عقد التأمين في القانون المغربي

مقال بعنوان: خصائص ومراحل انعقاد عقد التأمين في القانون المغربي PDF

مقال بعنوان: خصائص ومراحل انعقاد عقد التأمين في القانون المغربي PDF

مقدمة:
لقد أصبحت الحياة المعاصرة محفوفة بالمخاطر من جراء انتشار الآلة وتقدم الصناعة الميكانيكية والتكنولوجيا في مختلف الميادين واستعمال المواد الكيماوية والنووية وتنوع وسائل النقل برية وبحرية وجوية وتشييد المصانع الضخمة والعمارات الشاهقة إلى غير ذلك من مظاهر الحضارة الحديثة، مما جعل الفرد والشركة وحتى المؤسسات العمومية تتلمس في التأمين ملاذا يقيها من تبعات الأخطار التي قد تتعرض لها.
وقد ظهر التأمين في المغرب إلا في عهد الحماية الفرنسية، فإلى جانب الشركات الأجنبية التي كانت تمارس التأمين في المغرب بواسطة الوكلاء العامين فإن أول شركة للتأمين تأسست في بلادنا هي "شركة المغرب" وذلك بمدينة طنجة سنة 1916. ثم تلتها شركات أخرى إلى أن تأسست الشركة الملكية المغربية للتأمين سنة 1950 وهي شركة مغربية برؤوس أموال مغربية[1].
والواقع أن التأمين في بلادنا لم يكن من إفرازات التحولات الاجتماعية وإنما تم فرضه خلال فترة الحماية عن طريق التشريع بل حتى النص الذي فرض بواسطته لم يكن تشريعيا، وإنما تنظيميا لأن السلطان أمير المؤمنين لم يكن ليصادق على قانون كانت مشروعيته لا تزال موضع خلاف فقهي، لذلك أعطى بمقتضى الظهير المؤرخ في 28 نوفمبر 1934 تفويضا إلى الصدر الأعظم من أجل تنظيم جميع المجالات التي تدخل في ميدان التأمين.
ويعد التأمين وسيلة من وسائل الائتمان بحيث يستطيع المؤمن له في التأمين على الحياة رهن عقد التأمين إما بواسطة ملحق للعقد وإما عن طرق التظهير على سبيل الضمان إذا كان العقد لأمر كما تنص على ذلك المادة 77 من القانون رقم 17.99 المتعلق بمدونة التأمينات وبواسطة التأمين يقوم المؤمن له بضمان ذمته المالية التي تعتبر ضمانا عاما تجاه دائنيه. كما يمكن للمقاولة أن تؤمن على نتائج الخسارة في الاستغلال لتضمن ملاءتها تجاه الأغيار.
وبالإضافة إلى ذلك فإن التأمين يعتبر من أهم الآليات لتكوين وتجميع رؤوس الأموال. فالتأمين على الحياة في جل صوره ليس إلا وسيلة من وسائل الادخار. وشركات التأمين تعتبر من أهم الفاعلين في السوق المالية للدولة نظرا لما تجمعه من رؤوس الأموال وما تقوم به على مستوى توظيف هذه الأموال لصالحها وصالح الاقتصاد الوطني بصفة عامة.
وتتجلى أهمية التأمين في حماية المؤمنين في ممتلكاتهم وأموالهم وحياتهم، حتى أصبح في بعض الحالات ضروريا لتوقي مخاطر الحريق والسرقة والخسائر الناجمة عن المياه أو عن البرد والصقيع والخسائر المالية إلخ... كذلك وفي ظل تطور قواعد المسؤولية المدنية التي انتقلت من مسؤولية قائمة على أساس الخطأ الواجب الإثبات إلى خطأ مفترض ثم إلى مسؤولية بدون خطأ مبنية على أساس نظرية المخاطر أو نظرية الضمان فإن المسؤول سواء كان شخصا ذاتيا أو حتى معنويا لم يعد بإمكانه تحمل النتائج الفادحة لمسئوليته ومن ثم وجب التفكير في التأمين من المسؤولية المدنية للحيلولة دون إفقاره وتعرضه للضياع. ولقد أدى هاجس حماية الضحايا إلى إرهاق المسؤولين المدنيين كليا أو جزئيا. والتأمين وحده هو الذي استطاع أن يوفق بين تعويض الضحايا والحفاظ على الذمة المالية للمسؤول[2].
ومن أجل الإجابة على التساؤل المطروح المتمثل في دراسة الإطار القانوني لعقد التأمين وتسليط الضوء على خصائصه ومراحل انعقاده، سنتناول الموضوع في مبحثين:

المبحث الأول: خصائص عقد التأمين
المبحث الثاني: مراحل انعقاد عقد التأمين

المبحث الأول: خصائص عقد التأمين

يعتبر عقد التأمين من العقود الرضائية والتبادلية الملزمة للجانبين وهو عقد احتمالي وعقد معاوضة يأخذ فيه كل طرف مقابلا لما يعطي، ومن العقود المستمرة لأن تنفيذه يمتد في الزمان. إلا أن أهم خاصيتين تميزه كونه عقد إذعان ومن عقود حسن النية.

المطلب الأول: عقد التأمين عقد رضائي

رغم أن القانون يلزم بتحرير عقد التأمين كتابة بحروف بارزة فإن هذا الشرط يتعلق بإثبات العقد وليس شرط صحة. فالمتفق عليه فقها وقضاء، أن عقد التأمين عقد رضائي يتم باقتران قبول المؤمن بإيجاب المؤمن له وإن كانت بعض الشكليات مطلوبة سواء خلال انعقاده أو تنفيذه[3].
ولعل ما يعزز هذا التوجه الذي أقره الفقه ما جاءت به الفقرة الثانية من المادة 11 من مدونة التأمينات حيث أكدت أن اشتراط كتابة العقد لا يحول دون التزام المؤمن والمؤمن له تجاه بعضهما البعض بواسطة تسليم مذكرة تغطية.
وفي نفس الاتجاه سار المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) حينما صرح في القرار عدد 3683 الصادر بتاريخ 3/6/1998 في الملف المدني عدد 3978/94 بأن "عقد التأمين عقد رضائي يمكن إثباته بوثيقة التأمين أو بمذكرة التغطية التي يمكن إثباتها بالوصل الذي تسلمه شركة التأمين للمؤمن له أو بالكتب المتبادلة أو ببرقية من المؤمن للمؤمن له بقبول طلب التأمين"[4].

المطلب الثاني: عقد التأمين عقد احتمالي

يعتبر عقد التأمين من العقود الاحتمالية لأن محل هذا العقد هو الخطر، ولكي يكون الخطر قابلا للتأمين يجب أن يكون احتماليا.
وعلى هذا المستوى يتعين التمييز بين عقد التأمين وعملية التأمين. فإذا كان الخطر من الناحية القانونية احتماليا فإنه من الناحية الفنية يتم ضبطه عن طريق قانون الأعداد الكبيرة ومقاصة المخاطر. فالمؤمن الذي يبرم عقودا متعددة بالنسبة لنوع معين من الأخطار يعمل عن طريق الدراسات المذكورة إلى تلافي الاحتمال للتحكم في عملية التأمين وتحقيق الأرباح.
والاحتمال يكون ظاهرا عندما يكون الخطر غير مؤكد كالتأمين على الحريق وقد يكون الخطر مؤكدا ومع ذلك يكون قابلا للتأمين كالتأمين في حالة الوفاة لكن في هذه الحالة يكون أجل الحادث وهو الوفاة غير معروف كما هو الشأن بالنسبة للأقساط التي ينبغي دفعها. وهذان العنصران هما اللذان يشكلان مصدر الاحتمال.
وبغض النظر عن عملية التأمين فإن عقد التأمين يظل احتماليا حيث يتوقف التزام كل طرف تجاه الآخر على الاحتمالات. فقد يقوم المؤمن له بدفع قسط واحد وتحل الحادثة وقد يقوم بدفع عدة أقساط ولا تقع الكارثة. ومن شأن هذا أن يجعل كسب أو خسارة كل طرف محتملة. لذلك فإن المؤمنين لا يمكنهم أن يقبلوا بتأمين خطر محقق الوقوع في جميع تجلياته بل لابد أن يظهر عنصر الاحتمال على أحد مظاهره.
ويصبح الأمر دقيقا بالنسبة للأخطار المركبة أو المتعددة العناصر « Risques composites » فهناك من يرى بأن الخطر لا يتحقق إلا إذا توفر عنصر الاحتمال على مستوى جميع عناصره وعكس هذا الرأي هناك من يقول بأنه يكفي أن يتوفر الاحتمال في أحد مكوناته لتحقق الخطر القابل للتأمين ومن ثم فإن الخطر المركب الذي تحقق جزئيا يبقى قابلا للتأمين، إلا أن هذا الرأي الأخير يعقد مهمة المؤمن ويزيد في التزاماته على اعتبار أن فرص الاحتمال تتضاءل كلما تأكد وقوع أحد مكونات الخطر لذلك فإن الاجتهاد القضائي يتشدد من هذه الناحية ويشترط احتمال الخطر عند اكتتاب العقد سواء في التأمين على الأضرار أو التأمين على الأشخاص. وهكذا صرحت محكمة النقض الفرنسية بأن عنصر الاحتمال يكون غير موجود إذا تم إلغاء رخصة البناء وأصبحت نسبة إلغاء الرخصة الجديدة مرتفعة[5]. كما اعتبرت المرض الذي أصاب المكتتب قبل العقد وإن لم يكن هذا الأخير يعرف نتائجه من شأنه أن يزيل عنصر الاحتمال من الزمانة التي أصابته مما يجعل هذا المرض غير قابل للتأمين[6].
وقد يلجأ المؤمن إلى تضمين العقد شرط استثناء "الماضي المعروف" من الضمان « le passé connu » إلا أن ذلك لن يكون إلا من باب الاحتياط لا غير وتأكيدا للقاعدة المعروفة " بعدم إمكانية تأمين الخطر الذي تحقق".
ولقد حصل خلاف فقهي كذلك حول تأمين "الخطر الظني" «Risque putatif » وهو الخطر الذي يكون قد وقع ولكن لم يصل إلى علم المتعاقدين. فهناك فريق يقول بعدم جواز التأمين عليه بدليل الفقرة الأولى من المادة 60 من مدونة التأمينات التي جاء فيها "يعتبر التأمين باطلا إذا كان الشيء المؤمن عليه قد أتلف وقت اكتتاب العقد أو لم يعد معرضا للأخطار" في حين هناك رأي آخر يقول بجواز التأمين على الخطر الظني بناء على شرط " استعادة الماضي المجهول" الذي أقره الفقه والاجتهاد. فمؤدى هذا الشرط أن المتعاقدين بإمكانهما التأمين على خطر يجهلانه ولو وقع فعلا.
وعلى خلاف كثير من القوانين كالقانون اللبناني والمصري والفرنسي التي أوردت عقد التأمين ضمن عقود الغرر فإن قانون الالتزامات والعقود لم يذكر عقد التأمين ضمن هذه العقود. ولقد عرف الفصل 1964 من القانون المدني الفرنسي عقد الغرر " بالاتفاقية المتبادلة" التي تكون آثارها من حيث الربح أو الخسارة معلقة على حدث غير محقق سواء بالنسبة " لجميع أطرافه أو بالنسبة لأحدهم أو البعض منهم فقط" فعنصر الاحتمال يشكل جوهر عقد التأمين والبت في وجوده يدخل في السلطة التقديرية لمحاكم الموضوع.

المطلب الثالث: عقد التأمين عقد تبادلي 

يعد عقد التأمين من العقود التبادلية الملزمة للجانبين حيث يلتزم كل طرف تجاه الطرف الأخر على وجه التبادل. ويظهر هذا الطابع التبادلي من التعريف القانوني لعقد التأمين الذي أورده الفقه وبعض التشريعات الحديثة كالقانون المدني المصري الذي عرفه في المادة 747 بأنه:
"عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن".
فالمؤمن له يلتزم بأداء قسط التأمين والتصريح بالخطر الذي يريد ضمانه وكذلك بالتغييرات التي تطرأ عليه والتصريح بالحادثة كما أوضحت ذلك المادة 20 من مدونة التأمينات. ومقابل ذلك يلتزم المؤمن بضمان المؤمن له عن الخطر المنصوص عليه في العقد وعند تحقق الخطر المضمون أو عند حلول أجل العقد يجب عليه أن يسدد التعويض أو المبلغ المحدد في العقد داخل الأجل المتفق عليه ( المادة 19 من مدونة التأمينات).
ومن نتائج هذه الخاصية كما أوضحت الأستاذة فافر أن المؤمن لا يبقى ملتزما بالضمان إذا أخل المؤمن له بالتزاماته سواء عند التصريح بالخطر حيث يمكن أن يترتب عن ذلك سقوط الضمان أو بسبب عدم أداء قسط التأمين حيث يتوقف الضمان[7].

المطلب الرابع: عقد التأمين من العقود المستمرة

يعتبر العقد مستمرا عندما يمتد تنفيذه في الزمان أو تستمر التزامات طرفيه لمدة معينة. وينطبق هذا الوصف على عقد التأمين لأن تنفيذه يستمر من تاريخ انعقاده إلى غاية انتهاء مدة الضمان. ويظل المؤمن ملتزما بضمان الخطر إلى غاية حلول أجل العقد بل قد يمتد إلى ما بعد هذا الأجل في بعض الأحيان. وإذا كان أداء التعويض يتم مبدئيا دفعة واحدة، فإنه بالنسبة لبعض أنواع التأمين يقوم المؤمن بتنفيذ التزامه بكيفية مستمرة في الزمان كما هو الشأن بالنسبة لتنفيذ شرط الدفاع والرجوع و"الحماية القانونية"، والإسعاف وأداء الإيرادات العمرية. ويكون التزام المؤمن له مستمرا إذا كان أداء قسط التأمين يتم بصفة دورية. وحتى إذا تم التأمين مقابل قسط واحد فإن المؤمن له يظل ملتزما بعدم القيام بأي عمل من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الخطر.
وبين هذين الصنفين من العقود ظهر ما يسمى بالعقود التي تنفذ بالتدرج d’exécution échelonnée [8] ومنها مثلا البيع بالتقسيط، والبيع مع التسليم بالحصة عند تواريخ مختلفة. فالعقود الفورية تنفذ في اللحظة أما في العقود المستمرة فيتم التنفيذ بصفة دائمة ومستمرة وفي العقود التي تنفذ بالتدرج يتكرر التنفيذ في الزمان.
وعلى ضوء هذا التمييز طرح السؤال حول النوع الذي ينبغي أن يصنف فيه عقد التأمين. هل في العقود المستمرة أم في العقود التي تنفذ بتدرج[9].
لاحظ الأستاذ كريستيان لارومي أن السبب المستمر ليس خاصا فقط بالعقود المستمرة وإنما يوجد أيضا في العقود التي يتم تنفيذها بتدرج حسب إرادة المتعاقدين بحيث إذا اتفق المتعاقدان على التزامات متدرجة بصفة غير قابلة للتجزئة فإن الإلغاء يكون بأثر رجعي أما إذا اتفقا على تجزئة التنفيذ فإن آثار الفسخ تنسحب على المستقبل فقط[10].
ويرى الأستاذ كاربونية أن العقود التي تنفذ بتدرج ما هي إلا نوع من العقود المستمرة يتعاقب فيها الأداء في الزمن بحيث يمكن أن تشكل عدة عقود متميزة ولكن تعتبر كوحدة بسبب الفعل الأصلي الذي يعتبر واحدا.
وانطلاقا من هذا الرأي ونظرا لطبيعة التزامات طرفي عقد التأمين وخصوصا الالتزام الأصلي للمؤمن يمكن استبعاد عقد التأمين من خانة العقود التي يتم تنفيذها بتدرج والقول مع غالبية الفقه بأن عقد التأمين يعتبر من العقود المستمرة.
وتتجلى أهمية الوصف الذي يأخذه عقد التأمين في النتائج التي تترتب عن الفسخ بحيث إذا لم ينفذ أحد طرفي العقد التزاماته فإن العقد لا يلغي بأثر رجعي وإنما ينحل بالنسبة للمستقبل كما أن استحالة التنفيذ بسبب خارجي يجعل العقد غير ذي موضوع ويؤدي إلى تحلل المتعاقدين من التزامهما. ويكون قسط التأمين قابلا للتجزئة حسب المدة التي استغرقها الضمان.

المطلب الخامس: عقد التأمين عقد إذعان

عادة ما يعطي الفقه عقد التأمين كمثال لعقود الإذعان، وهذا الوصف صحيح في نظرنا إلى حد بعيد، لأنه إذا كان عقد التامين عقدا رضائيا ينتج عن إرادة طرفيه فإن الأمر من الناحية العملية على خلاف ذلك، لأن المؤمن العارف بتقنيات وخبايا فن التأمين هو الذي يقوم بإعداد المطبوع المجسد للعقد. والمؤمن له لا يملك في الواقع إلا أن يملأ المعلومات المطلوبة منه وأن يوقع على العقد. ولعل هذا ما دفع بالمشرع إلى أن يلزم مقاولات التأمين وإعادة التأمين بأن ترسل للهيئة نماذج عقود التأمين التي ستصدرها لأول مرة وذلك قبل إصدارها (المادة 247 من مدونة التأمينات).
ولقد دأب القضاء من جهته على اعتبار عقد التأمين عقد إذعان. ومن هذا المنطلق ينحاز في تفسيره للشروط التعاقدية غير الواضحة أو التي تظهر مجحفة، إلى المؤمن له باعتباره الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية وذلك على الرغم من أن المؤمن هو الملتزم بالضمان وأن الفصل 473 من قانون الالتزامات والعقود ينص على أنه " عند الشك يؤول الالتزام بالمعنى الأكثر فائدة للملتزم".
وعلى خلاف القانون المغربي فإن المشرع المصري وضع أحكاما خاصة بعقود الإذعان حيث اعتبر أن الشك يفسر في هذه العقود لمصلحة الطرف المذعن دائنا كان أم مدينا. وهذا ما نصت عليه المادة 151 مدني حيث جاء فيها: "يفسر الشك في مصلحة المدين. "ومع ذلك لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضارا بمصلحة الطرف المذعن" بل إن المادة 149 من نفس القانون أعطت القاضي الصلاحية لتعديل الشروط التعسفية في عقود الإذعان وكل اتفاق على خلاف ذلك يقع باطلا.
وتأسيسا على اعتبار عقد التأمين من عقود الإذعان كرس المشرع عدة قواعد فيما يخص المستثنيات من الضمان حماية للمؤمن له. ومن هذه القواعد القاعدة التي تلزم بأن تكون استثناءات الضمان واضحة ودقيقة وبحروف بارزة، والقاعدة التي توجب أن تكون هذه المستثنيات صريحة ومحددة.
وهذا ما نصت عليه المادة 14 من مدونة التأمينات حينما اعتبرت شروط العقد التي تنص على حالات البطلان المنصوص عليه في الكتاب الأول أو على حالات سقوط الحق أو الاستثناءات أو حالات انعدام التأمين غير صحيحة إلا إذا أشير إليها بحروف جد بارزة.
كما تقضي المادة 35 من المدونة ببطلان كل شرط من الشروط التي تنص على سقوط حق المؤمن له في حالة خرقه للنصوص التشريعية أو التنظيمية ما لم يشكل هذا الخرق جناية أو جنحة مرتكبة عمدا. وكل شرط ينص على سقوط حق المؤمن له لمجرد تأخره في التصريح بالحادث للسلطات أو في الإدلاء بوثائق يكون باطلا. ونفس الحكم يطبق على شرط التحكيم إذا لم يوافق عليه المؤمن له صراحة عند اكتتاب العقد.
وعمد القضاء من جهته إلى إبطال الشروط التعسفية وتعطيل شرط الاستثناء من الضمان في بعض الأحيان وإلى اعتماد التفسير الضيق لهذه الشروط. كما حمل المؤمن مسؤولية الإثبات في كثير من الحالات- وكمثال على ذلك يمكن ذكر قرار المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) عدد 2 الصادر بتاريخ 9 يناير 1976 في الملف المدني عدد 23182 الذي ألزم الشركة المؤمنة بإثبات عنصر سوء النية في التصريح الكاذب أو الكتمان عند إبرام عقد التأمين وإلا اعتبر التأمين صحيحا[11].
وقد سار على نفس النهج القرار رقم 1967 الصادر بتاريخ 12/4/1994 الذي صرح فيه المجلس الأعلى " بأنه إذا لم تثبت المؤمنة أن سبب الحادثة يرجع إلى فساد في الناقلة أو ضعف في بصر السائق أو صحته لا ينفعها التمسك بعدم إجراء أحد الفحصين الطبي أو الميكانيكي[12].
إلا أن خاصية" الإذعان" في عقد التأمين تضمحل مع بروز القوة التفاوضية عند المؤمن له. ففيما يتعلق بالأخطار الكبيرة التي تهم الصناعيين أو الجمعيات المهنية أو المؤسسات المالية كالأبناك يكون المؤمن له الممثل بخبراء وفنيين في التأمين ندا للمؤمن، وقد يفرض بعض شروطه إذا وجد الاختيار في سوق التأمينات. لذلك عمل القانون الأوروبي على حصر الحماية القانونية في الأخطار المتعلقة بالأفراد. ليترك المجال لإعمال حرية التعاقد فيما يتعلق بالتأمين على الأخطار الكبيرة (assurance des grands risques)[13].

المطلب السادس: عقد التأمين من عقود حسن النية

القاعدة العامة في العقود هي وجوب تنفيذها بحسن نية حسب الفصل 231 من قانون الالتزامات والعقود.
غير أن لعبارة "حسن النية" معنى خاصا في عقد التأمين. فهي تعني " أن المؤمن له ملزم بأن يتصرف تجاه التعاضدية التي ينتمي إليها بصراحة تامة وبإخلاص كبير[14].
وهذا ما كرسته المادة 20 من مدونة التأمينات حينما ألزمت المؤمن له بأن يصرح بالضبط عند إبرام العقد بكل الظروف المعروفة لديه والتي من شأنها أن تمكن المؤمن من تقدير الأخطار التي يتحملها.
ولا يلزم المؤمن له بمراعاة مبدأ حسن النية عند إبرام العقد فقط بل يجب عليه التقيد به طيلة فترة تنفيذه. لذلك ألزمه المشرع بأن يصرح للمؤمن بالظروف المنصوص عليها في بوليصة التأمين والتي ينتج عنها تفاقم الخطر.
ويعتبر حسن النية كإلزام تشريعي وكقاعدة أخلاقية من مستلزمات التأمين، لأن المؤمن ملزم بالاعتماد على تصريحات المؤمن له لتقدير الخطر ومدى احتمالاته وجسامته وتحديد الاحتياطات الواجب إتباعها لتجنب وحصر الحوادث، وذلك دون أن يكون في إمكانه التحقق من صدق هذه التصريحات.
ولعل هذا ما يبرر قسوة الجزاء الذي رتبه المشرع عن التصريح الكاذب بالخطر أو بالحادثة، فعقد التأمين يكون باطلا في حالة كتمان أو تصريح كاذب من طرف المؤمن له إذا كان هذا الكتمان أو التصريح يغير موضوع الخطر أو ينقص من أهميته في نظر المؤمن ولو لم يكن للخطر الذي أغفله المؤمن له أو غير طبيعته تأثير على الحادث (المادة 30 من مدونة التأمينات). ويسقط الضمان إذا تم إثبات سوء نية المؤمن له عند التصريح بالحادثة.

المبحث الثاني: مراحل انعقاد عقد التأمين

يقطع عقد التأمين عدة مراحل قبل أن يتشكل بصفة نهائية، وتاريخ بدء سريان الضمان لا يوافق دائما يوم التوقيع على العقد كما يخضع عقد التأمين لقواعد خاصة في مجال الإثبات.

المطلب الأول: انعقاد التأمين

يعتبر عقد التأمين عقدا رضائيا، ينعقد بمجرد اتفاق الأطراف على موضوع الضمان ويمر العقد بمراحل تمهيدية ومفاوضات تسبق قيامه خاصة وأن العلاقة عادة لا تكون مباشرة بين المؤمن والمؤمن له وإنما تتم عبر وسطاء التأمين. ولتحديد بدء سريان عقد التأمين أهمية قصوى لاعتبارات كثيرة أهمها:
1. إن تاريخ العقد هو الذي يحدد التزام المؤمن بدفع مبلغ التعويض إذا حصلت الحادثة المؤمن عليها فإذا وقعت قبل قيام العقد لم يلزم بدفع أي تعويض وإذا وقعت بعد ذلك التزم بأداء التعويض.
2. إن تاريخ إبرام العقد هو الذي يحدد التزامات المؤمن له من حيث التصريح بالخطر وإخبار المؤمن بتفاقمه فالمؤمن له ملزم بأن يصرح بالضبط بكل الظروف المعروفة لديه وقت إبرام العقد كما هو ملزم بأن يصرح للمؤمن بالظروف التي ينتج عنها تفاقم الخطر بعد قيام العقد.
3. تكون لمعرفة وقت انعقاد التأمين أهمية في حالة هلاك الشيء موضوع الضمان أو زوال الخطر المضمون لأن أحكام هذه الحالات تختلف حسب ما إذا وقعت قبل إتمام العقد أو بعده.
وقبل انعقاد التأمين يقوم الطرفان بالإخبار المتبادل حول موضوع الضمان وشروطه وثمنه، ومن أجل ذلك يصدران عدة وثائق تمهد لإبرام العقد.

الفقرة الأولى: الإخبار المتبادل والوثائق التي يصدرها الطرفان قبل إبرام العقد

أولا: إخبار المؤمن للمؤمن له بواسطة بيان المعلومات
تلزم المادة 10 من مدونة التأمينات المؤمن بأن يسلم للمؤمن له قبل اكتتاب العقد نسخة من مشروع العقد يتضمن السعر أو "بيانا للمعلومات notice d’information" يبين على الخصوص الضمانات والاستثناءات المتعلقة بها وسعر هذه الضمانات والتزامات المؤمن له.
والملاحظ أن المشرع لم يبين المرحلة التي يجب فها على المؤمن تسليم مشروع العقد و"بيان المعلومات" هل قبل الاقتراح الذي يصدر من المؤمن له أم بعده؟ وهذا السؤال مشروع لأنه إذا لم يتم حصر الخطر المراد التأمين عليه فإن المؤمن لا يمكن أن يحدد سعر الضمانات كما لا يمكن للطرفين التفاوض حول الشروط الخاصة، وهذا يعني أن بيان المعلومات يجب أن يسلم بعد اقتراح التأمين لينتج أثره بالشكل المطلوب.
وإذا أتت المعلومات الواردة في البيان غير دقيقة أو ناقصة أو غير صحيحة فإن البيان يعتبر كأن لم يسلم[15] ولم يبين المشرع المغربي من جهة أولى الوسيلة التي يمكن اعتمادها لإثبات تسليم هذا البيان، وذلك خلاف القانون الفرنسي الذي ألزم المؤمن بتضمين بوليصة التأمين عبارة يصرح بواسطتها المؤمن له بأنه تسلم بيان المعلومات وعليه أن يوقع عليها بعد وضع التاريخ (الفصل R 112.3 – مدونة التأمينات الفرنسية) ومن جهة أخرى لم يرتب أي جزاء في حالة الإخلال بهذا الإلزام. لكن وبما أن الهدف من الإخبار هو حماية المقترح فإنه بإمكان هذا الأخير أن يتمسك بالغلط أو التدليس إن توفرت شروطهما للطعن في العقد.
وعلى المؤمن له أن يثبت مدى تأثير عدم إخباره على الإقدام على التعاقد. ومن شأن هذا الإخلال الذي يقع قبل قيام العقد أن يفتح إمكانية مقاضاة المؤمن بناء على المسؤولية التقصيرية[16].
وبالنسبة لعقد التأمين الجماعي ألزمت المادة 106 من مدونة التأمينات المكتتب بتسليم المنخرط بيانا معدا من طرف المؤمن يعرف من خلاله بالضمانات وكيفية دخولها حيز التطبيق وكذا بالإجراءات الواجب القيام بها عند وقوع الحادث. والمكتتب هو الملزم بإثبات تسليم هذا البيان والقيام بالإخبار المتعلق بالتغييرات في العقد.
وحسب الأستاذ بيكو فإن الضمان الذي يمكن أن يتمسك به المنخرط هو المبين في البيان المسلم له من طرف المكتتب بحيث إن أي تقليص في الضمانات لا يواجه به المنخرط إن لم يتم إخباره به[17] لذلك أعطاه القانون إمكانية فسخ انخراطه بسبب التغييرات التي يتم إدخالها على العقد.

ثانيا: إخبار المؤمن له للمؤمن بواسطة اقتراح التأمين
عندما يرغب شخص في إبرام عقد التأمين فإنه يتصل مباشرة بالمؤمن أو عن طريق الوسيط ليتقدم باقتراح التأمين.
وهذا الاقتراح من الناحية العملية عبارة عن مطبوع تعده مقاولة التأمين ويسلم للزبون عن طريق الوسيط الذي يمثل المقاولة. ويحتوي على استمارة أسئلة تسمح للمؤمن بجمع كل المعلومات التي يمكن للمقترح أن يعطيها إياه والتي ستشكل أساس الاتفاق. ولقد عرفه القانون البلجيكي المؤرخ في 25 يونيه 1992 بأنه " مطبوع يصدر من المؤمن لملئه من طرف طالب التأمين لتنوير المؤمن حول طبيعة العملية وحول الوقائع والظروف التي تشكل بالنسبة له عناصر لتقدير الخطر".
ويلعب هذا الاقتراح عدة أدوار في عملية التعاقد، فهو يجسد طلب التأمين، ويسمح لطالب التأمين بوصف الخطر الذي يريد التأمين عليه عن طريق الجواب عن الأسئلة الواردة في الاستمارة، وبواسطته يمكن التأكد مما إذا كان المؤمن له نفذ الالتزام الذي يلزمه بالتصريح بكل الظروف المعروفة لديه والتي من شأنها أن تمكن المؤمن من تقدير الأخطار التي يتحملها.
ويمكن لهذا الاقتراح أن يشكل مرجعا مقبولا لتأويل شروط العقد الغامضة دون أن يعتبر ذلك تحريفا للعقد[18].
ونظرا لأهمية استمارة الأسئلة في وصف الخطر وتحديد معالمه فإذا لم يرفق الطلب بتلك الاستمارة فإنه لا يشكل اقتراحا للتأمين[19].
وإذا كانت وثيقة اقتراح التأمين مهمة بالنسبة للمؤمن حيث يجري العمل بها في جل الأحوال فإنها من الناحية القانونية ليست إلزامية بدليل أن الفقرة الثانية من المادة 10 من مدونة التأمينات لم تتحدث سوى عن آثار الاقتراح ولو ترتب أي جزاء في حال تخلفه.
ولكي تشكل هذه الوثيقة اقتراحا للتأمين لابد أن تتضمن طلبا صريحا للحصول على التأمين وأن تكون مؤرخة وموقعة من طرف الطالب. غير أن هذا الاقتراح لا يلزم لا المؤمن له ولا المؤمن، ويمكن للمقترح أن يتراجع عنه ما لم يتم قبوله من طرف المؤمن.
وبما أن المشرع لم يجعل من الاقتراح التزاما قانونيا ولم يرتب أي جزاء عن عدم التقيد به فإنه لم يلزم المؤمن بالرد عليه حيث يظل هذا الأخير مخيرا بين قبول الاقتراح أو رفضه. لذلك يجب على طالب التأمين أن يحتاط لكي لا يعتبر أن مجرد التوقيع على المطبوع وتسليمه للمؤمن أو الوسيط يعني انعقاد التأمين وقيام الضمان. ويمكن للمؤمن ألا يقبل الاقتراح إلا بعد إلزام المقترح باتخاذ احتياطات معينة أو أن يشترط استثناءات للتأمين أو حدودا للضمان. ولن يتم القبول إلا بالموافقة على ضمان الخطر المقترح من طرف طالب التأمين بالسعر الذي يحدده المؤمن. وعندئذ يهيئ المؤمن العقد ويوقعه ثم يرسله للمؤمن له قصد التوقيع عليه.
غير أنه لا يجب الخلط بين حالة قيام العقد لأول مرة وحالات تمديد مدة العقد أو تعديله أو استئناف العمل من جديد بعقد تم توقيفه[20]، إذ في هذه الحالات الأخيرة يعتبر الاقتراح الذي يتم بواسطة رسالة مضمونة مقبولا من طرف المؤمن إذا لم يرفضه خلال العشرة أيام الموالية ليوم توصله بالاقتراح. فالسكوت يعني القبول[21].
وبالنسبة لشركات التأمين التعاضدية فإن طالب التأمين يتخذ صفتين صفة المنخرط وصفة المؤمن له، واقتراح التأمين يمكن أن يشكل طلبا للانخراط في التعاضدية حيث تسلم للطالب أنظمة التعاضدية.
وعلى غرار اقتراح التأمين فإن طلب الانخراط يجب أن يشير إلى مبلغ الاشتراك وعلى الطالب أن يدفع هذا المبلغ وأن يطلع على أنظمة التعاضدية وأن يتم قبول طلبه ليعتبر منخرطا.

المطلب الثاني: وسائل إثبات عقد التأمين

عندما تنتهي المفاوضات ويقترن الإيجاب بالقبول وتكتمل عناصر العقد يتم التوقيع عليه من الطرفين، غير أنه في بعض الحالات يستغرق إعداد العقد بعض الوقت كما إذا تم التعاقد عن طريق الوسيط ولم يكن يتوفر هذا الأخير على تفويض للتوقيع فإنه في انتظار تهييئ هذا العقد يتم تسليم المؤمن له مذكرة للتغطية وهي وثيقة مؤقتة وبالنسبة لبعض التأمينات الإجبارية تسلم للمؤمن له شهادة للتأمين.

الفقرة الأولى: مذكرة التغطية

قد يتفق الطرفان بصفته نهائية على شروط العقد وقسط التأمين وحدود الضمان ولكن لا يستطيع المؤمن لسبب أو لآخر تحرير العقد فورا وفي هذه الحالة ولكي يطمئن المؤمن له على وضعه فإنه يطلب وثيقة تبين الضمان فيسلمه المؤمن مذكرة التغطية.
وقد يدخل الطرفان في مفاوضات عسيرة كما هو الشأن بالنسبة للتأمين على الأخطار الكبيرة وفي هذه الحالة إذا وافق المؤمن على الضمان من حيث المبدأ وكان المؤمن له في حاجة إلى ما يثبت الضمان فإنه بإمكان المؤمن أن يمنحه مذكرة تغطية ولو مؤقتة ولمدة محدودة في انتظار استكمال المفاوضات وتهييئ بوليصة التأمين.
فمذكرة التغطية إذن هي مذكرة وقتية تقوم مقام التعهد بالضمان تسلمها مقاولة التأمين أو وكيلها إلى المؤمن له في انتظار إعداد البوليصة لتحيطه علما بواسطتها بأنها تقبل الضمان قبل إنشاء العقد[22].
وقد عرفتها مدونة التأمينات بأنه "وثيقة تجسد التزام المؤمن والمؤمن له وتثبت وجود اتفاق بينهما في انتظار إعداد بوليصة التأمين.
وعبارة " في انتظار إعداد بوليصة التأمين" الواردة في تعريف مذكرة التغطية تعني أن هذه الوثيقة مؤقتة وأنه سيتم استبدالها بالبوليصة أو الملحق. فإذا لم يحدد المتعاقدان مدة صلاحية هذه الوثيقة فإن الأمر لا يثير أي إشكال، لكن الأمر يختلف عندما يتم تضمين هذه المذكرة تاريخا لانتهاء صلاحيتها ويحل هذا التاريخ دون أن يتمكن المؤمن من إعداد البوليصة فهل يظل الضمان قائما أم ينتهي بحلول هذا الأجل؟
يميز الأستاذ بيكو بين حالتين: الحالة التي يكون فيها التزام المؤمن قاطعا ونهائيا حيث يظل الضمان قائما ولا يؤثر انتهاء تاريخ الصلاحية سوى في القوة الإثباتية للمذكرة. أما في الحالة التي يكون فيها المؤمن قد تحفظ في قبول الخطر ووافق على ضمان الخطر بصفة مؤقتة لمدة محدودة فإن الأمر يتعلق "بضمان مؤقت" ومستقل مكرس بمقتضى مذكرة التغطية التي لها قوة الإثبات بمقتضى القانون[23].
وحسب الفقرة الثانية من المادة 11 من مدونة التأمينات يمكن للمؤمن والمؤمن له أن يلتزما تجاه بعضهما البعض بواسطة تسليم مذكرة التغطية ولو قبل تسليم عقد التأمين أو الملحق.
وبناء على هذه المقتضيات يمكن لمذكرة التغطية أن تثبت وجود اتفاق مؤقت قائم بذاته.

الفقرة الثانية: بوليصة التأمين

على خلاف المشرع الفرنسي الذي ميز بين عقد التأمين كعلاقة قانونية وبوليصة التأمين كوثيقة فإن مدونة التأمينات المغربية لم تأت بهذا الوضوح حيث استعملت مصطلح العقد في كلا المعنيين.
والواقع أن هذا الخلط من شأنه أن يؤدي إلى إشكالات قانونية أهمها أنه سيجعل من عقد التأمين عقدا شكليا في حين أن الفقه مجمع على أنه عقد رضائي ينعقد بمجرد حصول الإيجاب والقبول ويمكن أن يوجد في غياب بوليصة التأمين.
ولقد نتج عن هذا الخلط عدم ترجمة محتوى عنوان الباب الثاني على مستوى المواد المتعلقة بعقد التأمين فلقد تمت عنونة الباب الثاني من القسم الأول من الكتاب الأول "بإثبات عقد التأمين وأشكال العقود وطرق انتقالها إلا أن المادة 11 وإن بينت الوثيقة التي يمكن بواسطتها إثبات الإضافات أو التغييرات وهي الملحق فإنها لم تبين الوثيقة التي تثبت عقد التأمين. وهذه الوثيقة لن تكون إلا بوليصة التأمين.
ولقد عرف الفقه بوليصة التأمين بأنه " وثيقة موقعة من طرفي عقد التأمين تدل "على وجود العقد وشروطه وتشكل بالتالي وسيلة إثبات"[24] فهي محرر يدون فيه العقد القائم بين المؤمن والمؤمن ويأتي هذا المحرر على شكل مطبوع يعده المؤمن وفق النموذج الخاص بكل نوع من أنواع التأمين.
وهذه النماذج التي تعد سلفا يجب أن ترسل إلى الهيئة قبل إصدارها كما تنص على ذلك المادة 247 من مدونة التأمينات.
وعقد التأمين الذي يعبر عنه في البوليصة يجب أن يحرر كتابة بحروف بارزة، ويجب أن يؤرخ في اليوم الذي تم فيه اكتتابه وأن يبين الشروط العامة والخاصة كما يجب أن يتضمن البيانات المنصوص عليها في المادة 12 من مدونة التأمينات وهي: اسم وموطن الأطراف المتعاقدة والأشياء المؤمن عليها أو الأشخاص المؤمن لهم وطبيعة الأخطار المضمونة والتاريخ الذي يبتدئ فيه ضمان الخطر ومدة صلاحية هذا الضمان ومبلغ الضمان الذي يلتزم به المؤمن وقسط أو اشتراك التأمين وشرط الامتداد الضمني أو انتهاء آثاره والتزامات المؤمن له عند الاكتتاب فيما يخص التصريح بالخطر وبالتأمينات الأخرى التي تغطي نفس الخطر وشروط وكيفية التصريح الواجب القيام به في حالة وقوع حادث والآجال التي يتم داخلها أداء التعويض أو رأس المال أو الإيراد والمسطرة والقواعد المتعلقة بتقييم الأضرار من أجل تحديد مبلغ التعويض بالنسبة للتأمينات غير تأمينات المسؤولية.
كما يجب على عقد التأمين أن يذكر بأحكام القانون المتعلقة بالقاعدة النسبية إن لم تكن هذه القاعدة غير قابلة للتطبيق بقوة القانون أو لم تستبعد بتنصيص صريح، وكذا بالأحكام المتعلقة بتقادم الدعاوى الناشئة عن عقود التأمين، ويجب أن يتضمن العقد أيضا شرطا خاصا يقضي بأنه في حالة سحب الاعتماد من مقاولة التأمين وإعادة التأمين تفسخ بقوة القانون العقود المكتتبة لديها من اليوم العشرين على الساعة الثانية عشرة زوالا، الموالي لتاريخ نشر قرار سحب الاعتماد بالجريدة الرسمية وفق المادة 267 من مدونة التأمينات (المادة 13 من المدونة).
وبالإضافة إلى هذه البيانات التي فرضها النص التشريعي يجب أن يتضمن عقد التأمين البيانات التي استلزمها قرار وزير المالية والخصوصة رقم 04-2240 المؤرخ في 27 دجنبر 2004 المتعلق بعقد التأمين.
وعادة ما تشتمل بوليصة التأمين على ثلاثة أنوع من الوثائق وهي الشروط العامة المطبوعة والتي تكون موحدة بالنسبة للنوع الواحد من التأمين، والشروط الخاصة حسب كل حالة والتي تحدد هوية المتعاقد والمستفيد والخطر المؤمن ضده وقسط التأمين ومبلغه ومدة العقد ويمكن أن تحتوي البوليصة أيضا على أوراق إضافية intercalaires أو مرفقات annexes-.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن المادة 178 من مدونة التأمينات تلزم إدراج النص الكامل لمشروع النظام الأساسي في كل وثيقة موجهة لتلقي انخراطات الشركاء في شركات التأمين التعاضدية.
ويمكن أن تكون وثيقة التأمين في اسم شخص معين أو لأمر أو لحاملها. ويتم تداول عقود التأمين لأمر عن طريق التظهير ولو على بياض مع مراعاة القواعد الخاصة المتعلقة بعقود التأمين على الحياة والواردة في المادة 73 من المدونة.
وفيما يتعلق بتفسير وثيقة التأمين فإنها تخضع مبدئيا للقواعد العامة لتفسير العقود علما بأن الشك أو الغموض يفسر لصالح المؤمن له بصفته الطرف المذعن ولو لم يكن هو الملتزم. وعندما تكون شروط العقد سواء العامة أو الخاصة واضحة فإنه يتعين على القاضي الالتزام بتطبيقها وإلا عرض حكمه للنقض بسبب تحريف العقود.
أما إذا كانت العبارات غامضة فإن القاضي عندئذ يصبح ملزما بتفسيرها انطلاقا من قصد المتعاقدين والقواعد المعمول بها في مجال تفسير عقود الإذعان.
وإذا تعارضت الشروط العامة مع الشروط الخاصة فإنه يجب إعمال هذه الأخيرة على اعتبار أنها تعبر عن الإرادة الحقيقية للطرفين وأنها أتت لاحقة على الشروط العامة. وإذا حصل اختلاف بين النسخ المتعددة للوثيقة فإن النسخة التي يعتد بها هي التي تكون تحت يد المؤمن له لأن المؤمن الذي قام بتحرير نسخ الوثيقة يبقى المسؤول عن هذا الاختلاف[25]. وبناء على الفصل 469 من قانون الالتزامات والعقود يعتمد القضاة تفسيرا موسعا لشروط الضمان إذا لم تكن محددة. ومقابل ذلك تفسر الشروط المتعلقة باستثناء الضمان تفسيرا ضيقا إذا كانت غير واضحة أو غامضة غير أنه يجب التنبيه إلى أن الشرط إذا كان يستدعي التأويل فمعنى ذلك أنه غير صريح ومحدد وعندما يكون الشرط كذلك فهل يجب إبطاله أم يتعين تأويله؟
تقضي المادة 14 من مدونة التأمينات بأن شروط العقد التي تنص على حالات البطلان وحالات سقوط الحق أو الاستثناءات أو حالات انعدام التأمين لا تكون صحيحة إلا إذا أشير إليها بحروف جد بارزة. فهذه المادة اشترطت لصحة الشروط المتعلقة باستثناءات التأمين أن تكون بارزة ولم تشترط الوضوح والتحديد. لذلك فإن الشرط المتعلق باستثناء التأمين إن كان بارزا لكن غير واضح فإنه يبقى صحيحا غير قابل للإبطال. ولن يقدح في هذا الاستنتاج القول إن المادة 17 من المدونة تشترط في الاستثناء أن يكون صريحا ومحددا لأن هذه المادة ليست عامة ولا تطبق على جميع حالات الاستثناء وإنما على حالة الحادث الفجائي وخطأ المؤمن له لا غير.

الفقرة الثالثة: شهادة التأمين

تسمح شهادة التأمين للمؤمن له بإثبات التأمين في مواجهة الغير كما هو الشأن في التأمين الإجباري على السيارات حيث يلزم السائق بالإدلاء بوثيقة التأمين لإثبات التأمين على السيارة.
وعلى خلاف مذكرة التغطية التي تشكل حجة كاملة على التزام طرفي العقد فإن شهادة التأمين التي لا يوقعها إلا المؤمن أو وكيله لا تشكل سوى قرينة بسيطة على وجود التأمين حسب ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 126 من مدونة التأمينات التي جاء فيها "......... تنتج قرينة وجود الضمان من خلال تقديم إحدى الوثائق التي تحدد شروط "إعدادها وصلاحيتها بنص تنظيمي، إلى الموظفين أو الأعوان المكلفين بمعاينة المخالفات" لنظام السير والجولان وهذه الوثائق لا تعني في حد ذاتها التزام المؤمن بتحمل الضمان".
والإدلاء بوثيقة التأمين إذن لا يعني أن المؤمن يضمن الحوادث التي تقع خارج دائرة الضمان أو أن الضمان يظل قائما إذا انتهى أجل العقد أو تم فسخه. كما يمكن للمؤن أن يثبت عدم وجود العقد أصلا إذا منحت الوثيقة مجاملة مثلا.
ولقد جاء قرار وزير المالية والخوصصة رقم 213.05 المؤرخ في 26 يناير 2005 المتعلق بالتأمينات الإجبارية لتحديد شروط إعداد وصلاحية شهادة التأمين.
وحسب المادة الثانية من هذا القرار يجب إعداد شهادات التأمين وفق النماذج الملحقة به وحسب الألوان التي حددها لكل نموذج.
ويجب على المؤمن أن يسلم للمكتتب شهادة التأمين عند اكتتاب أو تجديد عقد التأمين الذي يغطي المسؤولية المدنية عن العربات ذات محرك. كما يسلمه بناء على طلبه البطاقة الخضراء أو البرتقالية. وإذا تم تغيير العقد بواسطة ملحق يمس أحد الخصائص المشار إليها في هذه الشهادة فإنه يجب أن يسلمه شهادة جديدة للتأمين.
-----------------------
هوامش:
[1] - د.إدريس الضحاك " التأمين الإجباري للسيارات، الطبعة الأولى، ص 15.
[2] - إيفون لامبير فَاڤر، قانون التأمينات، الطبعة الثالثة، منشورات دالوز، ص11، الفقرة 9.
[3] - كريستيان لارومي، القانون المدني المجلد الثالث، الالتزامات العقد، الطبعة الثالثة دلتا، الفقرة 503 وما يليها، ص 481.
[4] - منشور في مجلة قضاء المجلس الأعلى، العدد 56 ، السنة 22، ص 113.
[5] - الغرفة الأولى قرار بتاريخ 20 يونيو 2000، المجلة العامة للتأمينات البرية 2000، ص 1049.
[6] - الغرفة الأولى قرار 7 يونيو 2001، المجلة العامة للتأمينات البرية 2001، ص675.
[7] - قانون التأمينات، الفقرة 210 ، ص 157.
[8] - راجع مقال الأستاذ كروس، " العقود التي تنفذ بالتدرج"، دالوز لسنة 1989، الوقائع 11، ص 49 وما يليها.
[9] - بيكو وصحبه، عقد التأمين، الفقرة 92 مشار إليه سابقا.
[10] - القانون المدني، المجلد الثالث، الالتزامات العقد، الطبعة الثالثة دلتا، الفصل 714، ص779.
[11] - منشور في كتاب عبد العزيز توفيق والدكتور محمد أفركوس، قضاء المجلس الأعلى في التأمين خلال أربعين سنة، المكتبة القانونية، ص 106.
[12] - عبد العزيز توفيق ومحمد أفركوس، نفس المرجع، ص 349.
[13] - بيكو وصحبه، مشار إليه سابقا، الفقرة 94، ص 106.
[14] - تعليق بيني على قرار الغرفة الأولى لمحكمة النقض الفرنسية المؤرخ في 18 مارس 2000، منشور في مجلة دالوز 2000 الاجتهاد القضائي 574.
[15] - بيكو وصحبه، نفس المرجع الفقرة 484 ، ص 361.
[16] - أندري فافر روشكس كورتيو، قانون عقد التأمين البري، المكتبة العامة للقانون والاجتهاد، طبعة دلتا، الفقرة 1.93 ص 41.
[17] - نفس المرجع، الفقرة 486، ص 364.
[18] - الغرفة المدنية الأولى بمحكمة النقض الفرنسية، قرار 7 يوليوز 1993، منشور بالمجلة العامة للتأمينات البرية 1994، ص 499.
[19] - محكمة النقض الفرنسية، الغرفة الثانية قرار 8 دجنبر 1976، منشور بدالوز 1977 – معلومات سريعة.
[20] - الدكتور توفيق حسن فرج، أحكام الضمان في القانون اللبناني 1986 ص368، حيث يشير إلى أن المؤمن ملزم بأن يحدد الموقف الذي يتخذه من الطلب خلال المدة التي يحددها القانون وذكر بالمادة 984 موجبات لبناني التي تتطرق إلى الضمان الجديد والتعديل.
[21] - وإن أتى النص على إطلاقه فيما يتعلق بالتعديل ففيه تفصيل وسوف نتطرق إليه عند مناقشة تمديد وتعديل العقد.
[22] - الدكتور توفيق حسن فرج ، نفس المرجع، ص 375.
[23] - نفس المرجع، الفقرة 494 ، ص369.
[24] - إيفون لامبير فاڤر، قانون التأمينات، المشار إليه سابقا، الفقرة 224 ، ص 164.
[25] - الدكتور توفيق حسن فرج، نفس المرجع، ص 375.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -