البيئة الطبيعية بين الحضارات القديمة والحضارات الحديثة

مقال بعنوان:  البيئة الطبيعية بين الحضارات القديمة والحضارات الحديثة

 البيئة الطبيعية بين الحضارات القديمة والحضارات الحديثة

مقدمة : 
يقصد بالحضارة مجموعة المظاهر العلمية، والأدبية والفنية، وكذلك الاجتماعية والثقافية، الموجودة في مجتمع ما. وتعتمد الحضارات الإنسانية المختلفة على بعضها البعض، فكل حضارة جاءت متممة للحضارة التي سبقتها، وتسهم هذه الحضارات في البناء الحضاري الإنساني للعالم بأكمله، فالحضارة الإغريقية وغيرها من الحضارات القديمة التي تميزت بوضع أساسات البناء الحضاري، وجاءت الحضارة الإسلامية وعملت على ازدهار هذا البناء الحضاري، ومن بعد المسلمين جاء الأوروبيون وطوروا هذا البناء الحضاري. 
وعرفت الحضارة كذلك بأنها مجموعة من المحاولات البشرية للتفكير والاختراع و الاكتشاف الخاص بالطبيعة؛ بهدف الوصول إلى حياة أفضل، والحضارة هي جميع النشاطات الإنسانية المرتبطة مع نواح مختلفة؛ سواء دنيوية أو دينية أو روحية أو مادية أو عقلية[1]. 
ويعتبر العنصر الثقافي ذو أهمية في كل حضارة معينة. ومن أحدث التعريفات المتفق عليها المفهوم الثقافة هو ما تم الاتفاق عليه عام 1982م في مؤتمر ميكسيكو الذي نص على أن الثقافة هي كل السمات المادية والروحية والعاطفية والتي تتيح لمجتمع ما أو لفئة فيه أن تتميز بتلك السمات عن غيرها من الفئات في ذات المجتمع أو عن غيره من المجتمعات[2]. 
وباعتبار أن البيئة الطبيعية هي الحاضن لهذا الإنسان سواء في الحضارات القديمة أو الحديثة، حيث ارتبط الإنسان بالبيئة منذ زمن طويل يمتد إلى ما قبل التاريخ، و تعامل مع البيئة المحيطة به لأجل البحث عن الغذاء، وصيد الحيوانات لأجل الغذاء و إيجاد مأوى ضد العوامل التي تفرضها الطبيعة ،ومن الصعب جدا أن يفصل الكائن الحي عن بيئته المحيطة، فبيئة الكائن الحي هي حالته التي يعيشها في موطنه البيئي، ومع تطور حياة الإنسان تزايدت أهمية الظروف البيئية وتزايد تأثير الإنسان بها في جميع مجالاته. 
و إذا كانت كل من الحضارات العريقة والحديثة قد قامتا من خلال تفاعل وتعامل الإنسان مع البيئة الطبيعية، فإنه يحق لنا أن نتساءل عن أي من الحضارتين حافظت على البيئة ؟ وماهي الانعكاسات السلبية للتطور الاقتصادي الذي عرفته البشرية في العصر الحديث؟ من خلال هذه التساؤلات سنعالج موضوعنا هذا في فقرتين رئيسيتين وفق التصميم التالي:

أولا : احترام الحضارات القديمة للبيئة الطبيعية
ثانيا : عدم احترام الحضارة الحديثة للبيئة الطبيعية


أولا : احترام الحضارات العريقة للطبيعة

لقد قامت الحضارات العريقة على استغلالها للطبيعة استغلالا بسيطا وتقليديا تراوح بين مجهوده في تطويع الطبيعة لكسب لقمة العيش وبين إنتاجه لفكر وثقافة خالدة عن طريق عدة مفكرين وفلاسفة. 
1- اعتماد زراعة وفلاحة بصورة تقليدية :
منذ أن وجد الإنسان على وجه البسيطة ، ظل هاجسه الأول هو ربح الصراع ضد الطبيعة قصد تطويعها وتسخيرها لخدمة أغراضه الوجودية ، ولتحقيق هذا المسعى مر الإنسان من عدة مراحل عانى خلالها ردحا من الزمن من قوة وجبروت الطبيعة مبديا صنوف التحدي لمقارعتها وإثبات جدارته بالوجود ككائن أصيل وكأساس لوجود الحياة على الأرض، حيث كان اتجاه الفعل الإنساني هو تطويع الطبيعة . وبمرور الزمن وتعاقب الحقب بدأ تحول الإنسان من مجرد البحث عن سبل الحياة والاستمرار من خلال ضمان قوته عبر القطف والقنص واستعمال أدوات بدائية مصنوعة من العظام ثم الحجارة في مرحلة ثانية فالفخار فيما بعد مرورا باكتشاف النار إلى مستغل لها عبر تطويعها لخدمته من خلال اكتشاف المعادن وصهرها وصنع أدوات الاستغلال الأرض وممارسة الزراعة مما شكل ثورة حقيقية في علاقته بالطبيعة ، حيث تم اعتماد المحراث الخشبي للقيام بأعمال الزراعة ، وتطورت أساليب السقي عن طريق استعمال الناعورة و المجاري تحت الأرض، وهكذا انتقل الإنسان إلى الاستقرار بدل حياة الترحال لأجل خدمة الأرض واستغلالها حيث بدأ الإنسان في استخدام الكهوف والمغارات عبر نحت الصخور وصولا إلى إنشاء المساكن والاستقرار بمنازل مشيدة.. 
ومع تطور الإنسان في الحضارات القديمة وتأمين أولوياته في البحث عن الغذاء وصيد الحيوانات ، انتقل الإنسان إلى الابتكار في ميادين أخرى غير الزراعة والفلاحة ، وذلك بالبحث والتنقيب في مختلف أنواع العلوم الإنسانية. 
2- ظهور ثقافة إنسانية خالدة :
لقد تفوق الإنسان على الطبيعة وطوعها لخدمته حيث اهتدى إلى استعمال الكتابة وذلك بإنتاج كم هائل من الأشكال والرموز كان ذلك في مصر وبعدها في الشرق الأدنى - الصين حاليا۔ ليتمكن الفينيقيون بعد ذلك وخلال الألف سنة قبل الميلاد من تقليص تلك الرموز الكثيرة إلى عدد محدود من الحروف ، وبالتالي التوصل إلى المرحلة الأبجدية من تطور الكتابة ، هذا الإنجاز تلقفه بعد ذلك الإغريق من الشرق وتم نشره. 
وتمكن الفينيقيون القدماء أيضا في الألف الثانية قبل الميلاد من اكتشاف الزجاج ، وازدهرت مناحي حضارية أخرى في مناطق متفرقة من العالم القديم ، مثل تطور العمارة والفنون والآداب والنظم السياسية والأساليب الحربية ، وسوف لن يتأتى ذلك إلا باللجوء إلى الطبيعة وإلى الغابة تحديدا لصناعة السفن والنحث على الخشب والحجارة وإلى جلود الحيوانات لأجل الكتابة والرسم. كما اشتهرت قديما الحضارات سواء في بلاد الرافدين أو في مصر بالرسم على الحجر و صناعة الأواني الفخارية، وما صاحب ذلك من فن وإبداع[3]. 
وقد اشتهرت مصر بالعديد من الآثار تدل على مدى تفاعل المصريين القدامى مع الطبيعة ومنها على الخصوص أهرام الجيزة وأبو الهول، ومعبد الكرنك والدير البحري ووادي الملوك وآثارها القديمة الأخرى ، حيث استخدمت الأهرامات كمقابر ملكية سميت باسم الملك الذي بنيت في عهده ويتم دفنه بها بعد موته ، ويعد أسلوب البناء الهرمي مرحة من مراحل تطور وازدهار عمارة المقابر لدى الفراعنة، ويتم عرض أجزاء من هذه الآثار في المتاحف الكبرى في جميع أنحاء العالم ، وتضم مصر كذلك عدة آثار الحضارات تعاقبت عليها كالآثار الرومانية والإغريقية والقبطية والإسلامية بمختلف عصورها. 
أما بلاد الرافدين فهي الأخرى استفاد الإنسان الرافدي فيها كثيرا من الطبيعة وتفاعل معها حيث تسنىله أن ينعم بالاستقرار والاستيطان عندما عرف الزراعة هناك وقاده ذلك إلى الالتصاق بالأرض ولقدتمت الطفرة الحضارية باكتشاف الكتابة هناك فحين شاء المرء أن يعبر عن فكرة اخترع الكلام والرمز صورة وكتابة فكان أهم اختراع أبدعه البشر تم على يد انسان وادي الرافدين وذلك منذ عهد السومريين في أواخر القرن الرابع ق.م واستخدم هذا الإنسان الطين كمادة أولية للكتابة واخترع طريقة تصويرية ثم مسمارية لتسجيل العقود والقوانين. 
وعلاقة بفن الكتابة نجد المفكرين اليونانيين اهتموا بالبيئة والطبيعة[4] وهكذا فقد نشر العالم والفيلسوف اليوناني أبوقراط "أبو الطب" (377-460 ق.م) كتابا بعنوان " عبر الأجواء و المياه والأماكن ، "وقد كان لأرسطو طاليس( 322-384) وتلامذته دورا كبيرا في كتب التاريخ الطبيعي التي يتحدث فيها عن عادات الحيوانات ووصفها وبيئتها التي تعيش فيها. 
ظهرت على امتداد أراضي ومناطق ومواقع العالم العديد من الحضارات التاريخية الكبيرة والمهمة ،وساهمت جميعها في تقديم الكثير من العلوم والثقافات والابتكارات، فشكلت موردا تاريخيا مؤثرة في حياة الأجيال التي أتت بعدها، وساعدت على تعزيز تميز للحضارات القديمة التي تعاقبت على مر الأزمنة. 
وقد ظهرت الفلسفة كما هو معلوم في اليونان ونضجت بالخصوص في عاصمتها أثينا مابين القرنين السادس و الرابع قبل الميلاد مكتوبة باللغة الإغريقية مستهدفة فهم الكون والطبيعة والإنسان وتشخيص سلوكه الأخلاقي والمجتمعي والسياسي وإرساء مقومات المنهج العلمي، والبحث الفلسفي والمنطقي. ولقد دشن الفيلسوف اليوناني طاليس)548- 560 ق م( حركة ثقافية تجلت في تركيزه على الفلسفةوالرياضيات ، ولقد اكتشف البرهان الرياضي في التعامل مع الظواهر الهندسية والجبرية أو ما يسمىبالكم المتصل والكم المنفصل . 
وإذا كان هناك من ينسب ظهور الرياضيات إلى فيتاغواس، فإن كانط يعد طاليس أول رياضي في كتابه" نقد العقل النظري". وظهر كذلك سقراط(399-486) ميلادية الذي اعتبر بمثابة أب الفلاسفة اليونانيين. حيث غير مجرى الفلسفة فحصرها في أمور الأرض وقضايا الإنسان والذات البشرية فاهتم بالأخلاق والسياسية .
وقد ثار ضد السفسطائيين الذين زرعوا الشك والظن ودافع عن الفلسفة باعتبارها المسلك العلمي الصحيح للوصول إلى الحقيقة وذلك بالاعتماد على العقل والجدل والبرهان المنطقي .والهدف من الفلسفة لدى سقراط هو تحقيق الحكمة وخدمة الحقيقة لذاتها، وليس الهدف وسيلة أو معيارا خارجيا كما عند السفسطائيين الذين ربطوا الفلسفة بالمكاسب المادية والمنافع الذاتية والعملية .وكان سقراط ينظر إلى الحقيقة في ذات الإنسان وليس في العالم الخارجي، وما على الإنسان إلا أن يتأمل ذاته ليدرك الحقيقة آنذاك قال قولته المأثورة : أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك. 
جاء أفلاطون بعد سقراط ليقدم تصورا فلسفيا عقلانيا مجردا ولكنه تصور مثالي ؛ لأنه أعطى الأولوية للفكر والعقل والمثال بينما المحسوس لا وجود له في فلسفته المفارقة لكل ماهو نسبي وغير حقيقي . 
ولأفلاطون نسق فلسفي متكامل يضم تصورات متماسكة حول الوجود والمعرفة والقيم. 
ويؤسس أفلاطون في جمهوريته الفاضلة مجتمعا متفاوتا وطبقيا، إذ وضع في الطبقة الأولى الفلاسفة والملوك واعتبرهم من طبقة الذهب، بينما في الطبقة الثانية وضع الجنود وجعلهم من طبقة الفضة، أما الطبقة السفلى فقد خصصها للعبيد وجعلهم من طبقة الحديد؛ لأنهم أدوات الإنتاج والممارسة الميدانية وهكذا يتبين لنا أن فلسفة أفلاطون فلسفة مثالية مفارقة للمادة والحس، تعتبر عالم المثل العالم الأصل بينما العالم المادي هو عالم زائف ومشوه وغير حقيقي. كما تجاوز أفلاطون المعطى النظري الفلسفي المجرد ليقدم لنا تصورات فلسفية واجتماعية وسياسية في كتابه جمهورية افلاطون".
ويلاحظ أيضا أن التصور الأفلاطوني يقوم على عدة ثنائيات: العالم المادي في مقابل العالم المثالي، وانشطار الإنسان إلى روح من أصل سماوي وجسد من جوهر مادي، وانقسام المعرفة إلى معرفة ظنية محسوسة فيمقابل معرفة يقينية مطلقة. وعلى المستوى الاجتماعي، أثبت أفلاطون أن هناك عامة الناس وهم سجناءالحواس الظنية و الفلاسفة الذين ينتمون إلى العالم المثالي لكونهم يتجردون من كل قيود الحس والظن وعالم الممارسة. 
يذهب أرسطو إلى أن العالم الحقيقي هو العالم الواقعي المادي، أما العالم المثالي فهو غير موجود. وأن الحقيقة لا توجد سوى في العالم الذي نعيش فيه وخاصة في الجواهر التي تدرك عقلانيا. ولا توجد الحقيقة في الأعراض التي تتغير بتغير الأشكال. أي إن الحقيقي هو الثابت المادي، أما غير الحقيقي فهو المتغير المتبدل. ولقد أعطى أرسطو الأولوية لما هو واقعي ومادي على ماهو عقلي وفكري. ومن هنا عد أرسطو فيلسوفا ماديا اكتشف العلل الأربع: العلة الفاعلة والعلة الغائية والعلة الصورية الشكلية والعلة المادية. 
ولقد استفاد العلماء العرب والمسلمون كذلك من ترجمة علوم اليونان والهند و الفرس وغيرهم حيث أرسوا قواعد البحث العلمي في مختلف العلوم ،و نذكر من هؤلاء: 
* المجريطي(1008-950م) في كتابه " الطبيعيات وتأثير النشأة والبيئة على الكائنات الحية "حيث اعتبر المجريطي أول من تحدث فيما يعرف اليوم بمراتب الهيمنة لدى الحيوانات.
* وتحدث ابن سينا (1032-950م) في كتابه الشفاء عما يسمى اليوم بعلم بيئة المتحجرات
* وقد اهتم ابن البيطار (1249-1198) في كتابه " الجامع لمفردات الأدوية والأغذية "في دراسة النباتات وبيئتها. 
* وتحدث القزويني عن تأثير البيئة على الحيوان في كتابه " عجائب المخلوقات و غرائب الموجودات." 
* الأصمعي الذي درس بعض أصناف الحيوانات البرية والبحرية ، الأليفة و المتوحشة .
*ثم أبو حنيفة الدينوري ) توفي سنة 894( في كتاب "النبات"، حيث صنفها وشرح بيئتها. 
ولقد شكل انبعاث الحضارة الإسلامية إيذانا ببدء مرحلة متميزة ، حيث أحدثت تحولات عميقة علىجميع المستويات سواء الاجتماعية أو الثقافية والعلمية والتي عكسها العصر الذهبي الممتد من القرنالثامن الميلادي إلى غاية القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين وذلك من خلال الحفاظ على الموروث الحضاري والانفتاح على حضارات الأمم الأخرى ، ومن خلال كذلك التوسعات التي شملت أجزاء كبيرة من آسيا وإفريقيا وأوربا ، بلغت معه الحضارة الإسلامية أوجها مع العثمانيين . 
ولعل فن العمارة الإسلامية خير شاهد على ذلك ، سواء في آسيا أو إفريقيا أو أوربا وتحديدا الأندلس التي عمر بها المسلمون حوالي ثمانية قرون ، تاركين وراءهم آثارا فنية ومعمارية لا زالت تستثمر إلى يومنا هذا على المستوى السياحي. 
وإذا كان أثر الحضارات العريقة على الإنسانية واضحا إن على مستوى العلوم أو الآثار، فإن ذلك كان في تناغم تام مع البيئة الطبيعية ودون الإضرار بها بل طبع هذه الحضارة الحفاظ على الأصالة والهوية الثقافية ،خلافا لما ما سنراه بخصوص الحضارة المعاصرة في تأثيرها على البيئة الطبيعية وذلك من خلال النقطة الثانية من عرضنا هذا.

ثانيا :عدم احترام الحضارة المعاصرة للبيئة 

1-اعتماد الصناعة واستعمال التكنولوجيا : 
إذا كانت الحضارات القديمة قد نشأت وتطورت بفعل العوامل الطبيعة والبيئية ، فإن الحضارات الحديثة على العكس من ذلك تطور مجال اقتصادها على حساب البيئة .فمنذ الثورة الصناعية وإلى يومنا هذا كانت الأولوية الاقتصادية المتمثلة في النمو والتنمية الاقتصادية مستحوذة على كل الاهتمام ولم يكن لقضايا البيئة اهتمام يذكر في رسم البرامج والسياسات الاقتصادية[5] ، حيث كان الهاجس الرئيسي هو التنمية الاقتصادية فكان لذلك آثار سلبية خطيرة تتمثل أساسا في الاختلال البيئي الخطيروالذي من مظاهره تلوث المياه ونذرتها نتيجة انتشار الوحدات الصناعية واعتمادها على المواد الكيماوية التي تتسرب إلى المياه الجوفية ، كما أن انبعاث الغازات السامة من المصانع ساهم في تلويث الهواء وبالتالي الانعكاس سلبا على صحة الأفراد. 
لقد ظل الإنسان إلى حدود بداية العصر الحديث متعايشا مع البيئة الطبيعية مستغلا لها في حدود المقبول والمطلوب مما احتاجه آنذاك إما لسد حاجياته الغذائية أو لتلبية إبداعاته ومواهبه سواء في الفكر والمعرفة أو في إبراز قدراته الفنية ، لتتغير الموازين بعد ذلك مع الحضارة المعاصرة بحدوث ثورات صناعية واكبتها حركة من الاختراعات في مختلف الميادين مكنت الإنسان - وخاصة الأوربي - من اعتلاء منصة التقدم الحضاري الذي رافقته عملية الاستحكام في رغبات الهيمنة والتسلط التي حولت العالم إلى مناطق تنافس أوربي ، مما شكل وبالا على مناطق التنافس ، التي تعرضت فيه البيئة الطبيعية وما تشمله من ثروات طبيعية وحيوانية إلى استنزاف كبير. 
فمن مرحلة العجز والضعف أمام الطبيعة ارتقى الإنسان في العصر الحالي إلى إنتاج أدوات حتفه بنفسه من خلال الإنتاج الصناعي الهائل الموجه نحو التصدير وما صاحبه من تلوث كان له الأثر السلبي الكبير على حياة الإنسان وصل في أوجه إلى إنتاج أسلحة لم يكن يدر في خلد أي أحد أن الأمر سيتجاوز إخضاع الطبيعة إلى إنهاكها وإتلافها والتعدي عليها ، وذلك بصنع أدوات هلاکه وهلاك كل شيء من حوله [6]. 
فإنتاج الأسلحة المدمرة وصنعها وحيازتها دليل على اختفاء القيم الروحية والإنسانية للإنسان في الحضارة المعاصرة. 
لذلك فثمن الاستجابة لتقدم الإنسان الصناعي من خلال إنجازاته على امتداد العصور دفع من طرفالطبيعة بتكلفة باهظة فالتغيرات الحاصلة في الغطاء الجوي للأرض أو ما يعرف بثقب طبقة الأوزوننتج عنه في السنين الأخيرة تقلبات المناخ بصورة غير طبيعية واستفحال الكوارث الطبيعية كالأعاصير والفيضانات ، وقد عرف الغطاء النباتي نزيفا حادا نتيجة التوسع العمراني بسبب ضعف في التخطيط وكذا نقص في الوعاء العقاري الذي يقابله تزايد كبير في عدد السكان. 
ولم تخل الأرض هي الأخرى من الاستغلال العشوائي للإنسان وذلك بتدمير الغابات والاستغلال المفرط والغير عقلاني لثرواتها مما ساهم بشكل كبير في الإضرار بالبيئة نتيجة ظهور التصحر وبالتالي تراجع كبير في مساحات الأراضي الزراعية ، واندثار أنواع من النباتات والحيوانات ، مما يتسبب في ضعف الإنتاج الغذائي والحيواني ، وزيادة الهجرة السكانية. 
و لم تنج البحار هي الأخرى من التلوث حيث غالبا ما تكون عرضة للمياه العادمة الناتجة عن الاستعمال المنزلي أو الصناعي ، مما انعكس على الثروة البحرية حيث أصبحت العديد من الكائنات البحرية مهددة بالانقراض، وهكذا فقد نالت البحار والمحيطات والخلجان حظا كبيرا من التعدي من طرف الإنسان في الوقت الراهن بدأ من الصيد الجائر للثروات السمكية مرورا بنقل ملايين الأطنان يوميا من النفط ومشتقاته ومن المواد الخطيرة عبر ناقلات تكون معرضة للأعطاب والغرق في كل لحظة والأمثلة كثيرة على ذلك ، وانتهاء برمي المياه العادمة والملوثة - بل أحيانا مسمومة - من طرف الوحدات الصناعية التي لا تعتبر الحفاظ على البيئة من بين أهدافها وبرامجها. 
2- ظهور ثقافة مزدوجة :
تتمثل هذه الثقافة المزدوجة جانب ملتزم وآخر مصطنع ، فالثقافة الملتزمة يناضل أهلها من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه من خلال التوعية والتنبيه إلى مخاطر عدم الاهتمام بالجانب الطبيعي والبيئي ، ومحاولة رصد أهم المشكلات المتعلقة بالبيئة والطبيعة ، وهكذا ظهرت جمعيات وأحزاب تتخذ من الحفاظ على البيئة ميدانا للاشتغال. 
في حين يتمثل الجانب الآخر من الثقافة ، في تلك الثقافة المصطنعة والتي سلبت الشعوب والأممحريتها ، ثقافة لم تولي اهتماما للطبيعة ، ولم تنهل من الحضارات القديمة ، بل سارت في تناغم معاستعمال التكنولوجيا الحديثة ، فكانت بحق ثقافة قائمة على الاستلاب العقلي والروحي. 
وهكذا يتضح أن الحضارة القديمة - كما أشار إلى ذلك أستاذنا الكريم عبد الكريم غالي - اندمجت مع الطبيعة فطورتها بالعلوم وخلدتها بالفنون ، ولا أدل على ذلك ما ورثه الإنسان الحالي من قيم و علوم وآثار ضاربة في عمق التاريخ ، ولا زالت البشرية وستبقى تنتفع منها إلى الأبد. 
بخلاف الحضارة الحديثة ، يضيف أستاذنا الكريم ، التي انغمست بالصناعة واتسخت بوقودها واختنقت بدخانها. 
لذلك يتعين التعاون البناء بين القائمين على المشروعات وعلماء البيئة[7] لأن إنجاز أي مشروع يجب أن يأخذ بعين الاعتبار احترام البيئة ، ولهذا يجب أن يدرس كل مشروع يستهدف استثمار البيئة بواسطة المختصين وفريق من الباحثين في الفروع الأساسية التي تهتم بدراسة البيئة الطبيعية ، حتى يقرر الفريقان معا في التغييرات المتوقع حدوثها عندما يتم المشروع ، فيعملا معا على التخفيف من التأثيرات السلبية المحتملة على أن تظل الصلة بين المختصين والباحثين قائمة لمعالجة ما قد يظهر من مشكلات جديدة. 
ويتطلب الأمر كذلك سن تشريعات تخص الحفاظ على البيئة تلزم بها الشركات عامة والوحدات الصناعية خاصة التي لها علاقة بإنتاج مواد مضرة بالبيئة. 
- تجنب إغراق النفايات في المسطحات المائية أو إلقائها عشوائيا في الطبيعة، وخاصة النفايات النووية والتنفيذ الجاد لمعاهدة حظر التجارب النووية حماية للبيئة البحرية من التلوث. 
- ترشيد استخدام الطاقة الأحفورية  (البترول) الفحم الغاز الطبيعي وتطوير مصادر الطاقة البديلة مثلطاقة الرياح والطاقة الشمسية ، وهذا مايثير التساؤل عن التدابير الواجب اتخاذها الحماية البيئة وتبدأهذه التدابير بتنمية الوعي البيئي لدى الجماهير وتصل إلى حد سن التشريعات الملزمة بشأن حماية البيئة من التلوث. 
وفي هذا الصدد تم على الصعيد الدولي انعقاد العديد من المؤتمرات والاتفاقيات الدولية بخصوص مجال البيئة نذكر بعضها كالتالي: 
الاتفاقيات الخاصة بحماية طبقة الأوزون [8]، ومنها: 
- اتفاقية فيينا لحماية طبقة الأوزون لعام 1985 وذلك من أجل حماية طبقة الأوزون من الاستفادة بفعل الكيميائيات المصنعة من طرف الإنسان ، وطبقة الأوزون هذه تحمي سطح الأرض من الاشعاع فوق البنفسجي ، والاستنفاذ يمكن أن تكون له آثار معاكسة مثل زيادة سرطان الجلد ، ونقص المحاصيل الزراعية في الحقول. 
- بروتوكول مونتريال الخاص بالمواد المسببة لاستنفاذ طبقة الأوزون لعام 1987 والذي دعا الدول الأطراف إلى ملائمة قوانينها الوطنية مع هذا البروتوكول اتفاقية كيوتو في اليابان الخفض انبعاث الغازات الضارة بالبيئة لعام 1997. 
- الإتفاقيات المتعلقة بالتخلص من النفايات الخطيرة : نذكر منها اتفاقية بازل بشان التحكم في حركة النفايات الخطرة عبر الحدود والتخلص منها، وقد أبرمت بمدينة بازل السويسرية في 1989/03/22. 
- الاتفاقية الدولية بخصوص تغير المناخ وقد أبرمت في الريو أثناء انعقاد قمة الأرض سنة 1992 ، واتفاقية مونتريال سنة 1989، 
واتفاقية كيوتو سنة 1992 بريو دي جانيرو ، وهي معاهدة بيئية دولية هامة ، وتتضمن هذه الاتفاقية مجموعة من الالتزامات التي أقرتها اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ ، حيث تم الاتفاق في هذه المعاهدة على خفض الانبعاث الكلي للغازات الدفيئة ، وتعهدت فيها الدول المتقدمة بتمويل وتسهيل أنشطة نقل التكنولوجيا إلى الدول الأقل نموا. 
- الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية البيئة البحرية : منها الاتفاقية الدولية لمنع تلوث البحار بالزيت لعام 1954، والاتفاقية الدولية المتعلقة بالتدخل في أعالي البحار في حالات الكوارث الناجمة عن التلوث بالنفط ، اتفاقية برشلونة لحماية البحر المتوسط من التلوث لعام .1976 
بالإضافة إلى العديد من الاتفاقيات الأخرى المتعلقة بحماية الثروة السمكية ، أو الخاصة بمكافحة التصحر ، أو المتعلقة بحظر الأسلحة النووية... 

خاتمة :
إن الإنسان بتقدمه هذا وتحقيقه للمنجزات الاقتصادية والصناعية، إنما كسب معركة الوجود كنتيجة غير مضمونة، لأن الاستمرار في الإضرار بالأنظمة البيئية من حوله يقلص من حظوظ الأجيال القادمة في الحياة فوق الأرض في المستقبل. ذلك أن علاقة البيئة الطبيعية بالحضارة الحديثة هي علاقة يغلب عليها الأخذ دون العطاء ، فالمجتمعات في الوقت الراهن تقدم مصلحة التطور الاقتصادي ، دون إعطاء أهمية للأوضاع البيئية التي تئن تحت وطأة التلوث ، لذلك فهناك علاقة اعتمادية داخلية بين الإنسان وبيئته فهو يتأثر بها ويؤثر عليها وعليه يبدو جليا أن مصلحة الانسان الفرد أو الجماعة تكمن في تواجده ضمن بيئة سليمة لكي يستمر في حياة صحية سليمة. 
لذلك يبقى مطلب تنمية الوعي البيئي مطلبا ملحا ، حيث تحتاج البشرية إلى أخلاق اجتماعية عصرية ترتبط باحترام البيئة ، ولا يمكن أن نصل إلى هذه الأخلاق إلا بعد توعية حيوية - كما أسلفا سابقا - توضح للإنسان مدى ارتباطه بالبيئة وتعلمه أن حقوقه في البيئة يقابلها دائما واجبات نحوها فليست هناك حقوق بدون واجبات. 
وهكذا فالسلطة المعرفية للإنسان إنما أدت في محصلة الأمر إلى قهر الطبيعة والإضرار بمصالح الأجيال المقبلة التي قد لا يترك لها شيء من الموارد بعد اكتشافها واستغلالها استغلالا مفرطا مما يعجل لا محالة بنفاذ عدد منها. 
ومهما بلغ الضرر الذي يلحقه الإنسان بالطبيعة فإنه لا يؤذي في الأخير إلا نفسه ، لأن الطبيعة تحتفظ دوما بكامل أسرارها وقوتها التدميرية لنسف كافة منجزات الإنسان في لحظة غضب ، بينما يبقى الانسان المفضل بنعمة العقل مترنحا في شر ما ارتكبت يداه في حق الطبيعة ، عاجزا عن اتقاء ثورتها . 
يبقى المخرج هو التعجيل باتخاذ كل ما من شأنه حماية البيئة الطبيعية باستعمال الطاقات النظيفة والمتجددة وهذا ما تنبهت إليه الدول مؤخرا وخاصة الأوربية منها لخطورة الوضع فدقت ناقوس الخطر ، وأصبحت تؤمن بضرورة حماية البيئة ، وفي هذا الصدد أقرت المفوضية الأوربية حزمة من الإجراءات للحد من التلوث كالاعتماد على المصادر النظيفة والمستدامة كقوة الرياح والطاقة الشمسية ، وتخفيض الانبعاثات من المنشآت الصناعية ، والتحول من الطاقة المستمدة من الفحم والبترول إلى الطاقة النظيفة بما في ذلك استعمال الناقلات ذات المحركات الكهربائية للحد من تلوث الجو بالدخان ، ورغم ذلك فإن تحقيق الأهداف المرجوة لا زالت ضعيفة بحكم عدم فرض قيود صارمة على الشركات. 
------------------------------
الهوامش :
[1] افنان ابو مفرح،مفهوم الحضارة،موقع www.mawdoo3.com تاريخ الزيارة 01/04/2020 على الساعة 10 صباحا. 
[2] رانيا اسحاق،تعريف لغة الثقافة، موقع www.mawdoo3.com تاريخ الزيارة 01/04/2020 على الساعة 10 والنصف صباحا. 
[3] الانسان والطبيعة عبر التاريخ :مسارات التطور، عبد اللطيف الركيك، مقال نشر بجريدة هسبريس بتاريخ تاريخ الزيارة 02/04/2020 على الساعة 6 مساءا 
[4] الدكتور علياء بوران ومحمد حمدان أبودية ، علم البيئة الطبعة العربية الثانية ، الإصدار الخامس 2009 4 ص:16 
[5] محمد عبد الرحمان الشرنوبي،الإنسان والبيئة،مكتبة الانجلو،مصر،1976 ص: 34 
[6] الإنسان والطبيعة عبر التاريخ:مسارات التطور، عبد اللطيف الركيك،مقال نشر بجريدة هسبيريس تاريخ الزيارة 02/04/2020 على الساعة 7 مساءا. 
[7] الدكتور سلام فاضل علي ، البيئة والتلوث أسس ومبادئ وتطبيقات، دار دجلة للنشر والتوزيع السنة 2015 
[8] البيئة والتلوث أسس ومبادئ وتطبيفات : الدكتور سلام فاضل علي م س ص 716.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -