصل 8 من ظهير12/8/1913 حول التنظيم القضائي المغير بمقتضى ظهير 1/9/1928 تعطي للمحاكم المنشأة بمقتضى الظهير 12/8/1913 الاختصاص الكامل للنظر في دعاوى المسؤولية المرفوعة ضد الدولة أو أية إدارة عمومية بسبب أي قرار صادر عنها ونتج عنه ضرر للغير[3].
و حيث انه إذا كانت الفقرة الخامسة من نفس الفصل تمنع على هذه المحاكم البث في أي طلب رام إلى إلغاء قرار صادر عن إدارة عمومية فإنه ليست هناك أية مقتضيات تشريعية تمنع على هذه المحاكم فحص شرعية أي قرار إداري عندما يكون فحص هذه الشرعية ضروريا لتحديد مسؤولية الدولة أو الإدارة.
و حيث أن دعوى السيد بورومي لا يرمي موضوعها إلى إلغاء قرار السيد مدير الفلاحة والتجارة والغابات القاضي بإحالته على المعاش ..... ولكن ترمي إلى ترميم الضرر اللاحق به من جراء القرار المذكور وذلك في شكل تعويض ... .
وإن هذا الطلب المرفوع طبقا لمقتضيات الفقرة الأولى من الفصل الثامن أعلاه يدخل في اختصاص هذه المحاكم، وأن القرار الصادر بعدم اختصاص المحكمة للنظر في الطلب المذكور قد خرق هذه المقتضيات ويتعرض بالتالي للنقض.
وقد قدمت عدة ملاحظات حول هذا القرار كلها تسير في نفس الاتجاه الذي ذهب إليه وبينت على أنه من حق المحاكم العادية فحص شرعية القرارات الإدارية وخاصة الفردية منها، وأنه قد تمت الإشارة في هذه الملاحظات إلى قرارات صادرة عن محكمة الاستئناف بالرباط أعطت الحق للمحاكم بفحص شرعية القرارات الإدارية الفردية بمناسبة دعاوى التعويض الموجهة ضد الدولة ومن هذه القرارات:
القرار الصادر بتاريخ 13/4/1948 بين Rivolet ومدير الأشغال العمومية (منشور بمجموعة قرارات محكمة الاستئناف بالرباط لسنة 1948 الصفحة 446)؛
القرار الصادر بتاريخ 27/1/1956 بين الأملاك المخزنية و لارديل Lardel ؛
القرار الصادر بتاريخ 24/7/1957 بين الدولة ومطاحن باروك[4].
وقد أكد المجلس الأعلى ذلك في قراره عدد 144 في قضية بنزاكي ضد الدولة الصادر بتاريخ 18/5/1961 والذي جاء فيه ما يلي :"ليست هناك أية مقتضيات تمنع المحاكم المحدثة بمقتضى ظهير 1913 المختصة للبحث في دعاوى المسؤولية ضد الجماعات العمومية، من فحص شرعية قرار إداري "[5].
وانسجاما مع هذا الاتجاه، ذهب المجلس الأعلى في الحالة المخالفة التي قد تفضي فيها تقدير شرعية القرار إلى إبطاله، أي إلى نتيجة تعادل الإلغاء كما يتحقق في حالة القرار المتعلق بإقرار أو برفض الإقرار بوجود الحق في مبلغ مالي، إلى انه في مثل هذه الحالة يتعين استعمال دعوى الإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة، لأن دعوى التعويض ستؤدي إلى خرق الحضر الذي تضمنه الفصل 8 من ظهير التنظيم القضائي.
أما في المادة الزجرية، فإن المجلس الأعلى عمل على تضييق سلطات القاضي الزجري إلى أقصى حد، وذلك في قضية "إيف ماص" حيث قرر بأن تقدير شرعية القرارات الإدارية لا تكون ممكنة إلا في إطار الفقرة 11 من الفصل 609 من القانون الجنائي التي تنص على أنه "يتعرض للعقاب كل من خالف مرسوما أو قرارا صدر عن السلطة الإدارية بصورة قانونية".
وقد جاء في حيثيات هذا القرار "أنه لا يجوز للقاضي الزجري أن يراقب شرعية المراسيم و القرارات الإدارية المتخذة في المواد غير الجنحية و التي لا تدخل ضمن مقتضيات الفصل 609 و خاصة في بنده 11 من القانون الجنائي و أن الوثيقة المقدمة إلى السيد "ماص" لا تدخل ضمن المراسيم و المقررات التي نص عليها الفصل 609 وأن قضاة الاستئناف بقبولهم تقدير شرعيته قد تجاوزوا حدود سلطتهم وعرضوا بذلك حكمهم للنقض[6].
ويستنتج من هذه الحيثية أن المجلس الأعلى أقر منع القاضي الزجري من تقدير شرعية القرارات الإدارية إلا في حدود الفصل 609 من القانون الجنائي كما سبقت الإشارة.
وأنه في غياب دعوى التفسير لتلك الوثيقة هل هي مرسوم أم هي قرار إداري فردي، وأمام غياب جهة قضائية غير معينة قانونا للبث في موضوع الرسالة و أمام عدم بت محكمة الاستئناف في الموضوع و هي تبت في القضية الجزائية الأصلية، فإن ما ذهب إليه المجلس الأعلى من التماس السماح للسلطة الإدارية مصدرة القرار بإعطاء المعنى الحقيقي لتلك الوثيقة يعتبر غير مقنع مادام للقضاء كامل الصلاحية في التفسير والفحص اعتمادا على وثائق الملف و مستنداته و انطلاقا من مبادئ العدالة و الإنصاف[7].
وهذا يعني في الواقع أن يحال بين القاضي الزجري وبين كل إمكانية لفحص لشرعية القرارات الإدارية التي تكون أساسا قانونيا للمتابعات أو التي تتم إثارتها كوسيلة من وسائل الدفاع بعيدا عن المخالفات الضبطية، ونفس هذا الاتجاه سبق للمجلس أن قرره في قراراه المؤرخ في 9ـ12ـ1966.
وفي القرار الثاني الصادر في نفس القضية بتاريخ 26ـ11ـ1969، فض المجلس الأعلى قبول دعوى أصلية رامية لتقدير الشرعية بإحالة من إحدى المحاكم الدنيا أو بمبادرة رافع الدعوى، وهكذا ورد في القرار بأنه: "حيث يؤخذ من العريضة ومن الحكم الاستئنافي الصادر بتاريخ 21ـ9ـ1969، أن الطاعن يلتمس من المجلس الأعلى البت في مشروعية مقرر إداري وتفسير مدلوله بناء على طلب من المحكمة الزجرية.
وحيث إن المجلس الأعلى لا يختص بفحص مشروعية المقرارات الإدارية الفردية إلا بالنسبة للمنازعات التي يكون فيها حق الفصل نهائيا عن طريق دعوى الإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة، ولا يملك حق تفسير الغامض من هذه المقررات إلا في نطاق الدعوى المذكورة".
واستطرد القرار قائلا: " إذا كان المقرر الفردي واضح الدلالة لا يكتسيه أي غموض أو التباس، فمن البديهي أنه لا حاجة إلى تفسيره مطلقا، بل يجب على جميع المحاكم أن تطبقه حسب مدلوله الواضح. أما إذا كانت مقتضيات المقرر الفردي مبهمة، فيتعين على المحكمة المختصة بتطبيقه أن ترجئ البت في النزاع وتلتمس من السلطة الإدارية المصدرة للمقرر المذكور أن تدلها على المعني الحقيقي التي أرادت أن تعطيه لهذا المقرر عند إصدارها له، وأن سلوك هذه المسطرة القضائية يقتضيه حاليا عدم وجود دعوى التفسير "[8].

المبحث الثاني: فحص الشرعية بعد إحداث المحاكم الإدارية

سنتطرق في هذا المبحث إلى اختصاص المحاكم الإدارية بفحص شرعية القرارات الإدارية من مجرد دفع بالإحالة إلى دعوى مستقلة وتطورها بعد إحداث محاكم الاستئناف الإدارية.

المطلب الأول : اختصاص المحاكم الإدارية بفحص شرعية القرارات الإدارية

لقد أعطت المادة الثامنة من قانون 41-90 في فقرتها الأخيرة الاختصاص للمحاكم الإدارية وفق الشروط المنصوص عليها في المادة 44 من القانون المذكور، وأن المادة 44 هذه قد أشارت إلى ما يلي :
" إذا كان الحكم في قضية معروضة على محكمة عادية غير زجرية يتوقف على تقدير شرعية قرار إداري وكان النزاع في شرعية القرار جديا، يجب على المحكمة المثار ذلك أمامها أن تؤجل الحكم في القضية وتحيل تقدير شرعية القرار الإداري محل النزاع إلى المحكمة الإدارية أو إلى المجلس الأعلى بحسب اختصاص كل من هاتين الجهتين القضائيتين كما هو محدد في المادتين 8 و9 أعلاه، ويترتب على الإحالة رفع المسالة العارضة بقوة القانون إلى الجهة القضائية المحال إليها البت فيها.
للجهات القضائية الزجرية كامل الولاية لتقدير شرعية أي قرار إداري وقع التمسك به أمامها سواء باعتباره أساسا للمتابعة آو باعتباره وسيلة من وسائل الدفاع".
إلا أن قانون إحداث المحاكم الإدارية قد نزع هذا الاختصاص عن المحاكم المدنية إذ أنه في حالة الدفع أمامها بعدم شرعية القرار الإداري المؤسسة عليه الدعوى المرفوعة إليها فإنه يتعين عليها أن توقف البت في النزاع المعروض عليها وتحيل تقدير هذه الشرعية على المحكمة الإدارية المختصة أو على المجلس الأعلى حسب الأحوال، ولا يمكنها إطلاقا البت في النزاع المعروض عليها إلا بعد أن تقدر الجهة القضائية الإدارية شرعية أو عدم شرعية القرار المؤسس عليه الدعوى.
وعليه، يطرح التساؤل التالي: لماذا سلب هذا الاختصاص من المحاكم العادية ؟ الجواب أنه قبل إحداث المحاكم الإدارية كانت تستعمل هذه الآلية لتقدير الشرعية من أجل الحكم بالتعويض في دعاوى المسؤولية وترتيب التعويض عن نشاط أشخاص القانون العام، ولكن بوجود نص المادة 44 فأصبحت دعاوى التعويض بما فيها التعويض عن قرار إداري غير مشروع من اختصاص المحاكم الإدارية.
والإمكانية الوحيدة هي الإحالة من المحكمة الابتدائية العادية عند إثارته عدم مشروعية قرار إداري في قضية أو نزاع مدني، بعدما أصبح هناك قضاء مختص لمناقشة وفحص قرار إداري إلغاءا وفحصا احتراما لمبدأ الاختصاص النوعي، فأصبح من الطبيعي أن يتم الإحالة بالدفع على المحكمة الإدارية لكي تبت في شرعيته، ويتوقف البت في القضية المدنية المعروضة على المحاكم المدنية.
والمحكمة الإدارية بعد إحالة الدفع بمشروعية قرار إداري تبت في الدفع كما في الإلغاء وتصرح إما بشرعيته أو عدم شرعيته أو تصرح أنه قرار إداري أو أنه ليس قرار إداري، لأن فحص شرعية هذا القرار يتوقف عليه البت في النزاع الأصلي.
إن الإحالة من طرف قاضي المستعجلات أمام محكمة عادية بفحص شرعية قرار إداري حينما عرض عليه دفع بفحص الشرعية، يعد مساسا بالجوهر وخارج عن اختصاصه، لأنه لا يجوز لقاضي المستعجلات المدنية الإحالة بالدفع المذكور أمام المحاكم الإدارية لأنه بعلة مساسه بالجوهر.
ـ فلجوء قاضي المستعجلات العادي إلى إحالة الملف على المحكمة الإدارية في نطاق الفصل 44 المذكور للبت في شرعية القرار الإداري يعني أنه يطلب من المحكمة الإدارية الفصل فيما إذا كان عمل الإدارة داخلا في إطار القانون أم لا.
ـ البت في شرعية المقرر المذكور يعني الفصل قبل الأوان في موضوع الحق والتطاول على اختصاص قاضي الموضوع وغل يده (قرار الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى عدد 30 بتاريخ 21 يناير 1999، الملف الإداري عدد 95/1/5/684.[9]
أما الإحالة بالدفع من طرف المحاكم العادية من أجل فحص شرعية قرار إداري أمام المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) لأنها مختصة طبقا للمادة 9 من القانون 90-41 المحدث للمحاكم الإدارية بالبت في ابتدائيا وانتهائيا في طلبات الإلغاء بسبب تجاوز السلطة المتعلقة ب: مقررات التنظيمية والفردية الصادرة عن الوزير الأول، وقرارات السلطات الإدارية التي يتعدى نطاق تنفيذها دائرة الاختصاص المحلي لمحكمة إدارية، وبتالي يرجع لها الاختصاص بالدفع بعدم مشروعية قرار إداري.
والمادة 44 استثنت القضاء الزجري من وجوب إحالة الدفع بعدم الشرعية على القضاء الإداري للبت فيه، وغاية في إعطاء المشرع الاختصاص للمحاكم الزجرية لتقدير مشروعية القرارات الإدارية هو أن حرية الأشخاص لا يمكن أن تبقى رهينة إلى حين البت في هذه الشرعية من طرف المحاكم الإدارية، وأن القضايا الجنائية تقتضي السرعة في البت لكونها مقيدة بالحرية الشخصية وأنه لا يمكن أن يبقى الشخص مثلا رهن الاعتقال إلى حين البت في دفع هو أساس المتابعة المعتقل من أجلها، لذلك فإن إعطاء الحق للمحاكم الزجرية لتقدير شرعية القرارات الإدارية المذكورة فيه ضمانات لحقوق المواطنين وينسجم مع الأهداف التي من شأنها أنشئت المحاكم الإدارية[10].
بعد التعرض للدفع بفحص الشرعية بعد الإحالة من المحاكم المدنية، سنتطرق لدعوى فحص الشرعية بصورة مستقلة، فقبل إحداث المحاكم الإدارية كان هناك فقط الدفع بعدم الشرعية ولم يكن يتصور الحديث عن دعوى فحص الشرعية كدعوى مستقلة، يطلب بموجها المعني بالأمر التصريح بعدم شرعية قرار إداري أمام المحاكم الإدارية فقط ولا يطلب إلغاءه.
وقد ذهب بعض الفقه إلى التساؤل، هل يمكن فحص شرعية قرار إداري لم يعد قابلا للطعن بالإلغاء وهنا وقع تأرجح للمحاكم الإدارية بين اتجاهين، هل يمكن قبول الدعوى أم عدم قبولها لعدم وجود نص قانوني ينظمها.
الاتجاه الأول: يقول بعدم جواز إطلاق وصف الدعوى على مسطرة فحص الشرعية التي تبت فيها المحكمة الإدارية طالما أنه ليس هناك مقال مستقل بذلك الطلب ويكون منتهاه تقدير شرعية قرار إداري، وإنما هو مجرد دفع عارض يثار أمام جهة قضائية استلزمت قواعد الاختصاص النوعي سلب الصلاحية عنها من أجل البت فيه، وإلزامها بإحالته على جهة القضاء الإداري الذي يرجع إليه البت في جميع المنازعات الإدارية.
وفي مقدمتها دعاوى الإلغاء التي تعتبر مسطرة فحص الشرعية إلا جزءا متفرعا عنها، بالنظر أن موضوعهما واحد هو تقدير شرعية القرار الإداري مع اختلاف النتائج في كليهما، إذ هي في الأولى إلغاء القرار المطعون فيه بسبب عدم مشروعيته واعتباره كأن لم يصدر، وفي الثانية تقتصر على استبعاد تطبيقه في النازلة المعروضة التي كانت سببا في إثارة الدفع[11].
وحسب وجهة هذا الرأي فصياغة الدفع في صورة طلب مستقل أمام المحكمة الإدارية، إنما هو فقط تحايل على دعوى الإلغاء لأنه كيف يمكن لشخص فاته أجل الطعن بالإلغاء لمراقبة المشروعية ويلجأ بعد ذلك إلى المحكمة الإدارية من أجل التحايل والقفز على دعوى الإلغاء التي فاته أجلها وأن يطلب فحص المشروعية لمصلحته لأن القرار سيبقى نهائي ولن يلغى إنما فقط التصريح بعدم مشروعيته.
وهذا ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية بالدار البيضاء في حكم صادر عنها بتاريخ 1ـ3ـ2004 في الملف عدد 11/2003غ، إلى أن "دعوى فحص شرعية قرار إداري لا يمكن عرضها على القضاء الإداري إلا في إطار المسطرة المنصوص عليها في المادة 44 من القانون رقم 90ـ41، وأن تقديم المدعي لهذه الدعوى مباشرة أمام المحكمة الإدارية يعد إخلالا شكليا يبرر التصريح بعدم قبول دعواه".
وفي نفس المنحى ذهب حكم للمحكمة الإدارية بالرباط عدد 3927 بتاريخ 25/10/2012 في الملف رقم 3/6/2012 حيث رفض دعوى فحص الشرعية مقدمة بصورة مستلقة بعلة أن طلب فحص الشرعية هو مجرد مسألة عارضة تثار حينما يكون البت في القضية المعروضة على المحكمة العادية غبر الزجرية متوقفا على تقدير شرعية قرار إداري، وبتالي لا تقبل الدعوى المستقلة بفحص شرعية القرار الإداري المرفوعة مباشرة أمام المحكمة الإدارية والغير مؤيدة بطلب التعويض[12]. وأيضا في حكم أخر صادر عن نفس المحكمة رقم 287، بتاريخ 31/1/2013 في الملف رقم 4/6/2012.
فيما ذهبت باقي المحاكم الإدارية إلى رأي مغاير باعتبار أنه لا يمنع المعني بالأمر من رفع دعوى يطلب فيها فحص الشرعية بدعوى مستقلة، وأن يلتمس من المحكمة أن تصرح له فقط أن القرار الصادر ضده كان غير مشروع لأن المصلحة أدبية ومرتبطة بكرامة الطاعن وتعيد له اعتباره أكثر مما تمنحه إياه المصلحة المادية.
فإذا رفعت دعوى مستقلة أمام المحكمة الإدارية بفحص شرعية قرار إداري تصدر حكما مستقلا تصرح فيه: إما بعدم شرعيته أو رفض الطلب، وفي حكم للمحكمة الإدارية بالرباط عدد 1214في الملف عدد560/06 ش ف بتاريخ 05/10/2006 عند فحصها لشرعية قرار إداري تمسك الطاعن بأن القرار لا يستند إلى سبب صحيح والحال أن القرار الصادر عن الإدارة كان قرار مشروع، فصرح برفض الطلب.
فالقاضي هنا يمارس اختصاص التفسير دون البت في جوهر النازلة، وذلك خروجا عن القاعدة العامة التي تقضي بأن مهمة القاضي تنحصر في فض النزاع المعروض عليه وليس إعطاء الرأي وهو لا يقوم بهذه المهمة إلا بمناسبة البحث عن حل للنزاع المعروض عليه[13].
وهكذا فإن فحص شرعية القرارات الإدارية تتولاه ثلاث جهات قضائية: المحاكم الإدارية، المجلس الأعلى، والمحاكم الزجرية طبقا للمادة 44 من القانون 90ـ41 المحدث للماكم الإدارية وسواء كان بناء على طلب مستقل قدم مباشرة أمامها طبقا لما استقر عليه الاجتهاد القضائي في هذا الشأن، أو عن طريق مسطرة الإحالة من المحاكم المدنية.

المطلب الثاني: إقصاء قرارات تقدير الشرعية في مرحلة النقض

بصدور القانون رقم 80ـ03 المحدث بموجبه محاكم الاستئناف الإدارية[14] جاءت المادة 16 منه والمتعلقة بالطعن بالنقض ضد الحكم الصادر في المنازعات المتعلقة بتقدير شرعية القرار الإداري " تكون القرارات الصادرة عن محاكم الاستئناف الإدارية بالنقض أمام المجلس الأعلى ما عدا القرارات الصادرة في تقدير شرعية القرارات الإدارية، يحدد أجل الطعن بالنقض في 30 يوما من تاريخ تبليغ القرار المطعون فيه "[15].
حسب هذه المادة فالحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بفحص شرعية قرار إداري يستأنف أمام محاكم الاستئناف الإدارية ولا يقبل الطعن بالنقض. والسؤال المطروح: المحكمة الإدارية عندما تصدر حكما في فحص الشرعية هل تعيد الإحالة على المحكمة الأصلية أم تنظر الاستئناف؟
أقر الاجتهاد القضائي وجوب تبليغ حكم بفحص الشرعية إلى الأطراف المعنية ومنحها أجل الثلاثين يوما للاستئناف لتبت في استئناف فحص الشرعية، أما إذا لم يتم الاستئناف فالمحكمة الإدارية ترجع الملف إلى المحكمة الأصلية.
فتقدير الشرعية هو الجواب الأولي الذي يمكن القاضي من النظر في الدعوى الأصلية، وبذلك فالقاضي عندما يدفع أمامه أحد الأطراف بعدم شرعية القرار أو تصرف صادر عن الإدارة، فإنه في البداية يقوم بالنظر بشرعية ذلك القرار أو التصرف. بمعنى أن القاضي يجيب على التساؤل التالي: 
هل تصرف الإدارة يعتبر مشروعا أم لا ؟ ليتسنى له بعد ذلك الاستمرار في البت في الدعوى الأصلية ؟ وبذلك فقاضي فحص الشرعية يستبعد تطبيق أي قرارا إداري غير شرعي معتمد عليه من طرف الإداري في الدعوى المعروضة أمامه.[16]
إننا نعتقد أن استثناء المشرع لقضايا فحص الشرعية من الطعن بالنقض وإن كان يوقف التقاضي في هذا النوع من القضاء عند درجة الاستئناف، مع ما يمكن أن يقال عن ذلك من الحد من ضمان حقوق المتقاضين في النقض، إلى أن تمت مبررين يمكن الاقتناع بهما كوسيلتين لتبرير موقف المشرع القاضي بوقف مسألة النظر في قضايا تقدير شرعية القرارات الإدارية في مرحلة الاستئناف:
ـ المبرر الأول: يتمثل في كون المجلس الأعلى سابقا لم يعتبر محكمة نقض بالوجه المطلوب، وبالتالي فهو لا يشكل درجة ثالثة من درجات التقاضي لكي يتم البت في جوهر النزاع أمامه، فسلطته تقتصر عل البحث في مدى موافقة الحكم المطعون فيه للقانون أو خروجه عن المبادئ والنصوص القانونية.
كما أن تقدير الشرعية يقوم به القاضي المختص بالنظر بالدعوى كلما أثير الدفع بعدم الشرعية أمامه قبل البت في جوهر النزاع. هذا فضلا عن كون محكمة النقض تعتبر محكمة قانون وليس محكمة موضوع.
ـ المبرر الثاني: يتمثل في كون المحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإداري هي محاكم موضوع، أي المحاكم التي تنظر في وقائع النزاع وحيثياته بما لها من سلطة تقديرية واسعة، وهي فذا الإطار لا تخضع لرقابة المجلس الأعلى، فمحاكم الموضوع إذا هي الأولى بالبت في قضايا فحص شرعية القرارات الإدارية، لارتباط هذه القرارات في حد ذاتها بموضوع الدعوى الأصلي الذي تنظر فيه هذه المحاكم.[17]
وعلى الرغم من هذه المبررات التي تبدو في اعتقادنا منطقية فإن نظر المجلس الأعلى ـمحكمة النقض حالياـ في قضايا فحص شرعية القرارات الإدارية كجهة نقض قد تمليه بعض المبررات، فالمجلس الأعلى حينما يبت في الأحكام المستأنفة عن محاكم الاستئناف الإدارية نقضا، فإنه قد يتجاوز حدود النظر فيما هو قانوني مرتبط بتكييف الوقائع ومدى ملائمتها. وهذا في اعتقادنا يتماشى مع دور المجلس الأعلى كمحكمة نقض في القضايا الإدارية، باعتباره موجها للمحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية، ومنسق فيما بينها، وموحدا للاجتهادات القضائية الصادرة عنها. ولعل هذا يرتبط بالوظيفة الأساسية للقاضي الإداري التي تتمثل في خلق الحلول القضائية للقضايا المستعصية على محاكم الدرجة الأولى والدرجة الثانية.
وثمة مبرر آخر يتمثل في كون قضاء فحص الشرعية قضاء يرتبط بضمان الحقوق وحماية الحريات، لذلك نعتقد من الأولى أن تكون أعلى هيئة قضائية في البلاد هي الساهر الأول على ضمان واحترام هذه الحقوق والحريات، لذلك يمكن القول أن المجلس الأعلى وانطلاقا من ضرورة بته في قضايا فحص الشرعية كجهة نقض، يعتبر أهم ضمانة قضائية لتقويم اعوجاج ما يصدر من محاكم الدرجتين الأولى والثانية.
وفي نفس الوقت يشكل مرجعا لهذه المحاكم في إحقاق العدل والحق في دولة القانون. وهو في بته في هذه القضايا كمحكمة نقض يعتبر أيضا أسمى وأهم ضمانة قضائية لحماية حقوق المتقاضين[18].

خـاتـمـــــــــــــة :
من خلال ما سبق يتبين أن فحص شرعية القرارات الإدارية تتولاه عدة جهات قضائية، المحاكم الإدارية ومحكمة النقض كل في حدود اختصاصه سواء كان بناء على طلب مستقل أو عن طريق الإحالة من طرف المحاكم المدنية حسب المادة 44 من قانون 41/90، ثم هناك المحاكم الزجرية التي لها كامل الصلاحية في تقدير شرعية جميع القرارات الإدارية و ذلك طبقا لمقتضيات الفقرة الأخيرة من المادة 44 من قانون 41/90.
لذلك فان القاضي سواء الزجري أو الإداري ينظر في مدى شرعية القرار الإداري موضوع الدعوى، لكي يتمكن بعد ذلك من الاستمرار في النظر في الدعوى الأصلية، فإذا تبين له عدم شرعية القرار الإداري المعروض عليه استبعد تطبيقه، أما إذا تأكد من شرعيته فانه يستمر بعد ذلك في الدعوى الأصلية.
ولذلك فإنه يمكن القول أن فحص شرعية القرارات الإدارية سواء عن طريق الإحالة من المحاكم العادية (المدنية) أو بناء على طلبات مستقلة مقدمة من طرف ذوي الشأن، تعد مكملا أساسيا للرقابة القضائية على أعمال الإدارة المجسدة في شكل قرارات إدارية، فدعوى فحص الشرعية ودعوى الإلغاء ودعوى إيقاف تنفيذ القرارات الإدارية هي كلها ضمانات أساسية من أجل صون وحماية مبدأ المشروعية وبالتالي المصلحة العامة.
---------------------------
لائحة المراجع :

- الكتب :
- حسن صحيب :القضاء الإداري المغربي، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية :سلسلة "مؤلفات و أعمال الجامعية "عدد 80 ،2008 .
- عبد الله حداد :دليل الدعوى غير الإدارية في القانون المغربي، منشورات عكاظ، الرباط، نونبر 2002.
- عبد الوهاب رافع،جليلة البشيري توفيق، الدعاوى الإدارية في التشريع المغربي، المطبعة الوراقة الوطنية، الطبعة الأولى، 1998.
- مليكة الصروخ، مشروعية القرارات الإدارية، مطبعة دار القلم ،الطبعة الأولى 2011
- المنتقى من عمل القضاء في المنازعات الإدارية، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، الرباط، يوليوز 2010.

- المقالات :
- رضا التايدي :طلب فحص الشرعية من مجرد دفع إلي دعوى مستقلة ،المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية، "سلسلة مواضيع الساعة" عدد55، 2007.
- حسن صحيب، إشكالية تحديد الاختصاص بين محاكم الاستئناف الإدارية والمجلس الأعلى، ، طلب فحص الشرعية من مجرد دفع إلى دعوى مستقلة، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة "مواضيع الساعة"، عدد 55، 2007
---------------------------
الهوامش : 

[1] مليكة الصروخ، مشروعية القرارات الإدارية، مطبعة دار القلم، الطبعة الأولى، 2011، ص 27.
[2] رضا التايدي، طلب فحص الشرعية من مجرد دفع إلى دعوى مستقلة، مرجع سابق، ص ص 98ـ 99.
[3] عبد الوهاب رافع و جليلة البشيري توفيق، الدعاوى الإدارية في التشريع المغربي، المطبعة الوراقة الوطنية، الطبعة الأولى، 1998، ص 32
[4] ذكره عبد الوهاب رافع و جليلة البشيري توفيق، مرجع سابق، ص 33
[5] قرار منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى لسنة 60-61 الصفحة 131. ذكره عبد الوهاب رافع و جليلة البشيري توفيق، الدعاوى الإدارية في التشريع المغربي، المطبعة الوراقة الوطنية، الطبعة الأولى، 1998، ص 34
[6] حسن صحيب، القضاء الإداري المغربي، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية، سلسلة "مؤلفات و أعمال الجامعية "، عدد 80،2008، ص 532.
[7] حسن صحيب :القضاء الإداري المغربي ،منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية :سلسلة "مؤلفات و أعمال الجامعية "عدد 80 ،2008 ص526.
[8] رضا التايدي، مرجع سابق، ص 99.
[9] المنتقى من عمل القضاء في المنازعات الإدارية، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، الرباط، يوليوز 2010، ص ص 10 11.
[10] عبد الوهاب رافع و جليلة البشيري توفيق، الدعاوى الإدارية في التشريع المغربي، المطبعة الوراقة الوطنية، الطبعة الأولى، 1998، ص 33 ص 35.
[11] رضا التايدي، مرجع سابق، ص102.
[12] يراجع في نفس الاتجاه، قرار محكمة النقض عدد، 366 بتاريخ 5/5/2011 ، مجلة محكمة النقض عدد 75 ص 285.
[13] عبد الوهاب رافع و جليلة البشيري توفيق، الدعاوى الإدارية في التشريع المغربي، المطبعة الوراقة الوطنية، الطبعة الأولى، 1998، ص 35
[14] الظهير الشريف رقم 07ـ06ـ1 بتاريخ 14 فبراير 2006، الجريدة الرسمية عدد 5398 بتاريخ 23 فبراير 2006.
[15] تم تغيير أحكام المدة 16 أعلاه بمقتضى مشروع قانون رقم 46ـ08 بتغيير القانون رقم 80ـ03 المحدثة بموجبه محاكم الاستئناف الإدارية كما وافق عليه مجلس النواب ومجلس المستشارين.
[16] حسن صحيب، إشكالية تحديد الاختصاص بين محاكم الاستئناف الإدارية والمجلس الأعلى، ، طلب فحص الشرعية من مجرد دفع إلى دعوى مستقلة، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة "مواضيع الساعة"، عدد 55، 2007، ص68.
[17] ، حسن صحيب، مرجع سابق، ص 68.
[18] حسن صحيب، مرجع سابق، ص 69.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -