التطبيقات التاريخية لفصل السلطات

مقال بعنوان: التطبيقات التاريخية لفصل السلطات في النظام البرلماني (النموذج البريطاني)

التطبيقات التاريخية لفصل السلطات: النظام البرلماني (النموذج البريطاني) PDF

مقدمة :
عندما نتحدث عن النظام البرلماني ينصرف الذهن مباشرة إلى بريطانيا، فهي التي تعتبر مهد الديمقراطية البرلمانية في العالم. ففيها نشأت وتوطدت الركائز الأساسية لهذا النظام وانطلاقا منها انتقل إلى مختلف الدول التي تبنته فيما بعد، الملكية منها والجمهورية. ولكن النظام البرلماني في هذا البلد لم ينشأ دفعة واحدة بل تطلب الأمر المرور بمراحل تاريخية متعددة، قبل أن يستقر على الوضع الذي هو عليه اليوم.
والنظام البرلماني البريطاني، الذي يقوم على أساس الفصل المرن للسلطات، يتصف بعدد من الخصائص كرستها القواعد الدستورية العرفية التي يقوم عليها، بالإضافة إلى بعض القوانين العادية ذات الطابع الدستوري التي أقرها البرلمان البريطاني في فترات متباعدة. 

المحور الأول: التطور التاريخي للنظام البرلماني البريطاني 

تعود الأصول التاريخية للنظام البرلماني البريطاني إلى القرون الوسطى، إذ منذ ذلك الحين عرفت بريطانيا تطورات سياسية هامة وإن اختلفت عناوينها في كل مرحلة فقد صبت كلها في اتجاه تمهيد الطريق لنشأة وتعزيز أسس النظام البرلماني. ففي مرحلة أولى (من القرن 12 عشر إلى القرن 17)، اتسمت الحياة السياسية في هذا البلد بالصراع بين الأرستقراطية مجسدة في البرلمان والملك من أجل توطيد الحريات العامة والحد من السلطات المطلقة للملوك. وفي مرحلة ثانية (القرنان 18 و19)، جرى توطيد سلطة البرلمان وإقامة الأسس التقليدية للنظام البرلماني. وفي مرحلة ثالثة (انطلاقا من بداية القرن العشرين)، تم إرساء قواعد النظام الديمقراطي.

الفقرة الأولى: الصراع من أجل الحد من سلطات الملوك 

منذ استيلاء النورمانديين عليها سنة 1066، تميزت بريطانيا بصراع مرير على السلطة بين الملوك، الذين كانوا يطمحون لحكم مطلق، وبين طبقة النبلاء الأرستقراطيين، ملاكي الأراضي، الذين كانوا يحرصون على صيانة امتيازاتهم ويطمحون إلى الحد من سلطات الملوك المطلقة واستثمارها لمصلحتهم.
في خضم هذا الصراع الطويل، الذي استمر حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر، اضطر الملوك أمام ضغط النبلاء وتمردهم إلى التخلي عن جزء من سلطاتهم والاعتراف لهم ببعض الحقوق والحريات، وإن كان تراجع سلطات الملوك لم يخل من عدة محاولات ناجحة من طرفهم لإعادة بسط الحكم المطلق الذي لم يتم وضع حد نهائي له إلا بعد ثورة 1688.
وقد تجلت انتصارات النبلاء في هذا الصراع من خلال عدد من المواثيق والعهود التي أعلنها الملوك أو اضطروا إلى القبول بها، ومن أهمها العهد الأعظم (الماكناكارتا)، وعريضة الحقوق، وقانون الهابياس كوربوس (أو قانون سلامة الجسد)، وقانون الحقوق.
أولا ـ الماكنكارتا ( Magna – Carta) 
ارتبط صدور هذا الوثيقة، التي تعتبر "فاتحة عهد جديد في تاريخ البشرية وتاريخ الوثائق القانونية والحقوقية"[1]، بسياق سياسي ميزه على الخصوص الصراع الذي كان قائما بين النبلاء والملك جون الملقب باسم جون بلا أرض ( Jean sans terre). فقد أدى قيام الملك بفرض ضرائب تعسفية على النبلاء والزج ببعضهم في السجن دون سبب مشروع إلى تمردهم عليه، قبل أن يتم القبض عليه وإلزامه بتوقيع وثيقة مكتوبة أكدت، بصفة خاصة، على "عدم جواز القبض على شخص أو حبسه أو تجريده من حريته أو حرمانه من حماية القانون أو نفيه إلا بحكم قضائي صادر عن المحلفين طبقاً للقانون"[2]، وألزمت الملك بالإقرار بأنه لن "يرفض أو يتعصب أو يتساهل في تطبيق القانون وإيفاء العدالة"[3]. كما أعطت الإمكانية للجنة مكونة من 25 من النبلاء (البارونات) بأن تلغي بالقوة قرارات الملك[4]. هذه الإمكانية، وإن كانت تعد إعمالا لمبدأ كان ساريا من قبل (مبدأ حبس المال)، فإن الجديد فيها يتمثل في كونها أصبحت تطبق على الملك[5]. ولعل أبلغ تعبير يبين قيمة هذه الوثيقة هو هذا الوصف الذي نقل عن الملك جون نفسه: "لقد نصوب علي 25 ملكا" في إشارة إلى لجنة البارونات[6].
تكمن قيمة هذه الوثيقة الصادرة سنة 1215، والتي سيتم تجديد وتأييد العمل بما ورد فيها في سنوات لاحقة ( 1216، 1217، 1225و 1297) مع إدخال بعض التعديلات عليها، في كونها تضمنت تعهدا واضحا وصريحا من الملك إلى رعاياه، بعدما كانت القوانين السائدة من قبل تلزم الرعايا دون الحكام. وأدت، بالتالي، إلى إرساء "مبدأ دستوري" مهم يسمح ب"إمكانية محاسبة الحاكم من قبل رعاياه على ما يترتب عن استخدامه للسلطة"[7]، ويجعله خاضعا في تصرفاته إلى ما يقضي به القانون.
إلا أن الملك جون تنكر في العام التالي لهذه الوثيقة، وتمكن من تجاهل ما جاء فيها من بنود. وهكذا عاد الحكم المطلق للظهور، وظل قائما حتى مطلع القرن السابع عشر. وطوال تلك المدة كانت الماكناكارتا تمثل رمزا للصراع في سبيل الحرية، ومن هنا استمدت قيمتها كأهم وثيقة دستورية في تاريخ بريطانيا السياسي، باعتبارها المصدر الأول وحجر الزاوية للحريات الإنجليزية الحديثة.
مع ارتقاء الملك جاك الأول، أول ملوك أسرة آل ستيوارت، عرش بريطانيا سنة 1603، واستئنافه للحروب التاريخية ضد ملوك فرنسا، سنحت الفرصة ثانية للنبلاء للمطالبة بحقوقهم. واتخذت هذه المطالبة شكل صراع بين الملك والبرلمان الذي يمثلهم حول حق هذا الأخير في الموافقة على فرض الضرائب. ولما كان الملك الجديد مضطرا للحصول على الأموال اللازمة لتغطية نفقات الحرب اضطر للتنازل أمام البرلمان ووافق على منحه حق التصويت على فرض الضرائب.
ثانيا ـ عريضة الحقوق (Pétition of right) 
إذا كان "الميثاق الأعظم" قد عكس إرادة النبلاء في التحرر من سطوة الملوك، فقد كانت عريضة الحقوق تعبيرا عن النفوذ المتنامي الذي أصبح للشعب في إنجلترا. فانطلاقا من سنة 1311، تكرست تمثيلية عامة الشعب في البرلمان إلى جانب النبلاء. وبذلك فقد تعززت قوة البرلمان، و"أضحى لديه سلاح يشهره في وجه الملك عند مساسه بحريات الشعب ألا وهو الامتناع عن الموافقة على ما يحتاج الملك إلى جبايته من الضرائب"[8].
على هذا الأساس، سيستغل البرلمان فرصة حاجة الملك شارك الأول لتمويل حربه ضد اسبانيا لإرغامه على توقيع عريضة تؤكد على أن "فرض الضرائب من حق البرلمان وحده، وعلى أن الأحكام العرفية لا تفرض زمن السلم، وأن من حق السجناء أن يطعنوا في شرعية احتجازهم، وعلى حظر إيواء الجنود في مساكن المدنيين، التي كانت من العادات المتبعة من جانب الحكام وتسببت في الكثير من المتاعب للمدنيين"[9].
بيد أن قبول الملك بهذه العريضة لم يمنع من تجدد الصراع بينه وبين البرلمان، اتخذ انطلاقا من سنة 1642، شكل ثورة قادها أوليفر كرومويل (O. Cromwell)وحظيت بتأييد البرلمان، ولاسيما مجلس العموم، الذي أصدر قانونا يقر بأن "شن الملك الحرب على البرلمان يعد خيانة عظمى"، وأن "الشعب بعد الله هو مصدر كل سلطة عادلة" وأن النواب وهم يمثلون الشعب "أصحاب السلطة العليا في هذا الأمة وأن لتشريعاتهم قوة القانون دونما حاجة لموافقة اللورادات أو الملك". وهي الثورة التي كان من نتائجها إعدام الملك وإعلان الجمهورية (1649)، وإصدار أول دستور (1653) خطي حديث في بريطانيا والعالم.
لكن الجمهورية الجديدة لم تصمد إلا بضعة أشهر بعد وفاة زعيمها (1658)، إذ لم يتمكن ريتشارد كرومويل، الذي تولى الحكم بناء على وصية والده، من الصمود في وجه ما أسماه هو جو المؤامرات التي كانت تحاك ضده، حيث اضطر لاعتزال الحكم، مفسحا المجال لعودة النظام الملكي مجددا إلى البلاد باعتلاء الملك شارل الثاني العرش (1660) بعد أن تعهد للبرلمان باحترام سلطاته وحقوقه، واعترف للمواطنين بالحرية الدينية.
ثالثا ـ قانون الهابياس كوربوس ( Habeas Corpus Act) 
يعرف بقانون سلامة الجسد، وقد أصدره البرلمان البريطاني سنة 1679، قبل أن يضطر الملك شارل الثاني للموافقة عليه. والغاية منه ضمان الحرية الشخصية للمواطنين وحمايتها من تعسف السلطة، حيث يتضمن القواعد الأساسية المتعلقة بحماية المواطن من الاعتقال، وبالإجراءات القانونية اللازمة للاعتقال والتقديم للمحاكمة أمام القضاء بعد ذلك. ويعتبر هذا القانون المحور الأساسي للحريات الشخصية التي ما يزال يعتد بها إلى اليوم في بريطاني.
رابعا ـ إعلان / قانون الحقوق (Bill of rights) 
رغم الأهمية التي مثلتها الوثائق الحقوقية السابقة، بالنسبة للتاريخ السياسي والحقوقي الإنجليزي والكوني، فإن "إعلان/ قانون الحقوق" لسنة 1689، يبقى دوى أهمية خاصة، حيث يعتبره بعض الفقهاء بأنه بمثابة "دستور إنجلترا الحديث"، ليس فقط لأهمية المضامين التي حملها، وإنما أيضا لارتباط بواحدة من أكبر الثورات التي شهدها التاريخ العالمي (ثورة 1688).
ففي أعقاب تسلم الملك جيمس الثاني الحكم في إنجلترا سنة 1685، سادت هذه البلاد ذات الأغلبية البروتستانتية مخاوف من أن يعيد هذا الملك الكاثوليكي المذهب سلطة الكنيسة الكاثوليكية إلى إنجلترا، وتزايدت هذه المخاوف مع إقدام الملك على تعميد ابنه كاثوليكيا، وتوزيعه لمناصب مهمة على الكاثوليك، فضلا عن أحكام الإعدام التي أصدرها في حق عدد من المشاركين في التمرد الذي عرفته وقتئذ بعض المقاطعات الغربية من إنجلترا[10]. وكرد فعل على ذلك لجأ المعارضون للملك في البرلمان إلى الاتصال سرا بحاكم "اتحاد مقاطعات الأراضي المنخفضة" (هولندا) الأمير "وليام أوف أرونج" وزوجته ماري ابنة الملك شارل الأول البروتستانتية، داعيان إياهما لتحرير إنجلترا من قبضة النفوذ الكاثوليكي. وهو الأمر الذي قبله الأمير وليام، ونفذه بتاريخ 5 نونبر 1988[11].
لكن مع هروب الملك جيمس الثاني بعد أن أصبحت معظم قواه تؤيد الأمير وليام، طرح التساؤل في أوساط البرلمان الإنجليزي، وخاصة في مجلس العموم، حول ما إذا كان وضع البلاد تسليم البلاد للأمير المذكور لن يؤدي إلى إعادة إنتاج استبداد جديد، قبل أن يهتدي البرلمان إلى أهمية وضع وثيقة جديدة، أكدت، بصفة خاصة، على "حقوق وحريات الشعب الإنجليزي القديمة"، أي تلك التي وردت في الوثائق السابقة، و"بطلان وعدم قانونية إصدار قوانين بمراسيم ملكية دون موافقة البرلمان"، و"بطلان إصدار القوانين استنادا إلى سلطات الملك الخاصة، على النحو الذي مارسه الملك السابق"، و"بطلان وعدم شرعية إقامة محاكم لمحاكمة رجال الدين"، و"عدم شرعية تحصيل الأموال خلافا لما صدر به قانون من البرلمان". كما أكدت على "أن الانتخابات لابد أن تكون حرة ونزيهة، وعلى "أن أية نقاشات في البرلمان، أو آراء يدلي بها عضو في البرلمان، لا يحاسب عليها إلا من جانب البرلمان ذاته"[12].
بذلك، فقد أنهت هذه الوثيقة، أو لنقل هذه "الثورة البيضاء" غير الدامية، أي زعم ملكي بأن الحكم هو تفويض إلهي، ووضعت حدا للفكرة التي كانت تقضي بأن القوانين هي منحة ملكية يمكنه التراجع عنها متى يشاء، كما حسمت صراع المذاهب بالقضاء على المذهب الكاثوليكي، بعد أن أجبر الملك الجديد على تلاوة القسم الذي يتبرأ فيه من هذا المذهب، وبعد أن تضمن إعلان الحقوق نفسه بنودا تمييزية لصالح البروتستانتيين، خاصة عندما نص على أن "الرعايا من البروتستانت يمكنهم حمل الأسلحة المناسبة للدفاع عن أنفسهم، بما يتناسب مع وضعهم، وبما يسمح به القانون"[13].

الفقرة الثانية: قيام النظام البرلماني و إرساء أسسه 

إذا كانت ملامح النظام البرلماني في بريطانيا قد أخذت تبرز منذ أواخر القرن السابع عشر، وعلى وجه التحديد انطلاقا من ثورة 1688، التي تحدثنا عنها، فإن أسس هذا النظام وقواعده التقليدية لم تتضح وتترسخ إلا خلال القرنين التاليين في ارتباط ببعض الظروف.
أ ـ الظروف المساعدة في قيام النظام البرلماني 
أدى الصراع الذي دار بين الملوك والبرلمان خلال القرون الخمسة السابقة تدريجيا إلى إضعاف الوزن السياسي للملك والحد من تأثيره في الحياة السياسية لتنتقل مهام ممارسة الحكم إلى حكومة متضامنة منبثقة عن البرلمان وتعمل تحت مراقبته. وقد لعبت بعض الظروف التاريخية دورا مساعدا في صنع هذا المسار، الذي أصبح فيه البرلمان الممثل للإرادة "الشعبية" والمصدر الأساسي للسلطة وتحولت فيه الملكية إلى مؤسسة رمزية تسود ولا تحكم، لعل من أهمها:
أولا: اضطرار الملك ويليام الثالث للتخلي عن جزء هام من مقاليد الحكم ومهامه إلى وزرائه، وذلك نتيجة انشغاله بالحرب مع ملك فرنسا لويس الرابع عشر في بداية القرن الثامن عشر. فبحكم ما كانت تتطلبه هذه الحرب من نفقات باهضة لابد من تغطيها بواسطة ضرائب جديدة التي لا سبيل لفرضها إلا عن طريق البرلمان، فقد اضطر الملك لاختيار وزرائه من بين أعضاء البرلمان، وخاصة من الأعضاء المنتمين لحزب الأغلبية فيه وذلك رغبة منه في كسب تأييده ودفعه للموافقة على الاعتمادات التي تتطلبها الحرب. وهكذا نشأ واستقر العرف البرلماني المتمثل في أن يترك الملك شؤون الحكم الفعلية لحكومة منبثقة عن البرلمان وتعمل تحت إشرافه ومراقبته.
ثانيا: وفاة الملك ويليام الثالث وتولي العرش من طرف ملك ألماني الأصل (جورج الأول/ 1714) كان جهله باللغة الإنجليزية قد فرض عليه عدم المشاركة في مناقشات مجلس الوزراء. وهو الأمر، الذي أدى إلى نشوء واستقرار قاعدة عرفية جديدة في النظام البرلماني البريطاني تقتضي أن يجتمع الوزراء فيما بينهم فيتداولوا ويقرروا ما يشاءون في أمور الدولة في غياب الملك، وبدون أخذ رأيه فيها، وهي القاعدة التي لا تزال سارية إلى يومنا هذا.
ثالثا: قيام الوزراء بممارسة مهام الحكم الفعلي بعيدا عن تأثير وتدخل الملك، واضطرار هذا الأخير إلى اختيارهم من بين أعضاء البرلمان، وما نتج عنه من ظهور قاعدة برلمانية جوهرية متمثلة في مسؤولية الحكومة سياسيا أمام البرلمان، بعد ما كان الوزراء في السابق، المختارين من قبل الملك بحرية ليعاونوه في شؤون الحكم، مسؤولين مباشرة أمامه فقط. وبذلك، فقد أضيفت لمسؤولية الوزراء أمام الملك مسؤولية جديدة أمام البرلمان.
رابعا: تحول المسؤولية السياسية للوزراء، من جهة، من مسؤولية مزدوجة أمام الملك والبرلمان إلى مسؤولية وحيدة اتجاه البرلمان فقط، خاصة مع تزايد سلطات ونفوذ هذا الأخير، ومن جهة أخرى، من مسؤولية جنائية فردية إلى مسؤولية سياسية تضامنية. فقد بدأت مسؤولية الوزراء بالظهور في الميدان الجنائي، حيث كان باستطاعة مجلس العموم أن يوجه لهم الاتهام في حال ارتكابهم لجرم ما، ويؤدي هذا الاتهام لتقديمهم للمحاكمة أمام مجلس اللوردات، وشيئا فشيئا أخذ البرلمان يعتبر ارتكابهم لأخطاء سياسية فادحة بمثابة جرم يمكن أن يؤدي إلى توجيه اتهام إليهم يكون من نتيجته على الأقل إجبار وزير على استقالته. ولما كان الوزراء قد اعتادوا أن يجتمعوا فيما بينهم ويتداولوا ويقرروا ما يشاءون من أمور متعلقة بقضايا الحكم، فقد ظهر لديهم شعور من التضامن ما لبث أن تطور تدريجيا ليأخذ شكل المسؤولية التضامنية أمام البرلمان باعتبارهم يشكلون هيئة جماعية واحدة.
خامسا: احتفاظ الملك لنفسه بحق اعتباره غير مسؤول عن أعماله اتجاه أي سلطة أخرى كمقابل لتخليه لوزرائه عن مهام الحكم الفعلي. هذه القاعدة المرتبطة بحرمة الملك وحصانته إذا كانت مؤكدة منذ القدم مستندة في ذلك إلى الاعتقاد القائل بأن "الملك لا يمكن أن يخطأ" فإنها أصبحت مقبولة بصورة أفضل بعد ابتعاد الملك فعليا عن ممارسة مسؤوليات الحكم. وهكذا يظهر كيف استقرت، من خلال الظروف والممارسات العرفية، مجموعة القواعد الأساسية التي يتصف بها النظام البرلماني البريطاني خاصة، والنظام البرلماني عموما، قبل أن يتم تعزيز ذلك بممارسات وقواعد أخرى انطلاقا بداية القرن العشرين.
ب ـ إرساء أسس النظام البرلماني 
بالرغم من هذه التطورات الهامة التي عرفتها الحياة السياسية البريطانية، فقد ظلت الديمقراطية بمعناها الحقيقي، التي تفترض مشاركة جميع المواطنين، على قدم المساواة، في تقرير شؤون الحكم وتسيير القضايا العامة، غير معروفة في المجتمع البريطاني إلى حدود بداية القرن 20. فالنظام البرلماني، الذي أمكن تحقيقه خلال المرحلة السابقة من خلال الصراع بين الأرستقراطية والملك، كان نظاما غير ديمقراطي لأنه كان يحصر قضية المشاركة في الحياة السياسية في فئة قليلة من أفراد الشعب تضم بشكل رئيسي أبناء الطبقة الأرستقراطية، في حين ظلت الأغلبية الساحقة من أفراد الشعب مستبعدة عن الحياة العامة ومحرومة من أبسط الحقوق السياسية.
ومنذ بداية القرن التاسع عشر، أخذت الطبقة البورجوازية تتصدر الواجهة، وتقود الحركة الديمقراطية وذلك خدمة لمصالحها السياسية وتلبية لمطالب جماهير سكان المدن الكبرى، التي كانت ترى أن من غير الطبيعي استمرار إبعادها عن الحياة السياسية بعد أن ازداد وزنها وتأثيرها في حياة البلاد الاقتصادية والاجتماعية. وقد استهدف نضال الحركة الديمقراطية تحقيق أمرين رئيسيين، القضاء على نظام الانتخاب القديم وإقرار مبدأ الانتخاب العام، وإعطاء الأولوية في الحياة السياسية لمجلس العموم باعتباره المجلس المنتخب من الشعب والمعبر، بالتالي، عن إرادته.
أولا: تطور نظام الانتخاب 
لقد كانت المؤسسات السياسية التمثيلية التي قامت في بريطانيا منذ عدة قرون، لا تعبر إلا عن إرادة جزء يسير من الشعب البريطاني، أما الأغلبية الساحقة منه فلم يكن لها أي دور في الحياة السياسية. فنظام الانتخاب الذي كان معتمدا لاختيار أعضاء مجلس العموم كان مقيدا ويحصر حق ممارسته في فئة قليلة من المواطنين، وخاصة الذكور والأغنياء الذين يؤدون للدولة مقدارا مرتفعا من الضرائب، في وقت ظل فيه القسم الأكبر منهم محروما من هذا الحق، بل ومن حقوق سياسية أخرى (مثل التوظيف)، وذلك إما بسبب الوضع الاجتماعي (البرجوازية الصغيرة والعمال) أو المذهب الديني (الكاتوليك واليهود والبروتستانت المنشقين عن الكنيسة الإنجليكانية) أو ضعف الولاء للتاج (الايرلنديين مثلا).
فضلا عن ذلك، فقد كان هذا النظام غير متكافئ، حيث لم تكن مختلف المدن والمقاطعات تمثل في مجلس العموم بحسب نسبة عدد سكانها بل كانت المقاعد المخصصة لها محددة بإرادة ملكية. هذه الوضع وإن كان ممارسة قائمة منذ زمن بعيد فلم يطرأ عليه أي تعديل يذكر رغم التغيير الجذري الذي حدث في المجتمع البريطاني، خلال القرنين 18 و19، نتيجة الثورة الصناعية، وما أدت إليه من تضخم في عدد سكان المدن مقارنة بعدد سكان المقاطعات الريفية، وأيضا من بروز مدن صناعية جديدة وهامة لم يكن لها أي ممثل في المجلس المذكور.
لكن انطلاقا من النصف الأول من القرن التاسع عشر أخذت هذه الوضعية تتغير شيئا فشيئا، حيث بدأت حركة التغيير الديمقراطي تحقق أولى انتصاراتها في هذا المجال. ففي سنة 1828 تمكنت من دفع البرلمان إلى إصدار قانون يتضمن الإقرار بالحقوق السياسية للبروتستانت المنشقين عن الكنيسة الانجليكانية، وفي السنة الموالية أرغمته على إصدار قانون مماثل يقر بهذه الحقوق للأقلية الكاثوليكية.
قبل أن تحقق خطوة أخرى مهمة بصدور "قانون الإصلاح" (1832)، الذي كان من نتائجه الزيادة في عدد مقاعد مجلس العموم، التي جرى توزيعها على المدن والمقاطعات التي كانت محرومة منها، فضلا عن توسيع حق الانتخاب ليشمل فئات جديدة من المواطنين وذلك بفعل تخفيض المقدار المطلوب من الضرائب السنوية التي يجب على المواطن دفعها لخزينة الدولة من أجل الاستفادة من ممارسة هذا الحق.
بيد أن هذه الانتصارات، على أهميتها، لم تؤد إلى توسيع دائرة نطاق الجسم الانتخابي، إلا في حدود ضيقة استفاد منه بالدرجة الأولى كبار أفراد الطبقة البرجوازية، التي زاد عدد ممثليها في مجلس العموم. ولهذا فقد استمر النضال حركة التغيير الديمقراطي من أجل التوسيع التدريجي لحق الانتخاب، قبل أن تظهر، انطلاقا من سنة 1838، الحركة "الشارتية أو اللائحية)، التي وضعت في مقدمة أهدافها الوصول إلى مبدأ الاقتراع العام والسري.
وقد كان من نتائج الجهود التي قامت بها هذه الحركة صدور قانون يقضي بتخفيض مقدار الرسم الانتخابي (1876)، وآخر ألغيت بموجبه التمايزات التمثيلية بين المدن والأرياف (1884)، لتتوجه سلسلة انتصاراتها بإقرار حق الانتخاب العام والشامل للرجال والنساء مع تمييز واحد يكمن في أن الرجال يبلغون سن الرشد الانتخابي في الواحدة والعشرين، في حين أن النساء لا يبلغونه إلا في الثلاثين (1918)، وإن كان هذا التمييز هو نفسه قد ألغي بموجب قانون صدر بعد عشر سنوات من ذلك (1928). لتكون الخطوة التالية، هي التي مثلها صدور قانون يقضي بتخفيض السن الانتخابي للرجال والنساء إلى 18 سنة (1970).
ثانيا ـ ازدياد الوزن السياسي لمجلس العموم 
لقد كان توسيع حق الانتخاب ليشمل كافة الفئات الاجتماعية بحاجة، لكي يأخذ كل معانيه السياسية، أن يقترن بتغيير وزن المجلس الممثل للإدارة الشعبية داخل البرلمان، أي مجلس العموم. إذ إلى حدود سنة 1909 كان مجلس اللوردات متمتعا بسلطات تشريعية ومالية وقضائية تميزه عن مجلس العموم وتعطيه مركز الأولوية داخل البرلمان.
لذلك كان لابد لحركة التغيير الديمقراطي أن تصوب سهام نقدها على هذه المؤسسة الأرستقراطية سعيا نحو إضعافها لمصلحة مجلس العموم. 
وقد سنحت لها الفرصة لتحقيق هذا الهدف على إثر الخلاف الذي نشب خلال السنة المذكورة، بين حكومة الأحرار ومجلس اللوردات حول إقرار مشروع قانون الموازنة العامة، الذي كان يتضمن بعض التدابير الإصلاحية، وخاصة تلك التي تتعلق بفرض ضريبة على الدخل.
فأمام معارضة مجلس اللوردات الموافقة على هذا المشروع لتقديره أن من شأن تبنيه إحداث تغيير جدري في المجتمع يهدد مصالح الأرستقراطية، قررت الحكومة الاستمرار في المواجهة وتحكيم الشعب في خلافها مع مجلس اللورادات، فطلبت من الملك حل مجلس العموم وإجراء انتخابات جديدة يمكن من خلالها معرفة ما إذا كانت غالبية الشعب تساند الحكومة في موقفها أم تعارضها وتؤيد مجلس اللوردات.
وعندما أسفرت نتائج الانتخابات عن فوز حزب الأحرار وتأكدت الحكومة من تأييد الشعب لها زادت من ضغطها على مجلس اللوردات، الذي لم يعد له مفر من الإذعان إلى الإرادة الشعبية والرضوخ للحكومة المجسدة لها، فاضطر سنة 1911 إلى الموافقة على مشروع قانون أصبحت بموجبه جميع الصلاحيات المالية من اختصاص مجلس العموم فقط، كما قصر صلاحيات مجلس اللوردات، في المجال التشريعي العادي، في إمكانية استعمال حق الفيتو (حق الاعتراض) في مواجهة مشاريع القوانين التي يقرها مجلس العموم. وإن كان هذا الحق هو نفسه قد تعرض لبعض التعديل عندما صدر قانونا جديدا (1949) قلص مدة تأجيل تنفيذ القوانين المعترض عليها من طرف مجلس اللورادات من سنتين إلى سنة واحدة فقط.
هكذا، فمع صدور هذا القانون، المعروف "بالقانون البرلماني"، أصبح مجلس العموم المنتخب من الشعب هو المجلس الأهم في البرلمان البريطاني، في حين تراجع مجلس اللوردات ليكتفي بدور رمزي وهامشي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. 

المحور الثاني: خصائص النظام البرلماني 

النظام البرلماني ليس واحدا في العالم بل يتنوع بتنوع التجارب الدولية واختلاف الأنظمة السياسية. بيد أن تفرع مختلف الأنظمة البرلمانية عن النظام البرلماني البريطاني، الذي يمثل الأصل، أدى إلى وجود خصائص مشتركة تحكم جميع هذه الأنظمة، وبصفة خاصة انتظام السلطة التنفيذية في شكل ثنائي، ووجود توازن وتعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية كاستثناء على مبدأ الفصل بين السلطات التي يقوم عليها النظام المذكور.

الفقرة الأولى، ثنائية السلطة التنفيذية 

المقصود بثنائية السلطة التنفيذية في الأنظمة البرلمانية وجود رئيس دولة لا يتوفر إلا على صلاحيات واختصاصات رمزية وسيادية ويكون، بالتالي، غير مسؤول من الناحية السياسية، وحكومة تستأثر بشؤون الحكم وتتولى إعداد السياسة العامة للدولة والسهر على تنفيذية، ولذلك تكون مسؤولة عنها أمام البرلمان.
أ ـ وجود رئيس دولة غير مسؤول 
بشكل عام، يعتبر رئيس الدولة، في أغلب الدول التي تأخذ بالنظام البرلماني، سواء أكان ملكا يصل إلى الحكم عن طريق الوراثة أو رئيس جمهورية منتخب بشكل مباشر من قبل الشعب أو بشكل غير مباشر من قبل البرلمان[14]، أحد أركان السلطة التنفيذية.
ففي بريطانيا مثلا، هو الذي يعين رئيس الوزراء، ويصدر الأمر بتنفيذ القوانين، ويتولى القيادة العامة للجيش، ويرأس الكنيسة الانجليكانية، ويمضي قرار حل البرلمان بناء على طلب رئيس الحكومة، ويمارس حق الاعتراض على القوانين، ويعين بعض الأعضاء في مجلس اللوردات، ويرأس افتتاح دورات البرلمان، ويقرأ خطاب العرش المتضمن لسياسة الحكومة عند افتتاح الدورات البرلمانية، يوجه خطاب إلى البرلمان، ويوزع ألقاب الشرف، ويمنح الأوسمة، ويتقبل أوراق اعتماد السفراء ويعتمد سفراءه في الخارج، ويمارس حق العفو، ويسمي رئيس مجلس العموم بعد انتخابه[15].
لكن ذلك لا يعني أنه يتولى سلطات تنفيذية فعلية، لأن جميع هذه الاختصاصات التي يمارسها لا تتم بمبادرة انفرادية منه. فتعيينه لرئيس الوزراء، مثلا، ليس سوى إجراء مسطريا يكرس نتيجة تصويت أغلبية الناخبين لفائدة حزب معين. وتسميته لرئيس مجلس العموم هو أيضا محض إجراء شكلي لتجسيد إرادة المجلس في ممارسة اختيار رئيسه. وتصديقه على القوانين وإن كان يخوله نظريا إمكانية الاعتراض عليها فإن هذا الحق لم يمارس منذ أزيد من قرنين ونصف. وإمضائه على قرار حل مجلس العموم لا يتم إلا بناء على اقتراح رئيس الوزراء. كما أن خطاب العرش الذي يتلوه تعده الحكومة لأنه يتضمن برنامج عملها وسياستها. بل وحتى التعيينات التي يمارسها في ميادين القضاء والجيش والديبلوماسية وفي مجلس اللوردات تكون بناء على اقتراح الحكومة.
ففي كل هذه المجالات لا تتجاوز سلطات الملك حدود "المصادقة الأتوماتيكية على قرارات الحكومة وإرادة ممثلي الأمة"[16]، ولذلك يقال بأن الملك في بريطانيا، وفي غيرها من الدول التي تأخذ بالنظام البرلماني، "يسود ولا يحكم". ونظرا لكونه لا يحكم، أي لا يمارس سلطات تنفيذية فعلية، فلا تقع على عاتقه أية مسؤولية سياسية، بل إن هذه المسؤولية تتحملها عنه الحكومة، بما أن أغلب القرارات التي يتخذها يتوجب توقيعها بالعطف من لذن رئيس الوزراء أو الوزراء المختصين.
إضافة إلى حصانته السياسية يتوفر الملك على حصانة جنائية، إذ تطبيقا لذلك التقليد العرفي الذي يقول إن "الملك لا يفعل إلا الخير أو أنه لا يخطأ"، فإنه لا يكون مسؤول أمام المحاكم لا مدنيا ولا جنائيا بل يتمتع بحصانة لا حد لها. و"ما على الذي يرغب أن يستخلص حقه منه إلا أن يبعث كتابيا ملتمسا بذلك، لأن العادة جرت أن يستجيب الملك لتلك الرغبة[17].
هذه الأدوار السيادية التي يضطلع بها الملك في النظام البرلماني البريطاني والمكانة الرمزية التي يحتلها، تظل، على العموم، هي نفسها التي يمارسها رؤساء الدول في جميع الأنظمة البرلمانية، مع بعض الاختلافات التي تهم بعض الجزئيات المرتبطة بخصوصية كل بلد وتاريخه الخاص.
ب ـ وجود حكومة مسؤولة سياسيا
إذا كان رئيس الدولة في النظام البرلماني يسود فإن رئيس الحكومة هو الذي يحكم. فالحكومة في هذا النظام تعد هي مركز السلطة التنفيذية، حيث يقع على عاتقها تحديد السياسة العامة للدولة والسهر على تنفيذها. ولذلك تكون هي المسؤولة سياسياً أمام البرلمان، إما بكيفية تضامنية أو جماعية، أو بكيفية فردية فيما يخص وزير أو بعض الوزراء، بحيث يمكن للبرلمان في الحالة الأولى أن يسحب ثقته من الحكومة بكاملها، بناء على تقديم لملتمس للرقابة ضد سياستها، أو من وزير معين بناء على استجوابه.
لكن، ممارسة البرلمان لهذا الاختصاص تبدو، على الأقل، في حالة النظام البريطاني، والأنظمة البرلمانية ذات الثنائية الحزبية، مسألة غاية في الصعوبة بالنظر إلى أن انبثاق رئيس الوزراء وحكومته من أغلبية مجلس العموم، أي من الحزب الفائز بالأغلبية، تقوي بشكل كبير من نفوذه السياسي، إلى درجة أن هناك من ينعت النظام البريطاني بأنه "ديكتاتورية رئيس الوزراء"، أو بكونه "نظام حزب يمارس طيلة مدة الولاية التشريعية ديكتاتورية على الحزب المنهزم في الانتخابات".
مع ذلك، فإن ممارسة رئيس الوزراء البريطاني لسلطاته لا تتم في جميع الأوقات بمنتهى السهولة، بل إنه في حاجة دائمة إلى تعاون فريقه الحكومي[18]، ومساندة الأغلبية في مجلس العموم، وكذا المعارضة التي يقع تحت مجهر رقابتها، ثم ثقة الناخبين فيه وفي الحزب الذي يرأسه، لأن هؤلاء هو الذين سيقررون في نهاية المطاف في أمر رئيس الوزراء الذي سيتولى تدبير شؤونهم، إلى درجة أن هناك من يقول إن تعيين رئيس الوزراء في بريطانيا يتم عن طريق نظام الاقتراع المباشر. وتزداد حاجة رئيس الوزراء إلى تعاون كل هذه الأطراف في الحالة التي تكون فيها الأغلبية مشكلة من أكثر من حزب مثلما هو الأمر في الوقت الحاضر، حيث يقود رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون ائتلافا حكوميا مشكلا من حزبه (المحافظون) وحزب الأحرار.
تبقى الحكومة في بريطانيا ذات طابع خاص. فهي "متشعبة في تركيبتها لاحتوائها على عدد كبير من الوزراء قد يتجاوزن المائة ولا يضطلعون بمستوى واحد من المسؤولية، ولتوزعها بين هيئات تعمل كل واحدة منها في ميدانها الخاص"[19]. فعلى رأسها توجد هيأة مصغرة تدعى المكتب (Cabinet) تضم الوزراء المساعدين المباشرين لرئيس الوزراء، الذي هو من يتولى اختيارهم وتحديد عددهم[20]، وإن كانت عادة ما تضم وزراء الشؤون الخارجية، والعدل، والمالية، والدفاع..ومنها تنبثق هيأة أصغر منها تضم عددا من الوزراء الذين يشرفون على السياسة العليا للقطاعات الوزارية الكبرى يطلق عليها المكتب الداخلي، وهي التي تظل بقرب رئيس الوزراء لتشترك معه في وضع السياسة العامة للدولة.

الفقرة الثانية: التعاون والتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية 

الأصل في النظام البرلماني هو أنه يقوم على أساس الفصل بين السلطات. ولكن بما أن هذا الفصل يتخذ هنا طابعا مرنا فإن ذلك لا يعني وجود جدار سميك بين السلطات يصعب على أي منها اختراقه لكي تطل من خلاله على الأخرى، بل يوجد تعاون وتوازن بين السلطات، وخاصة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بالشكل الذي يسمح بامتلاك كل منها لأدوات دستورية تتمكن بموجبها من الحد من السلطة الأخرى.
أ ـ مظاهر التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية 
حتى تكون "السلطة تحد السلطة"، وفقا لما تحدث عن ذلك صاحب نظرية فصل السلطات، يتطلب الأمر امتلاك كل منها، وخاصة السلطتين التشريعية والتنفيذية، لآليات دستورية تتمكن بموجبها من مراقبة السلطة الأخرى. ففي هذا الامتلاك المتبادل لأدوات التأثير أو الرقابة يكمن التوازن بين السلطات، وتصبح إمكانية سقوط البلاد في الأزمات السياسية متحكم فيه إلى أبعد الحدود.
أولا ـ أدوات تأثير البرلمان على الحكومة 
رغم تعدد وتنوع آليات تأثير البرلمان على الحكومة في النظام البرلماني البريطاني، كما في غيره من الأنظمة البرلمانية الأخرى، فعادة ما يتم التمييز داخلها بين الأدوات التي تسمح بإثارة المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان وتلك التي لا تثير مسؤوليتها.
فالمسؤولية السياسية للحكومة تتم إما من خلال ملتمس الرقابة أو ملتمس الثقة، على أساس أن الأول يكون بمبادرة من البرلمان في الحالة التي يقدر فيها هذا الأخير أن الحكومة أخذت تخرج عن عقد التفويض الذي يربطها به منذ اللحظة التي صوت فيها على برنامجها. 
وهو عادة ما يكون سلاحا في يد المعارضة البرلمانية وإن كان ليس هناك، من الناحية النظرية على الأقل، ما يمنع من اللجوء إليه من طرف الأغلبية البرلمانية نفسها في الحالة التي تكون فيها هذه الأغلبية على وئام مع الحكومة. بينما يتم اللجوء إلى الثاني بمبادرة من الحكومة نفسها عندما تشعر أن البرلمان لم يعد يسايرها في اختياراتها وتوجهاتها، وأضحى يشكل عرقلة في وجه مبادراتها التشريعية، وكذلك عندما تكون تواجه شبح أزمة سياسية أو يكون الرأي العام لم يعد يرضى على عملها. 
لذلك، فإن لجوء الحكومة إلى استخدام وسيلة طرح الثقة بنفسها إذا كان يعكس رغبتها في التأكد من مساندة الأغلبية لها وتدعيمها، فإنه يمثل، في حقيقة الأمر، وسيلة للضغط على الأغلبية التي تؤيدها في البرلمان.
وفي كلتي الحالتين، فإن التصويت مع ملتمس الرقابة أو ضد ملتمس الثقة يؤدي إلى وضع حد للوجود المادي للحكومة، بحيث تكون ملزمة بتقديم استقالتها، مما يفسح المجال لتنظيم انتخابات سابقة لأوانها والاحتكام من جديد إلى إرادة الشعب، الذي يمكنه أن يؤيد نفس الأغلبية السابقة كما يمكن أن يكون له خيار آخر إذا ما قرر الإدلاء بأصواته لفائدة المعارضة.
ونظرا لما يمكن أن تشكله هاتين المبادرتين من خطر على الاستقرار الحكومي، وبالتالي على وجود الحكومة ككل، فإنهما يحاطان ببعض الإجراءات سواء عند الإقدام عليهما أو عند اعتمادهما. فاللجوء إلى ملتمس الرقابة، مثلا، يحتاج إلى توفر نصاب قانوني محدد من الموقعين عليه حتى يكون يعبر عن وجود معارضة جدية من جانب البرلمانيين للحكومة، وإلى احترام أجل محدد يفصل بين تقديمه والتصويت عليه حتى لا يتخذ طابع الفجائية وحتى يكون بمقدور الحكومة أن تقوم بالترتيبات اللازمة وتتخذ الخطوات المناسبة التي يقتضيها الدفاع عن نفسها في مواجهة هجوم البرلمان عليها. كما أن اعتماده يتطلب هو الآخر تصويت عدد مهم من البرلمانيين عليه (الأغلبية المطلقة)، أضف إلى ذلك أنه عادة ما لا يقبل ملتمس رقابة ثاني إلا بعد مرور مدة زمنية محددة. 
وبالمثل، فإن طرح ملتمس الثقة لا يخلوا هو الآخر من وجود ضوابط تحكمه، خاصة تلك التي تتعلق بضرورة توفر النصاب القانوني المطلوب لاعتماده.
مع الإشارة إلى هذه الآليات تبقى في النظام البرلماني البريطاني ذات طابع نظري، لأنها لا تفعل في الواقع العملي، حيث أن قيادة الحكومة من طرف رئيس الحزب الذي يمتلك الأغلبية في مجلس العموم يجعل من غير المتصور أن يجد رئيس الوزراء نفسه في يوم ما في حاجة إلى طلب الثقة من البرلمان، ولذلك كان آخر مرة عرفت فيها بريطانيا هذه الممارسة كانت سنة 1924. كما أن ملتمس الرقابة وإن كان يمكن اللجوء إليه باستمرار من جانب زعيم المعارضة، فإنه لا يكون من أجل إسقاط الحكومة لأن ذلك يكاد يكون مستحيلا بل فقط من أجل لفت انتباهها إلى ممارسات من جانبها تقدر المعارضة أنها خاطئة.
إلى جانب هذه الأدوات المرتبطة بالمسؤولية السياسية للحكومة، يتوفر البرلمان، وخاصة مجلس العموم في الحالة البريطانية، على أدوات رقابية أخرى في مواجهة الحكومة، من قبيل الأسئلة الشفوية[21]، التي تخصص لها ساعة يومية عند افتتاح كل جلسة من جلسات مجلس العموم الممتدة ما بين الاثنين والخميس من كل أسبوع، وتشكيل لجان برلمانية للتحقيق في بعض أعمال السلطة التنفيذية، حيث يمكنه الاستماع إلى أعضاء السلطة التنفيذية. وهي أدوات رقابية يميزها، على الخصوص، أنها لا تؤدي إلى إثارة مسؤولية الحكومة، وإن كان ذلك لا يقلل في شيء من أهميتها كأدوات للرقابة على عمل الحكومة.
ثانيا ـ أدوات تأثير الحكومة على البرلمان 
في مقابل ما تملكه السلطة التشريعية من وسائل وأدوات رقابية في مواجهة السلطة التنفيذية، أو على الأصح الحكومة، فإن هذه الأخيرة ليست مجردة من كل سلاح بل تتوفر هي كذلك على أدوات تستطيع عبرها أن تأثر في عمل البرلمان، بل وأن تؤدي إلى وضع حد لوجوده المادي حتى قبل أن يحن أوان انتهاء ولايته، كما هو الأمر بالنسبة لحق حل البرلمان، الذي يسمح بتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها تكون بمثابة احتكام جديد للشعب إما لتجاوز ما يمكن أن يكون قائما من خلافات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، أو من أجل البحث عن أغلبية برلمانية قوية، إذا لم تكن الحكومة تتمتع بهذه الأغلبية البرلمانية، نتيجة قيامها على أساس ائتلافي هش، أو من أجل توحيد الأغلبية البرلمانية المؤيدة للحكومة في حال ظهور انشقاق في صفوفها، وكذا رغبة في تدعيم الأغلبية البرلمانية المؤيدة للحكومة، إذا كانت استطلاعات الرأي تفيد أن هذه اللحظة مناسبة لإجراء انتخابات مبكرة تعطي الحكومة أغلبية برلمانية لولاية تشريعية جديدة.
والحق في حل البرلمان وإن كان يتم من طرف الملكة، كما هو الشأن في معظم الأنظمة البرلمانية[22]، فإن هذا الإجراء لا يعدو أن يكون شكليا ليس إلا، لأنه يتم، في حقيقة الأمر، تطبيقا لطلب الحكومة وتجسيدا لإرادتها. فدور الملكة هنا ينحصر فقط في الإمضاء على قرار الحل بعد أن يكون مكتب الحكومة قد تداول فيه واتخذ قرارا نهائيا بشأنه.
لكن تأثير السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية لا يتجلى فقط في حق البرلمان، وإن كان هو الأهم إن لم نقل الأخطر، بل إلى جانبه تتوفر السلطة التنفيذية على حق الاعتراض على القوانين الصادر عن البرلمان أو ما يعرف بحق الاعتراض الملكي أو الرئاسي، الذي يسمح لرئيس الدولة بإمكانية الاعتراض على إصدار قانون معين مادام أنه هو الذي يعود له أمر الإشهاد على الوجود القانوني لنص تشريعي معين، وإن كان هذا الاعتراض لا يتخذ طابعا توقيفيا أو مؤقتا يسمح فقط بإثارة انتباه البرلمان إلى ضرورة إعادة التداول في النص، وإنما يتخذ طابعا مطلقا، بحيث لا يمكن للبرلمان أن يتغلب عليه ويتجاوزه من خلال التصويت عليه بنسبة محددة من أعضائه، بل يؤدي إلى إقبار القانون بصفة نهائية، وإن كان الملك قد أحجم منذ سنة 1707 عن ممارسة هذا الحق، الذي يبدو أنه يعاكس إرادة الأمة المجسدة في البرلمان، إلى درجة أصبح معها هناك من يقول أن حق الملك في الاعتراض على القوانين قد سقط بعدم الاستعمال[23].
ب ـ مظاهر التعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية 
لا يتحقق الفصل المرن للسلطات في النظام البرلماني على العموم، والنظام البرلماني البريطاني على وجه الخصوص، فقط من خلال التوازن القائم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، بل أيضا من خلال بعض مظاهر التعاون التي توجد بينهما، إذ أنها هي التي تسمح بتجنب الوصول إلى طريق مسدود قد يؤدي إلى استخدام إما حجب الثقة أو حق الحل.
هذا التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية إذا كان يتخذ عدة صور، فإنه يبرز خصوصا من الاعتياد على انتقاء أعضاء الحكومة من داخل مجلس العموم، بحيث يكون "الوزراء أعضاء في البرلمان"، كما يقول أولفييه دوهاميل[24]، واشتراك الحكومة والبرلمان معا في المبادرة بتقديم القوانين، حتى ولو كانت مشاريع القوانين ذات المصدر الحكومي هي التي تفرض حضورها بقوة، وحق الوزراء في الحضور إلى البرلمان إما بغرض المشاركة في مناقشة مشاريع القوانين أو الدفاع عن السياسة العامة للحكومة، سواء على مستوى اللجان البرلمانية أو الجلسات العامة، وإمكانية الحكومة لدعوة البرلمان للانعقاد في دورات استثنائية بل وفض اجتماعات دوراته العادية، والتدخل في تحديد جدول أعماله، علاوة على الإمكانية المتاحة للبرلمان في تفويض جزء من اختصاصاته التشريعية للحكومة لمدة محددة وفي مجال محدد، من خلال ما يعرف بقوانين الإذن. دون أن ننسى الأهمية التي يكتسيها هذا التعاون عندما يتعلق الأمر بقانون الميزانية، بحيث إذا كان التقليد المتبع في الأنظمة البرلمانية، وضمنها النظام البرلماني البريطاني، هو أن مشروع القانون المذكور يتم إعداده وتحضيره من طرف الحكومة، فإن إحالته على البرلمان بقصد مناقشته والتصويت عليه تشكل لحظة مهمة جدا في حياة البرلمان والحكومة على حد سواء، من حيث المجهود الذي يبدل من طرفهما مع من أجل اعتماد قانون مالي يجسد اختيارات الدولية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية..
بيد أن خاصية التوازن والتعاون هذه التي يتسم بها النظام البرلماني البريطاني يجب أن تأخذ بالكثير من النسبية بالنظر لطبيعة النظام الحزبي القائم في هذا البلد ونوعية النتائج الانتخابية التي يفرزها. 
ذلك أن فوز حزب واحد بالأغلبية في مجلس العموم، في كثير من الأحيان، يجعل رئيس الوزراء، الذي هو في نفس الوقت رئيس الحزب الحاصل على الأغلبية في البرلمان، يتحكم بشكل كبير في السلطة التشريعية. فكونه يتوفر على أغلبية مريحة داخل مجلس العموم يعفيه إمكانية استخدام بعض الآليات المتاحة له مثل ملتمس الثقة، أو حل البرلمان، مدام أن هذا الأخير يبدو مكبل اليدين وعاجز عن استعمال ما يمتلكه من أدوات رقابية حيال الحكومة، خاصة تلك التي يمكنها أن تؤدي إلى الإطاحة بها. لذلك، فقد ذهب البعض إلى حد القول إن النظام البرلماني البريطاني قد أصبح شبيها بالنظام الرئاسي بحكم الاختصاصات القوية التي يمارسها رئيس الوزراء، الذي يوصف بأنه "ملك منتخب".
وهي وضعية كثيرا ما تجعل البرلمان مجرد آلية للتصويت على مشاريع القوانين التي يجري تحضيرها من طرف الحكومة. وإن كان ذلك لا يعني أن البرلمان يخضع دائما وفي جميع الظروف للحكومة، ليس فقط لأن المعارضة تتميز بوضع امتيازي يسمح لها بهامش مهم من حرية التحرك، وإنما أيضا لأن الأغلبية البرلمانية قد تأخذ في بعض الأحيان مسافة حيال اختيارات وتوجهات الحكومة، كما حصل سنة 2013 عندما رفض مجلس العموم ذو الأغلبية المحافظة (نسبة إلى حزب المحافظين) مسايرة قرار لرئيس الوزراء المنتمي لنفس الحزب كان يروم من خلاله المشاركة في تحالف عسكري دولي ضد سوريا.
-----------------------------
الهوامش :
[1] ـ يونس محمد، مرجع سابق، ص 37.
[2] ـ نص المادة 39 من العهد العظيم. 
[3] ـ يونس محمد، مرجع سابق، ص 42.
[4] ـ نص المادة 61 من العهد العظيم.
[5] ـ نفس المرجع، ص 42.
[6] ـ نص المادة 40 من العهد الأعظم.
[7] ـ يونس محمد، مرجع سابق، ص 38.
[8] ـ مازن ليلو راضي ـ حيدر أدهم عبد الهادي، مرجع سابق، ص ؟؟؟
[9] ـ يونس محمد، مرجع سابق، ص 51.
[10] ـ يونس محمد، مرجع سابق، ص 57.
[11] ـ يونس محمد، مرجع سابق، ص 57.
[12] ـ يونس محمد، مرجع سابق، ص 58.
[13] ـ يونس محمد، مرجع سابق، ص 143.
[14] ـ عادة ما ينتخب بطريقة غير مباشرة أي من طرف البرلمان، كما هو الأمر في إيطاليا، إسرائيل، اليونان، تركيا...
[15] ـ عبد الهادي بوطالب، "النظم السياسية العالمية المعاصرة"، منشورات دار الكتاب، الدار البيضاء 1981، ص 17.
[16] ـ نفس المرجع، ص 17.
[17] ـ نفس المرجع، 16.
[18] ـ يمكن في هذا الصدد استحضار العاصفة السياسية التي هزت أركان حكومة رئيس وزراء بريطانيا العمالي غوردن براون (2007 ـ 2010) بعد استقالة ستة من وزرائه، وكيف كان تأثيرها كبيرا على أداء حكومته، وبالتالي على نتائجه حزبه في الانتخابات التشريعية التي فاز بها منافسه حزب المحافظين.
[19] ـ عبد الهادي بوطالب، مرجع سابق، ص 25.
[20] ـ لا يقلون عن ستة ولا يزيدون عن العشرين وزيرا.
[21] ـ من الناحية التاريخية يعود أول سؤال طرح في البرلمان، وبالضبط في مجلس اللوردات البريطاني، إلى سنة 1721، وكان ذلك من طرف اللورد أبرل كابور، وقد كان موجها للوزير الأول. وبعدها اعتبر اجراء من إجراءات البرلمان، واعتمد في مجلس العموم انطلاقا من سنة 1783.
[22] ـ فقط في إسرائيل لا تتم ممارسة هذا الإجراء من طرف رئيس الدولة أو رئيس الحكومة بل إن حل البرلمان لا يمكن أن يتم إلا بقانون صادر عن البرلمان نفسه.
[23] ـ حسن البحري، دور السلطة التنفيذية في العملية التشريعية في النظام البرلماني البريطاني، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد 24، العدد الأول 2008، ص 423.
[24] ـ Olivier Duhamel; droit constitutionnel et institutions politiques, 2009.p

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -