دور التوثيق في تعزيز الإستثمار

 مقال  بعنوان: دور التوثيق في تعزيز الإستثمار

دور التوثيق في تعزيز الاستثمار
أيوب لعزيري
من إنجاز الطالب : أيوب لعزيري 
باحث بسلك الماستر القانون المدني والتجاري

مقدمة :
إن مهنة التوثيق تحتل مكانة متميزة ضمن المهن القانونية ، التي تزاول في إطار مساعدي القضاء، لدورها المحوري في توفير الأمن التعاقدي للمواطنين وحماية مراكزهم القانونية واستقرار معاملاتهم واحترام العهود والمساهمة في التنمية الاقتصادية.وقد فرضت حاجيات الإنسان المتعددة منذ القدم وحتى يومنا هذا في تعاقداتهم الشخصية المدنية والمالية ، ولا تقع فيه الأطراف المتعاقدة من إنكار لتعهداتها وإهدار للحقوق وضياعها ، البحث عن وسائل وقائية تثبت وتحصن حقوقهم وهو ما لن يتأتى إلا بوجود شخص الموثق في إضفاءه الصبغة الرسمية على عقودهم وتأمين ركائز السلم القانوني وذلك بتوفير عدالة وقائية تشيع الأمن التعاقدي بين الأطراف المتعاقدة[1] . فمنذ حصول المغرب على استقلاله ومهني التوثيق يطالبون الدولة بمؤسساتها الدستورية من أجل التدخل لإصلاح القانون المنظم لمهنة التوثيق ذو الجذور الفرنسية ل 4 ماي 1925 والذي يجد أصله في قانون فانتوز الروماني ، والذي أصبح متجاوزا بحكم الواقع الجديد ومتعارضا مع قوانين المغرب الداخلية ونظامه العام ، وذلك بتعويضه بقانون توثيق مغربي يراعي أعراف البيئة المغربية ويساير التطور التنموي الذي بدأ يشهده المغرب في السنوات الأخيرة ، الأمر الذي جعل الانتقاد سمته الأساس خاصة وانه لم يعد ينسج تطلعات أسرة التوثيق وكافة المتدخلين في المجال القانوني وقصوره موائمة الدينامية التي يعرفها المغرب في ميادينه الاجتماعية الاقتصادية التشريعية والتعاقدية ، سيما وفي ظل مكانة الموثق كأحد أهم روافد إصلاح القضاء وخدماته في تخفيف العبء على المحاكم وتوتي حدوث النزاع حولها ، أو من خلال توفيره لجو من السلم القانوني وحفظ التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين المتعاقدين[2]
وباعتبار المغرب العضو الفاعل في المواثيق الدولية وفي مقدمتها الاتحاد الدولي للتوثيق اللاتيني[3] والتزامه بما تقتضيه مضامينه ، واستجابة لحاجيات العصر ومتطلبات التنمية الشاملة وفي ظل تحديات العولمة والتطورات التي فرضها النظام العالمي الجديد ، والتوجه التشريعي لإصلاح منظومة العدالة ، ثم إحداث قانون توثيقي مغربي جديد يلبي انتظارات الممتهنين وعلى وجه الخصوص الموثقين وفي جعل من هذا الأخير شخصا يوفر عدالة وقائية تشارك العدالة الرسمية في تحصين حقوق الأفراد وتامين ركائز السلم القانوني والعدالة الوقائية داخل المجتمع[4] وبالتالي تحقيق الأمن التعاقدي وإشاعته بين الأطراف المتعاقدة ، والذي يعتبر فيه الموثق رکنا هاما في تحقيق التنمية ورافدا من روافد تشجيع الاستثمارات الأجنبية والوطنية وتخليق التجارة التعاقدية واستقرار المعاملات[5].
وبما أنه لا يمكن أن ننطلق في تحليل هذا الموضوع دون بسط تعريف لمصطلح الاستثمار . والذي يعرف بأنه إضافة طاقات إنتاجية جديدة إلى الأصول الإنتاجية الموجودة في المجتمع بإنشاء مشروعات جديدة أو التوسع في مشروعات قائمة، أو إحلال أو تجديد مشروعات انتهى عمرها الافتراضي، وكذلك شراء الأوراق المالية المصدرة لإنشاء مشروعات جديدة[6].
ونظرا للمسؤولية التي يضطلع بها الموثق في تحرير العقود الرسمية كان لنا لا بد من تناول هذه الأخيرة لمعرفة مدى مساهمة الوثيقة الرسمية الصادرة عن الموثق في تعزيز الاستثمار ، بالإضافة إلى التطرق إلى توثيق التصرفات العقارية ، نظرا لما للأهمية بما كان للعقار ودوره الحيوي في تنشيط الدورة الاقتصادية وجلب الاستثمار وخلق فرص الشغل .
وبذلك يمكن طرح إشكال حول هذا الموضوع والمثمتل في ما يلي :
ما مدى مساهمة التوثيق في تعزيز الاستثمار ؟
وهو الأشكال الذي تتفرع عنه مجموعة من الأسئلة من قبيل :
ما هي القوة التبوتية والتنفيذية للوثيقة الرسمية الصادرة عن الموثق ؟ وما دورها في تعزيز الاستثمار ؟
ما دو الموثق في تحرير التصرفات العقارية ؟ وما هي فعالية توثيق التصرفات العقارية في تعزيز الاستثمار ؟

وهي أسئلة وأخرى نجيب عنها وفق التصميم الأتي :

المطلب الأول : الوثيقة الرسمية آلية لتعزيز الاستثمار
الفقرة الأولى : القوة الثبوتية للوثيقة الرسمية
الفقرة الثانية : القوة التنفيذية للوثيقة الرسمية
المطلب الثاني : التوثيق وضمانات تعزيز الاستثمار
الفقرة الأولى : توثيق التصرفات العقارية
الفقرة الثانية : فعالية توثيق التصرفات العقارية في تعزيز الاستثمار



المطلب الأول : المحررات الرسمية آلية لتعزيز الاستثمار

تلعب المحررات الرسمية دورا مهما في تحقيق الاستقرار لمختلف المعاملات المجرات بشأنها ، حيت أنها تكسب التصرف القوة التبوتية والتنفيذية وتكون حجة قاطعة حتى على الغير في الوقائع والاتفاقات التي يشهد الموظف العمومي الذي حررها في محضره ، فالكتابة كنظام توثيقي له مكانة مهمة في تصرفات الأفراد ، فهو دليل على قيام الاتفاق والالتزام ودليل على تنفيذ ما تم التعاقد بشأنه ، مما ينعكس على مكانة الاستثمار داخل الدولة ويبعث الأمن والاطمئنان في نفوس الأفراد ، من ملاك ومنعشين ومقترضين وغيرهم ، نتطرق في الفقرة الأولى للقوة التبوتية للوثيقة الرسمية على أن نتطرق في الفقرة الثانية لقوتها التنفيذية.

الفقرة الأولى : القوة الثبوتية للوثيقة الرسمية

إذا كان المشرع المغربي حصر في الفصل 404 من ق.ل.ع وسائل الإثبات في خمسة وسائل ، وأضاف وسيلتين للإثبات في قانون المسطرة المدنية ، فإن الدليل الكتابي يبقى سید الأدلة ؛ باعتباره يمتاز عن غيره من الأدلة بإمكانية إعداده منذ نشوء الحق قبل النزاع ، كما يثبت الحقوق القائمة والمتبادلة قبل وقوع النزاع ، وبالتالي لا يطالها النسيان أو التزوير ، أو التلف کا هو الشأن بالنسبة لوسائل الإثبات الأخرى .[7]
وبتفحص الفصلين 414 و 420 من ق.ل.ع يتبين أن المحررات التوثيقية بنوعيها - العدلية والعصرية - التي حررت بطريقة سليمة ووفق الشكل المطلوب قانونا تثبت لها صفة الرسمية ، مما تكون لها حجة قاطعة في الإثبات من غير الالتفات إلى إقرار الطرف الملتزم بنسبتها إليه ، ولا يمكن الطعن في شكلها أو مضمونها أو توقيعها إلا عن طريق إدعاء الزور. [8]
وبالتأمل في الفصلين المذكورين يتبين أن الوثيقتين تتضمن بیانات وشكليات التي تعتبر من ضوابط الوثيقة ، والتي يمكن تصنيفها إلى صنفين ، بيانات عامة والتي تضمن في سائر أنواع العقود الصادرة عنه حتى تكون وثيقة صحيحة كذكر البيانات المحددة لهوية الأطراف وصفاتهم ، ورقم مذكرة الحفظ بالنسبة للوثيقة العدلية والعدد التابع وغيرها من البيانات التي تعتبر شروط شكلية يجب التقيد بها لكي تكون صحيحة ، وهناك بيانات خاصة تتعلق بكل وثيقة بالذات ، وهي بيانات عن الأمور التي وقعت من ذوي الشأن في حضوره ، أو أثبتها في الوثيقة بعد أن أدركها بالسمع والبصر.[9]
فبالنسبة للوثيقة الصادرة عن الموثق العصري تكتسب صفة الرسمية بمجرد توقيعه على المحرر مباشرة بعد أخذ توقيع أطراف العقد ، ولا يمكن لأي كان أن ينكر شيئا مما جاء بها ، لا من حيث مضمونها ولا من حيث توقيعات الموقعين عليها ، ولا من حيث حصولها أمام الجهة المختصة بتحريرها ، وذلك للثقة التي وضعها المشرع في هؤلاء ، ولا يمكن لأي شخص أن يمس هذه الثقة إلا أن يدعي أن المحرر کان مزور من قبل الموثق ، لذلك تكون للوثيقة الرسمية حجية في الإثبات حتى يطعن فيها بالزور.[10]
وإذا كانت الوثيقة الصادرة عن الموثق العصري تكتسب حجية قاطعة في الاتبات بمجرد توقيه عليها ، فإن الوثيقة العدلية لا تكتسب هذه الحجية إلا من اللحظة التي يخاطب فيها القاضي المكلف بالتوثيق عليها كما سبق الذكر.[11]
وهنا يتبين أن المحررات الرسمية تتمتع بالحجية القاطعة سواء المحررات العدلية الصادرة عن العدول بعد المخاطبة عليها أو المحررات الرسمية الصادرة عن الموثقين ، وذلك للثقة التي خولها لها المشرع ، مما يعني أن إنكار حجية المحررات الرسمية فيه مس بهذه الثقة بل والأمانة التي وضعها المشرع في محرري هذا النوع من المحررات ، الشيء الذي أدى إلى إلزام مدعي الزور بإتباع مسطرة دعوى الزور ، وذلك حفاظا على ثقة وأمانة المؤسسة التوثيقية بالمغرب .[12]
إن القوة التبوتية للمحرر الرسمي تجعله يضلع بدور مهم في تعزيز وجلب الاستثمارات الخارجية ، نظرا لما يوفره من حماية للمتعاقد حول أمواله ، فهو يكون في مأمن تام بأن هذه الوثيقة تثبت حقوقه المضمنة بها ، والتي لا يمكن الطعن في صحتها إلا عن طريق الزور الفرعي .غير أن هذه الضمانة غير كافية لتعزيز الاستثمار كما أثبت ذلك الواقع العملي حيت أن الطرف بمجرد ما يطعن في الوثيقة التي يتوقف عليها البث في الدعوى المدنية بالزور لا يخلو الأمر من صورتين[13]:
الصورة الأولى : وهي أن يقوم هذا الطرف بإثارة الزور أمام القاضي المدني ، وهنا يقوم هذا الأخير بإيقاف البت في الدعوى و بإجراء خبرة خطية على الوثيقة المدعى فيها بالزور و ذلك في إطار مسطرة الزور الفرعي ، ولا تستأنف الدعوى المدنية من جديد إلا بعد رجوع نتيجة الخبرة و التأكد من عدم زورية المحرر.
الصورة الثانية : وهي أن يتقدم الطرف المدعى عليه في الدعوى المدنية و المتمسك في مواجهته بالمحرر الرسمي بشكاية من أجل الزور أمام النيابة العامة في هذا المحرر وقيام هذه الأخيرة بمتابعة المشتكى به ، فإن المحكمة المدنية في هذه الحالة و بمجرد الإدلاء أمامها بما يفيد وجود متابعة تتعلق بزورية المحرر الرسمي الذي يستند عليه الحكم في الدعوى المدنية توقف البت في النزاع إلى حين صدور قرار نهائي عن المحكمة الجنائية إعمالا للقاعدة الأصولية التي تقضي بأن الجنائي يعقل المدني .
ولا شك أن هذا الوضع يترتب عليه ضرر كبير للمتعاقد ، سيما إذا كان الطرف المتمسك بالزور سيء النية ، و تمسك بالزور لإطالة الدعوى فقط. [14]

الفقرة الثانية : القوة التنفيذية للوثيقة الرسمية

تتوفر الوثائق الرسمية على مزية النفاذ المعجل القضائي الوجوبي عند الاستناد عليها في دعوى قضائية ، وهذا ما نصت عليه الفقرة الأولى من الفصل 147 من قانون المسطرة المدنية إذ جاء فيها '' يجب أن يؤمر بالتنفيذ المعجل رغم التعرض أو الاستئناف دون كفالة إذا كان هناك سند رسمي أو تعهد معترف به ، أو حكم سابق غير مستأنف'' ، ويعتبر العقد المحرر من طرف الموثق و العدول محرر رسميا طبقا للمواد المشار إليها أعلاه. [15]
و إذا ما انفتحنا على بعض التشريعات المقارنة نجدها تعتبر المحررات الرسمية سندات تنفيذية ، بحيث تخول لأصحابها اللجوء مباشرة إلى مصلحة التنفيذ دون حاجة لاستصدار حكم قضائي بذلك ، ومن ذلك نجد القانون المصري ، إذ أجاز للموثق تسليم الصور التنفيذية[16] ، إلا أن المشرع المغربي لم يأخذ بفكرة المحررات التنفيذية كقاعدة عامة في قانون المسطرة المدنية ، إذ لم يتعرض إلى التنفيذ التلقائي بواسطة المحررات التوثيقية ، بل أوجب على أصحاب هذه المحررات اللجوء إلى القضاء ومراجعته لاستصدار الأحكام من أجل تنفيذها ، وحتى إن وجدت محررات رسمية واجبة التنفيذ ، فإنها تكون بمقتضى نصوص خاصة.[17]
إلا أنه بخصوص الحالة التي يؤمر بموجبها بالتنفيذ المعجل ، فإن المحررات الرسمية رغم عدم كونها سندات تنفيذية ، فإنها تخول لذوي الشأن اللجوء مباشرة إلى مصلحة التنفيذ لاستیفاء حقوقهم من غير انتظار استصدار حكم قضائي بذلك –الفصل 147 من ق م م - ، وهذا المقتضى أخذ بعين الإعتبار مصلحة الأشخاص الذين يكون بحوزتهم أدلة إثبات قوية تثبت حقوقهم المتمثلة هنا في الورقة أو السند الرسمي ، وذلك تحت شرط عدم الطعن فيها بالزور .[18]
وبذلك يكون المشرع خطى خطوة مهمة في تعزيز الاستثمار من خلال إخضاع الوثيقة الرسمية لمجموعة من الضوابط حتى تكون سندات تنفيذية ، حتى لا تترك لكل من سولت له نفسه بالتطاول على حقوق الناس ، وهو الشيء الذي يؤثر إيجابا على مبدأ استقرار المعاملات . ومع ذلك نعتقد أنه على مشرعنا - حماية للحقوق وجلبا للاستثمارات - العمل على تبسيط مسطرة اللجوء للقضاء وإعفاء من يريد سلوكها من الاستعانة بمحامي وفرض رسم قضائي رمزي أو منخفض سواء تعلق الأمر بإجراءات الدعوى أو عند مباشرة إجراءات التنفيذ .

المطلب الثاني : التوثيق وضمانات تعزيز الاستثمار

إن التوثيق كان ولا يزال إحدى الدعامات الأساسية لضمان استقرار المعاملات وتشجيع وجلب الاستثمارات والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية ومساعدة القضاء ، وذلك من خلال تمكينه من وسائل الإثبات التي تعتبر الحجر الأساس في فض النزاعات والخلافات بين الأطراف .
ويحظى توثيق التصرفات العقارية الأهمية القصوى داخل المنظومة التوثيقية في المغرب ، باعتبار أن العقار هو قاطرة جلب الاستثمار والأرضية الخصبة لانطلاق المشاريع الاستثمارية في مختلف المجالات ، ولذلك عنى له المشرع باهتمام خاص في مجال التوثيق ، نتطرق في الفقرة الأولى لتوثيق التصرفات العقارية على أن نتطرق في الفقرة الثانية لمدى فعالية توثيق التصرفات العقارية في تعزيز الاستثمار

الفقرة الأولى : توثيق التصرفات العقارية

يكتسي موضوع توثيق التصرفات العقارية أهمية بالغة في مجال المعاملات العقارية لما للعقار من حضور وازن في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، فوعيا من المشرع المغربي بأهمية توثيق التصرفات العقارية ودورها في تعزيز الاستثمار ، لم يكتف بتنظيمه بالمقتضيات العامة فقط ، وذلك من خلال قانون الالتزامات والعقود ومدونة الحقوق العينية ، إنما حاول علاوة على ذلك تنظيمه من خلال مجموعة من النصوص القانونية الخاصة .
لقد أدى في السابق ، إعمال مبدأ سلطان الإرادة – الفصل 489 من ق ا ع - لتوثيق التصرفات العقارية إلى إفراز نتائج سلبية ووخيمة على حقوق الأفراد ، فإذا كان المشرع قد فرض الشكلية في البيوع العقارية إلا أنه لم يحدد طبيعة هذه الأخيرة . وقد شكل فتح المجال والحرية للمتعاقدين في إبرام عقودهم العقارية سواء في محررات رسمية أو عرفية حسب اختيارهم ، خروجا عن أغلب الأنظمة العقارية الموجودة في العالم ، والتي اشترطت رسمية العقود المتعلقة بالملكية العقارية ، قصد تنبیه المتعاملين في هذا الميدان إلى أهمية وخطورة التصرف الذي يجريانه بواسطة موثق ، حيث إن هذا الأخير يسعى إلى أن يكون اتفاق الطرفين قد جرى وفقا للقواعد القانونية المقررة ، قصد استبعاد كل الأخطار والمشاكل التي يمكن أن تثار بعد إبرام العقد.[19]
ونظرا للأهمية توثيق التصرفات العقارية ، لما للعقار من حضور وازن في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، و وعيا من المشرع المغربي بأهميته في تعزيز الاستثمار أدى ذلك إلى تقليص نطاق الحرية الداخلية للأفراد لحساب إرادة المشرع ، فأصدر مجموعة من القوانين العقارية الخاصة[20] ، والتي حسمت في طبيعة المحررات المرتبطة بالعقود المنظمة بمقتضى هذه القوانين ، من خلال تنصيصها على ضرورة إفراغ هذه العقود في محررات رسمية أو في محررات ثابتة التاريخ ، يتم تحريرها من طرف مهنيين ينتمون إلى مهنة قانونية منظمة ويخول لها قانونها تحرير العقود وذلك تحت طائلة البطلان .
وعموما فالمشرع المغربي اتجه نحو تنظیم توثيق التصرفات العقارية عبر ضمان المهنية في الفئات التي تتولى تحريرها حفاظا وانسجاما مع ما تتطلبه عملية تحرير هذه التصرفات من دقة لتحقيق الأمن التوثيقي[21] ، لأن العقود إذا سهر على إنجازها ذووا الاختصاص لأضحت شفافة واضحة لا تقبل أي تأويل وتكون عنوانا للحقيقة وسهلة الفصل عند النزاع ، فنجني من وراء ذلك اختزال الوقت وتقليص النفقات وإسباغ الهبة على الوثيقة .
وبذلك يكون المشرع قد سجل خطوة مهمة في تعزيز وجلب الاستثمار من خلال إقرار الرسمية في إبرام التصرفات الواردة على العقارات ، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على مكانة التوثيق ودوره الهام في تثبيت الملكية العقارية وحماية المصالح الاقتصادية والاجتماعية للمتعاملين في الميدان العقاري وتشجيع الاستثمار وبعث الأمن والاطمئنان في نفوس كل الفرقاء من ملاكين ومنعشين ومستثمرين عقاريين وغيرهم . فهذه الرسمية طالما شكلت مطلبا ملحا من قبل الباحثين والممارسين في حسم مسألة التعددية التعاقدية بمختلف مجالاتها ، وذلك حتى تنتفي كثير من المتاعب والإشكالات والمنازعات التي كانت تحدث جراء اعتماد المحررات العرفية. [22]

الفقرة الثانية : فعالية توثيق التصرفات العقارية في تعزيز الاستثمار

بصدور مدونة الحقوق العينية التي عملت على توحيد أحكام توثيق التصرفات العقارية ، سواء انصبت على عقار محفظ أو غير محفظ ، وذلك عبر إبرام التصرفات العقارية في شكل محرر رسمي أو محرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض تحت طائلة البطلان ، قد كانت من حسنات هذا الأمر توفير الأمن القانوني وتعزيز الاستثمار وتقويته ، عبر الحد من حالات النصب والاحتيال التي كانت تتم من خلال العقود العرفية ، والذي ترتب عنه استقرار المعاملات العقارية والرقي بها لمستوى الثقة والاطمئنان ، بما يسمح بتوفير جو ملائم ومستقطب للاستثمارات الأجنبية وتنمية الاقتصاد الوطني والمحلي ، ناهيك عن التخفيف من كثرة المشاكل والنزاعات المثقلة لكاهل القضاء بالإضافة إلى وضع حد لظاهرة التهرب أو التملص من أداء الضرائب والتخفيف من ظاهرة التصريحات الغير حقيقة بشأن المعاملات العقارية .
وخلاصة القول إن من شأن تطبيق المقتضيات الجديدة ، المساهمة في تعزيز ضمانات حماية الملكية العقارية ، وبالتبع تعزيز الاستثمارات وتحقيق الأمن القانوني والتعاقدي والتصدي لظاهرة الاستيلاء على عقارات الغير، التي ما لبثت أن شكلت أكبر معيقات التنمية ، وأعطت صورة سلبية لدى المستثمر الأجنبي ، قبل أن يتم التدخل من المشرع لتعديل المادة الرابعة من مدونة الحقوق العينية ، وبالتالي التخفيف وتجاوز المعيقات السابقة .

خاتمة :
وصفة القول فإن التوثيق يعد من الركائز الأساسية للسمو بالاستثمار وتعزيزه وتقويه ، فالمستثمر الأجنبي قبل إقدامه على وضع أمواله داخل بلد ما ، والرغبة في التصرف فيها ، لابد وأن ينظر لما توفره هذه الدولة من قوة في الإثبات بالنسبة للتصرفات التي سيجريها ، فإذا كانت هذه الوسائل ضعيفة ولا ترقى للمكانة المتطلبة فإنها ستساهم في عرقلة أعماله مما قد يجعله يتراجع عن هذه الخطوة ، وقد رأينا ما للوثيقة الرسمية الصادرة عن الموثق من قوة تبوتية وتنفيذية ، حيت أنها لا يمكن الطعن فيها إلا بالزور ، بالإضافة إلا تمتعها بالتنفيذ القضائي الوجوبي عند الاستناد عليها في دعوى قضائية ، وبالتالي فهذه المحررات الصادرة عن الموثق تعمل على تعجيل فض النزاعات أمام القضاء وتساهم في استقرار المعاملات وخصوصا منها العقارية ، بالإضافة إلى توفير الأمن القانوني والتعاقدي وتعزيز وجلب الاستثمار .
إن التوثيق كلما كان متين وقوي إلا وساهم في تعزيز الاستثمار وجلب المشاريع التي تفتح أفاق واسعة لسوق الشغل للعاملين ، وكلما كان ضعيف كلما ساهم في عرقلة النمو الاقتصادي للدولة وجعلها في مراتب متأخرة عن باقي البلدان المنافسة ، ولذلك نجد أن المشرع المغربي قد عمل على الاستجابة لمتطلبات الباحثين والممارسين ، من خلال تعديل المادة الرابعة من مدونة الحقوق العينية ، ونهج تعميم الأمن التوتيقي وعدم ترك حرية الاختيار للأطراف كما كان سائدا من قبل في الأخذ بين التوثيق الرسمي أو العرفي ، وتقرير إلزامية رسمية التوثيق في المعاملات العقارية وذلك تحت طائلة البطلان ، وهو بذلك يضع حدا لكل تسيب في تحرير العقود المتصلة بالتصرفات العقارية وحصره على ذوي الخبرة والكفاءة ، المتمثلين في العدول والموثقين والمحامون المقبولون للترافع أمام محكمة النقض .
---------------------------
الهوامش : 
[1] عبدالخالق الناجي . الرقابة على عقود الموثق وضرورة الأمن التوثيقي التعاقدي .مجلة الوقائع القانونية . عدد الرابع 2020 الصفحة 25
[2] توفيق عزوزي ، التقرير التمهيدي لأعمال الندوة الدولية العلمية المنعقدة بالمعهد العالي للقضاء بالرباط سنة 2009 ، بعنوان اصلاح مهنة التوثيق في ظل تحديات العولمة ، منشورات المجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية ، سلسلة مواضيع الساعة ، الطبعة الأولى 2010 ، صفحة : 14
[3] توفيق عزوزي .نفس المرجع أعلاه . صفحة 15
[4] امين زنيبر ، من كلمته ضمن الجلسة الافتتاحية لأشغال الندوة الدولية العلمية المنعقدة بالمعهد العالي بالرباط سنة 2009 ، بعنوان اصلاح مهنة التوثيق في ظل تحديات العولمة ، منشورات المجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية سلسلة مواضيع الساعة ، الطبعة الأولى 2010 ، صفحة : 18
[5] عبدالله درميش ، أخلاقيات مهنة التوثيق وسلطة التنظيم ، اشغال الندوة الدولية العلمية المنعقدة بالمعهد العالي بالرباط سنة 2009 ، بعنوان اصلاح مهنة التوثيق في ظل تحديات العولمة ، منشورات المجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية ، سلسلة مواضيع الساعة ، عدد 69 ، الطبعة الأولى 2010 صفحة : 23
[6] تعريف الاستثمار . الموسوعة الحرة ويكيبيديا https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AB%D9%85%D8%A7%D8%B1 تاريخ الاطلاع 2021/03/22
[7] أمينة العمراني . الأمن التعاقدي ودوره في تحقيق الأمن العقاري . أشغال الندوة الوطنية المنظمة من طرف ماستر قانون العقار والتعمير برحاب كلية المتعددة التخصصات الناظور في موضوع : الأمن التعاقدي وفق التشريع المغربي . 2019 ص 144
[8] نور الدين العرج '' حجية التوثيق الرسمي في الإثبات والتنفيذ ''، مقال متاح في الموقع الالكتروني www.justice.geV.ma ، ص : 1 ، تاريخ الزيارة 2021/03/22
[9] أمينة العمراني . مرجع سابق صفحة 145
[10] سعيد كوكبي . " الإثبات وسلطة القاضي في الميدان المدني : دراسة بين الفقه الإسلامي والقانون المغربي " ، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع ، ط : 2005 ، صفحة49
[11] أمينة العمراني . مرجع سابق صفحة 145
[12] أمينة العمراني . مرجع سابق صفحة 145
[13] نور الدين سليماني . الضمانات القانونية للتوثيق الرسمي ودورها في تحقيق الأمن التعاقدي . مجلة فضاء المعرفة القانونية . العدد الثالث دجنبر 2019 الصفحة 298
[14] نور الدين سليماني . نفس المرجع أعلاه .الصفحة 299
[15] نور الدين سليماني . نفس مرجع سابق .الصفحة 303
[16] تنص المادة 2 من قانون التوثيق المصري على ما يلي : " إن مكاتب التوثيق نقوم بما يأتي : وضع الصيغة التنفيذية على صور المحررات الرسمية الواجبة التنفيذ "
[17] نور الدين لعرج . حجية التوثيق في الإثبات والتنفيذ " ، مجلة القانون المغربي ، العدد 14 ، أبريل 2009 ، صفحة 119
[18] نور الدين لعرج . نفس المرجع أعلاه . ص 120
[19] محمد خيري ، التعاقد في الميدان العقاري ، أشغال ندوة النظام العقاري الإنعاش العقاري والتعمير ، الدار البيضاء ، 15/14 مارس 1986 ، المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية ، العدد 12 ، السنة 1986 الصفحة 27
[20] تتمثل هذه القوانين في الآتي :
- الظهير الشريف رقم 1.02.298 ، صادر في 25 من رجب 1423 ( 3 أكتوبر 2002 ) ، بتنفيذ القانون رقم 18.00 المتعلق بنظام الملكية المشتركة للعقارات المبنية ، جريدة رسمية عدد 5054 ، بتاريخ 2 رمضان 1423 ( 7 نوفمبر 2002 ) ،ص 3175 ، كما تم تعديله بالقانون رقم 106.12 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.16.49 بتاريخ 9 من رجب 1437 ( 27 أبريل 2016 ) ، جريدة رسمية عدد 6465 ، بتاريخ 9 شعبان 1437 ( 16 ماي 2016 ) ، ص 3781
- الظهير الشريف رقم 1.02.309 ، صادر في 25 من رجب 1423 ( 3 أكتوبر 2002 ) ، بتنفيذ القانون رقم 44.00 العقار في طور الإنجاز ، المتمم بموجبه الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 ( 12 أغسطس 1913 ) ، بمثابة قانون الالتزامات والعقود ، جريدة رسمية عدد 5054 ، ص 3183
- الظهير الشريف رقم 1.03.202 ، صادر في 16 من رمضان 1424 ( 11 نوفمبر 2003 ) ، بتنفيذ القانون رقم 51.00 المتعلق بالإيجار المفضي إلى تملك العقار ، جريدة رسمية عدد 5172 ، بتاریخ فاتح ذي القعدة 1424 ( 25 ديسمبر 2002 ) ، ص 4375
[21] عبد الرحيم حزيكر ، توثيق التصرفات العقارية على ضوء مدونة الحقوق العينية والظهير المتعلق بالتحفيظ العقاري ، الندوة الوطنية حول الأمن العقاري ، المنظمة من طرف محكمة النقض بشراكم مع الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية والمسح العقاري والخرائطي ، يومي 29 و 30 ماي 2015 ، قصر المؤتمرات بمراكش ، راجع قناة محكمة النقض على الأنترنيت
[22] الحسن المسؤول . إقرار رسمية العقود وأثرها على إستقرار المعاملات العقارية . مجلس القبس المغربية للدراسات القانونية والقضائية .العدد 3 يوليوز 2012 الصفحة 245

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -