مقال بعنوان: الإدارة القضائية بين التبعية والإشراف ومبدأ فصل السلط
بقلم : ذ عبد الله عصفوري ، منتدب قضائي
باحث في القانون العام
مقدمة :
ارتبطت نظرية فصل السلط كمبدأ فلسفي يميز الشكل الديمقراطي لنظام الحكم عن غيره، باسم المفكر الفرنسي "مونتسكيو" في كتابه الشهير "روح القوانين" 1748 1، حيث يجب أن توقف السلطة السلطة كشرط من شروط تحقيق الحرية ومنع الاستبداد، وذلك قبل أن تصبح هذه النظرية عقيدة وتتبوأ منزلة المبدأ المقدس غداة إعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789، وبعد ذلك تم تكريسه في متن مختلف الدساتير الوطنية.
ويعني مبدأ فصل السلط عدم جمع الصلاحيات التشريعية والتنفيذية والقضائية بيد هيئة واحدة؛ فتختص السلطة التشريعية بالتشريع ومراقبة العمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية، وتتولى السلطة التنفيذية مباشرة تطبيق القوانين المصادق عليها والسهر على احترام الأنظمة وتنفيذ السياسات العامة والسياسات العمومية، فيما تقوم السلطة القضائية بالبث في النزاعات الناشئة عن خرق القوانين والأنظمة والحكم على المخالفين.
وإذا كانت المؤسسة الملكية بالمغرب تسمو على سائر السلط بالدستور تكريسا للامتداد السلطاني والشرعية التاريخية، ولا تخضع سلطاتها التي تمارسها بواسطة الظهائر والخطب والرسائل والتعليمات الملكية لأية مساءلة سياسية أو مسطرة قضائية؛ فإن العلاقة بين باقي السلط في إطار الفصل المرن بينها يجب أن تتسم بالتعاون والتوازن عبر مجموعة من الآليات التي تضمنتها فصول الدستور والعديد من النصوص التشريعية الأخرى.
وأهمية هذا الموضوع تتجلى من خلال تعدد المقتضيات المتعلقة بتنظيم السلط والعلاقات بينها في دستور المملكة المغربية ل29 يوليوز 2011 2، الذي نص على مبدأ فصل السلط لأول مرة بشكل صريح، وجعل فصل السلط وتوازنها وتعاونها أساسا للنظام الدستوري إلى جانب الديمقراطية المواطنة والتشاركية، ومبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة3، كما تبرز أيضا بفعل الوقائع اليومية للتنازع بين السلط، بشكل ومضمون يجعل منها الوجه الواقعي للقانون.
وإذا كان هذا المقال يعتبر محاولة لكشف وتحليل هوامش ومناطق التماس في عمل السلط الثلاث، والتي تخلق من حين لآخر تجاذبات سياسية ونقاشا مجتمعيا واسعا، وتطفو للواجهة من بين تمظهراتها ونتائجها المطالبة باحترام مبدأ الشرعية ودولة القانون والمؤسسات؛ فإنه وبعد التطرق -في الجزء الأول- لأهم الإشكالات المتعلقة بممارسة الاختصاصات التشريعية بين الحكومة والبرلمان، ومدى توازن العلاقة بينهما؛ سيتناول الجزء الثاني للموضوع الإدارة القضائية بين السلطة القضائية التي أوكل لها المشرع الدستوري مهام فض النزاعات والتطبيق العادل للقانون4، بإصدار الأحكام في القضايا المعروضة على القضاء وحماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي5، وبين السلطة التنفيذية التي تعمل على ضمان تنفيذ القوانين باعتبار أن الإدارة موضوعة تحت تصرفها6، ومسؤولة عبر وزارة العدل عن إعداد وتنفيذ السياسة الحكومية المتعلقة بالقطاع7، وعن سير مرفق العدالة8.
حيث يمكن معالجته عبر طرح الإشكالية التالية:
ما مدى مشروعية اختصاص السلطة القضائية لممارسة الإدارة القضائية واحترام مبدأ فصل السلط؟
ثم تفكيكها من خلال الإجابة على مجموعة من الأسئلة أهمها:
- ما طبيعة عمل الإدارة القضائية؟
- هل يتنافى التوازن والتعاون بين السلط داخل المرفق القضائي مع استقلال السلطة القضائية ومبدأ فصل السلط؟
- ما موقع الإدارة القضائية كمكون من مكونات الجسم القضائي وطرف في العملية القضائية ضمن القوانين المؤطرة لمنظومة العدالة؟
- ما مدى اعتبار مهام الإشراف الإداري للسلطة القضائية مسا بمبدأ فصل السلط؟
ولمناقشة هذا الموضوع تناولته في المحورين التاليين:
أولا- الإدارة القضائية: اختصاصات تنفيذية أم قضائية ؟
ثانيا- موقع الإدارة القضائية بين التبعية للسلطة التنفيذية وإشراف السلطة القضائية
أولا- الإدارة القضائية اختصاصات تنفيذية أم قضائية ؟
تعرف الإدارة بأنها مجموعة المهام والبنيات والإجراءات المتعلقة بحسن استغلال الموارد المادية والبشرية بشكل فعال من أجل تحقيق أهداف معينة، أما "الإدارة القضائية" فتكتنف تعريفها بعض الصعوبات ترجع إلى تشعب تركيبة أجهزة العدالة وتعدد المتدخلين9. وقد أشار إليها كل من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية10، والقانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة11، وتضمنها مشروع التنظيم القضائي في عدة مواد12، بعدما تم تناولها كهدف رئيسي سادس ضمن محاور ميثاق إصلاح منظومة العدالة تحت عنوان "تحديث الإدارة القضائية وتعزيز حكامتها"13، غير أنه لم يتم تحديد مفهومها. إلا أن استقراء الأهداف الفرعية لهذا المحور وآلياته التنفيذية وكذا أهداف وآليات أخرى بالميثاق14، يفيد بكون مفهوم الإدارة القضائية يضم مجموع الوسائل المادية والبنيات التحتية والتجهيزات والهياكل والأنظمة الإدارية والمعلوماتية التي تلبي حاجيات الإدارة وتوفر الظروف الملائمة لتقديم الخدمة القضائية؛ والموارد البشرية التي تتولى القيام بمهام هذه الإدارة وعقلنة وترشيد استخدام مختلف تلك المقومات والوسائل وتدبير الإمكانيات اللازمة للارتقاء بأدائها؛ ثم الاختصاصات والصلاحيات والمهام والأعمال التي تدخل ضمنها والموكولة لموظفيها.
وبذلك؛ يمكن تعريف الإدارة القضائية بأنها مجموع الأعمال والمهام التي يقوم بها الموظفون الإداريون بالمحاكم أو بالإدارة المركزية لوزارة العدل والمصالح التابعة لها، التي لا تدخل ضمن اختصاصات السلطة القضائية، والتدبير المعقلن لمختلف الوسائل للمساهمة في القيام بالعملية القضائية على الوجه الأكمل، وتلبية حاجيات المواطنين في التقاضي بنجاعة وفعالية.
فما هي طبيعة عمل الإدارة القضائية؟ وهل تتنافى الإدارة القضائية مع استقلال السلطة القضائية؟
أ- طبيعة عمل الإدارة القضائية
باعتبار أن الإدارة موضوعة رهن تصرف الحكومة15؛ فإن تغاضي دستور2011 عن موضوع الإدارة القضائية في معرض تنظيمه للسلطة القضائية رغم كونها من ركائز حكامة المرفق القضائي، وإمكانية حضور الوزير المكلف بالعدل اجتماعات المجلس الأعلى للسلطة القضائية من أجل تقديم بيانات ومعلومات تتعلق بالإدارة القضائية، بالإضافة إلى تناولها من طرف ميثاق إصلاح منظومة العدالة في غير المحاور المتعلقة بالسلطة القضائية؛ إنما هو إقرار وتأكيد واضح ومباشر على أن الإدارة القضائية اختصاصات تنفيذية وغير قضائية، ولو كان غير ذلك لكان بموجب نص دستوري، وبالتالي يوكل للقيام بها إلى موظفين إداريين ينتمون عضويا لوزارة العدل تحت اسم وهيكلة وتنظيم هيئة كتابة الضبط ككيان مهم إلى جانب الجهاز القضائي، حيث لا يمكن أن يتحقق التحديث وجودة العمل القضائي وتسريع عمله إلا بإعطائها الاعتبار اللازم داخل ورش إصلاح العدالة16.
وإذا كان الموظفون المنتمون لهيئة كتابة الضبط، يخضعون للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل التي تقوم بتدبير شؤونهم، ويمارسون تحت سلطة رئيس الإدارة، المهام التي تدخل في مجال اختصاصهم بموجب النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل17، فهم لا يساعدون القضاء على أداء رسالته، لأن المحاكم ليست فضاء للقضاة وحدهم18، بل يمارسون مهامهم طبقا للقانون، لأن جهاز كتابة الضبط يعتبر مكونا من مكونات الجسم القضائي وفاعلا رئيسيا ضمن العملية القضائية؛ وأن تحقيق حكامة قضائية تضمن استقلال القضاء وتحديث آلياته والاهتمام بموارده البشرية والرفع من قدراته ومؤهلاته، وترشيد الزمن القضائي، وتخفيض تكلفته المرتفعة، وتيسير الولوج للعدالة والتواصل الفعال بين مختلف مكوناتها19، يمر بالضرورة عبر مراجعة الشرخ الحاصل بين جهاز كتابة الضبط والجهاز القضائي نظرا لتكامل دورهما داخل المحاكم، والتخلص من الحمولات الثقافية السلبية التي التصقت بوصف كاتب الضبط تاريخيا بكاتب القاضي أو مجرد مساعد للقضاء، بشكل يرد الاعتبار لهيئة كتابة الضبط التي شهدت نهضة بنيوية نوعية جعلت مكوناتها البشرية تكاد تغطي مختلف التخصصات القانونية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والمحاسباتية والتقنية والإدارية والتدبيرية... وتجعل أطر كتابة الضبط تقوم بالأدوار المنوطة بها في التبليغ والتنفيذ والهندسة المعلوماتية والمحاسبة والمساعدة الاجتماعية وتصريف الإجراءات والإشهاد في الجلسة... بكفاءة عالية، لأن "مسؤولية القاضي ليست أجسم من مسؤولية كاتب الضبط...والتنفيذ من أكبر المسؤوليات "20، وكذا الحضور الوازن لأطر كتابة الضبط من المسؤولين الإداريين داخل هياكل الحكامة على المستوى المحاكم ضمن مقتضيات مشروع التنظيم القضائي.
ب- الإدارة القضائية واستقلال السلطة القضائية
إذا كان دستور2011 قد نص على أن البرلمان يمارس السلطة التشريعية21، والحكومة تمارس السلطة التنفيذية22، وأن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، وأحاط استقلاليتها بمجموعة من الضمانات، وأقر أن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية، وهو الذي يرأس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، وعدم تلقي القاضي بشأن مهمته أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط، فلا يلزم إلا بتطبيق القانون23؛ فإنه نص على مبدأ فصل السلط وتوازنها وتعاونها كأساس للنظام الدستوري24.
وتجسيدا لذلك، أوجب على السلطات العمومية تقديم المساعدة اللازمة أثناء المحاكمة وتنفيذ الأحكام25، وأن تعمل السلطة التنفيذية على ضمان تنفيذ القوانين باعتبار أن الإدارة موضوعة تحت تصرفها26، كما أوجب على المجلس الأعلى للحسابات تقديم مساعدته للبرلمان وللهيئات القضائية27. وأن يضع المجلس الأعلى للسلطة القضائية تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ويصدر بطلب من الحكومة أو البرلمان آراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة28، ونص على مسؤولية وزارة العدل –في إطار التضامن الحكومي-عن إعداد وتنفيذ السياسة الحكومية المتعلقة بالقطاع29، كما أن القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية ينص على إحداث هيئة مشتركة بين المجلس والوزارة المكلفة بالعدل تتولى التنسيق في مجال الإدارة القضائية، تعمل تحت إشراف كل من الرئيس المنتدب للمجلس والوزير المكلف بالعدل، كل فيما يخصه، بما لا يتنافى واستقلال السلطة القضائية. وعلاوة على ذلك، يمكن للوزير المكلف بالعدل حضور اجتماعات المجلس الأعلى للسلطة القضائية من أجل تقديم بيانات ومعلومات تتعلق بالإدارة القضائية أو أي موضوع يتعلق بسير مرفق العدالة. وتؤهل الوزارة المكلفة بالعدل والوزارة المكلفة بالمالية لاتخاذ كافة التدابير اللازمة لتنفيذ مقررات المجلس المتعلقة بالوضعيات الإدارية والمالية للقضاة بتعاون مع المصالح المختصة بالمجلس30.
فكما أن مبدأ فصل السلط لا يتنافى مع قاعدة التعاون بينها؛ فإن قاعدة التوازن لا تتنافى مع مبدأ استقلالية السلطة القضائية، حيث أن الملك هو الضامن لها، وأن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يسهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ولاسيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم31.
ذلك أن مناط استقلال السلطة القضائية في نص الدستور وروحه وبالتالي في القوانين التنظيمية وباقي القوانين يرتبط ارتباطا وثيقا وجوهريا بتحصين الجهاز والقضاة الذين يزاولون فعليا مهامهم القضائية بالمحاكم التي يشملها التنظيم القضائي للمملكة32-عبر تدبير وضعيتهم المهنية ومسطرة تأديبهم من طرف المجلس، وكذا عبر احترام القاضي لواجبات التجرد والاستقلال- (بتحصينه) من كل تدخل في مهمتهم القضائية أو تلقي أوامر أو ضغط أو تهديد أو تأثير، فلا يلزمون إلا بالتطبيق العادل للقانون، لأن استقلال القضاء هو وسيلة لتكريس دولة القانون وحماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي.
ثانيا- موقع الإدارة القضائية بين التبعية للسلطة التنفيذية وإشراف السلطة القضائية
من منطلق تمييز الإدارة القضائية عن باقي الإدارات العمومية في أدائها لعمل موسوم بالطبيعة القضائية إلى جانب أعمالها الإدارية والمالية، وهو ما يضفي خصوصية على مرفق العدالة قياسا بباقي المرافق الإدارية الأخرى؛ فقد أسبغت المحكمة الدستورية صفة مساعدي القضاء على هيئة كتابة الضبط المشكلة للمورد البشري للإدارة القضائية33، إمعانا في تهميشها وتصغيرا لأدوارها الذي كرسته مشاريع القوانين المؤطرة لمنظومة العدالة. وتأسيسا على ذلك، رتبت المسؤولية في مهامها داخل المحاكم بين الخضوع والتبعية للسلطة المباشرة للمسؤول القضائي المنتمي للسلطة القضائية في الشأن القضائي، والإشراف المزدوج لهذا الأخير والوزارة المكلفة بالعدل فيما يتعلق بالمهام الإدارية والمالية.
أ- موقع الإدارة القضائية ضمن القوانين المؤطرة لمنظومة العدالة
إن موقع الإدارة القضائية في منظومة العدالة يتجسد عبر كشف مكانة هيئة كتابة الضبط ضمن النصوص الإجرائية لما بعد دستور2011، وخاصة القوانين أو مشاريع القوانين المتضمنة لتنزيل توصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة، والتي استنكفت عن تجاوز الصورة النمطية "للقاضي وكاتبه" الذي رسمته قوانين ما بعد قترة الحماية والإجراءات الانتقالية لمرحلة السبعينات، واجتَرَّته الثقافة السطحية للمجتمع، وآثرت هذه القوانين الإبقاء على كون القاضي هو محور العملية القضائية، وجنحت في معظمها إلى تجريد موظف كتابة الضبط من أي اختصاص أصيل ليبقى إما "مأمور إجراءات" أو "يعمل تحت إشراف"34، أو "مساعد" أو "عون" دون الالتفات إلى التغيير الجوهري في طبيعة العنصر البشري المكون للهيئة، وحتى التغيير الطارئ على تسميات أطر هيئة كتابة الضبط بموجب مرسوم النظام الأساسي الذي أبقى فقط على إطار المنتدبين القضائيين وإطار المحررين القضائيين وإطار كتاب الضبط.
فالقراءة البسيطة لمواد المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية ومعها مشروع التنظيم القضائي وحتى النظام الأساسي الخاص بهيئة كتابة الضبط تبرز ضعف اعتبار أهمية الإدارة القضائية على النقيض من دورها المحوري في الواقع، والإرادة الجامحة للسطو على اختصاصاتها الأصيلة وإلحاقها تعسفا بسلطة الإشراف القضائي على شكل "قاضي التنفيذ" و"قاضي صعوبات المقاولة" وقاض للسجل التجاري"...دون اعتبار للجدوى أو ابتغاء للنجاعة وتيسير وتسريع المساطر والإجراءات.
فعلى مستوى المسطرة المدنية تتكرر في العديد من الفصول عبارات"العون" و"بواسطة أحد أعوان كتابة الضبط" و"عون كتابة الضبط" و"عون من كتابة ضبط القاضي المكلف بشؤون القاصرين تحت إشراف هذا الأخير" و"عون التنفيذ" و"العون المكلف بالتبليغ أو التنفيذ"...35.
وعلى مستوى المسطرة الجنائية نجد في المادة 100"يمكن لقاضي التحقيق بعد إخبار النيابة العامة بمحكمته أن ينتقل صحبة كاتبه قصد القيام بإجراءات التحقيق..."وفي المادة 119"يستمع قاضي التحقيق بمساعدة كاتبه إلى كل شاهد..." 36.
وذهب المرسوم بمثابة النظام الأساسي الخاص بهيئة كتابة الضبط نفس الاتجاه، فاعتبر أن الموظفون المنتمون لهيئة كتابة الضبط يمارسون تحت سلطة رئيس الإدارة، المهام التي تدخل في مجال اختصاصهم بموجب النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، ويساعدون القضاء على أداء رسالته37.
وهي نصوص اعتبرت موظفي هيئة كتابة الضبط بمناسبة ممارسة مهامهم في التبليغ والتنفيذ والقيام بمختلف الإجراءات مجرد أعوان ومأمورين من طرف القضاة أو كتاب لديهم، واعتبار جهاز كتابة الضبط مساعدا للقضاء، والتقليل من دوره وتبخيس عمله الذي يستغرق مختلف المساطر القضائية طولا وعرضا، ابتداء من وضع الشكاية أو المقال لدى صندوق المحكمة إلى تنفيذ الأحكام القضائية، مرورا بإجراءات الدعوى (فتح الملفات، توجيه الاستدعاءات، التبليغ، كتابة ضبط وإجراءات الجلسات، مسك السجلات، الإشهاد على مطابقة أصول الوثائق والأحكام، تسليم الشواهد والأحكام...).
إن إحصائيات وزارة العدل تبين أن العدد الإجمالي للقضاة لا يتجاوز4229 قاضية وقاضيا بنسبة 22,94%، فيما العدد الإجمالي لموظفي كتابة الضبط يتعدى 14179 بنسبة 77,06% 38. وهي أرقام ونسب تعكس حجم الأعباء وكثرة المهام الموكولة للإدارة القضائية التي يباشرها أطر هيئة كتابة الضبط بمختلف الشعب والمصالح والأقسام، فلا تجد صداها على دفوف المدونات والتشريعات، وأي منطق هذا الذي يُغشٍي المشرع ويحكمه إبان صياغة قانون الإجراءات عن واقع بارز ولا يخفُت ؟
ب- الإدارة القضائية ومهام الإشراف للسلطة القضائية
بالرغم من الطبيعة الإدارية للإدارة القضائية وتبعيتها العضوية والوظيفية للسلطة التنفيذية؛ وفي ظل الفراغ الدستوري وغياب قوانين وقواعد مؤطرة لاختصاصات دقيقة واضحة ومحددة، فإن المحكمة الدستورية أقرت استثناء على مبدأ فصل السلط بأن الإدارة القضائية تعتبر مجالا مشتركا للتعاون والتنسيق بين السلطتين التنفيذية والقضائية، فتبنت الطبيعة المزدوجة لعمل هيئة كتابة الضبط (الإدارة القضائية) والتداخل في اختصاصاتها بين المهام الإدارية والمالية الخاضعة لإزدواجية المسؤولية بالمحاكم بين وزارة العدل عبر السلطة الرئاسية لرئيس كتابة الضبط ورئيس كتابة النيابة العامة دون إمكانية توحيد المصلحتين، ومراقبة وإشراف المسؤول القضائي كل فيما يخصه بما تقتضيه قواعد النجاعة والحكامة، وبين العمل القضائي الخاضع للسلطة المباشرة للمسؤولين القضائيين دون سواهم، باعتبار الشأن القضائي ليس بالموضوع المشترك أو القابل للتنسيق بين السلطتين التنفيذية والقضائية، بل هو اختصاص تنفرد به السلطة القضائية...39، وهو ما ينم عن عدم القدرة على استيعاب مضامين الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة، وتضخم هاجس استقلالية السلطة القضائية لدى القاضي الدستوري أكثر من احتكامه لمدى دستورية القانون واحترام مبدأ فصل السلط، والتشبث بسلطة الإشراف وبالتالي تكريس وضعية التبعية والوصاية للسلطة القضائية على السلطة التنفيذية ضدا على مبدأ فصل السلط وتوازنها وتعاونها؟!! مقابل استبعاد التفتيش الإداري والمالي لمهام الإدارة القضائية من تنظيم القانون رغم ارتباط عملها بالمحاكم التي يشملها التنظيم القضائي الذي يدخل ضمن مجالات الاختصاص التشريعي للقانون حسب نص الفصل 71/8 من الدستور.
وفي غياب تلقي المسؤولين القضائيين تكوينا خاصا حول الإدارة القضائية40؛ فإن تكريس تبعية السلطة للسلطة، كحالة شاذة من مبدأ فصل السلط وقاعدة التوازن بينهما، يزيد من شدتها كون سلطة الإشراف هاته تتمدد وتتمطط في الواقع حسب المزاج الشخصي للمسؤول، فيستغل بعضهم الغموض التشريعي بشأن تحديد مهام الإشراف تحديدا دقيقا ويعمد للتدخل فيما ما يعد من الاختصاصات الأصيلة والخالصة للمسؤول الإداري. مما يستوجب وضع إطار قانوني شامل ومنظم ومحدد للمهام والمسؤوليات المنوطة بهيئة كتابة الضبط يشمل التوصيف الدقيق والحصري لمختلف اختصاصاتها، واعتماد مرجعية للوظائف والكفاءات في عملها.
ولابد أيضا من الإشارة إلى أن هذا الخلط والجمع بين مهام المسؤولية القضائية والمسؤولية الإدارية على صعيد المحاكم يعتبر من بين الاختلالات التي تعيق التدبير الجيد لمرفق القضاء41، لأنه يجعل المسؤول -التابع للهيئة القضائية- رئيسا إداريا لكل متضرر من قراراته، وجهة للطعن أمام سلطة قضائية. باعتبار أن كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا، يمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة، في إطار ممارسة الشخص لحق التقاضي والدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون42.
خلاصة :
إن العلاقة التي ينبغي أن تجمع بين المسؤول الإداري والمسؤول القضائي هي علاقة تنسيق وتكامل وتوازن وتعاون وليس علاقة وصاية وتبعية، باعتبار أن من يتولى مهام الإدارة القضائية ليس قاضيا وينأى عن ممارسة وظيفة القضاء وفض النزاعات والحكم في القضايا المعروضة على المحاكم. وهو معطى جوهري يتأسس على المرجعية الدستورية لفصل السلط وتوازنها وتعاونها ومبادئ الحكامة الجيدة والمقاربة التشاركية في تدبير المرافق العمومية، يجب على وزارة العدل مراعاته في ملاءمة مشروع قانون 38.15 للتنظيم القضائي مع قرار المحكمة الدستورية 89.19، بدء بالمادة 24 منه المتعلقة بما يسمى"لجنة التنسيق"، والمواد 27 و28 و93 بشأن عضوية "مكتب المحكمة"، والنص على "الجمعية العامة لموظفي الإدارة القضائية"، وحذف صفة المساعدة بالنسبة لعضوية كاتب الجلسة أثناء انعقاد الجلسات بالمحاكم في المواد 53 و54 و62 و66 و73 و80 و84 و89. وهو ما من شأنه فصل الإدارة عن العمل القضائي وعدم إخضاع موظفي جهاز إداري لوصاية جهاز قضائي عبر بسط السلطة على الإدارة القضائية أو إلحاقها بها بشكل قسري، وتشطيرها بين مهام مالية وإدارية ومهام قضائية وإسناد تلك المهام للقضاة في تضاد مباشر وخرق بائن لمبدأ فصل السلط.
وإن اللحظة والظروف التي أنتجت دستور2011 بفلسفته الحقوقية، وأنضجت التراكمات الديمقراطية في اتجاه توسيع رؤية الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة لم تنتصر لمنطق تغليب سلطة على سلطة أو تبعية إحداها للأخرى في امتحان توخي العدالة وإحقاق الحقوق لفائدة المغاربة؛ بل إن الإصلاح الحقيقي هو ما حكم فيه الضمير المسؤول لتحويل التوصيات والنصوص إلى الواقع عبر تنزيل حقيقي عادل ونزيه.
_________________________
_________________________
الهوامش:
[1]ـ رقية المصدق، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، الجزء الأول، دار توبقال للنشر، 1986، الدار البيضاء، مطبعة فضالة، ص.136.
2- دستور المملكة المغربية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.91، بتاريخ 29 يوليوز 2011، الجريدة الرسمية عدد 5964 المكررة بتاريخ 30 يوليوز 2011.
3- الفصل الأول من دستور 2011.
4 ـ الفصل 110 من دستور 2011.
5 ـ الفصل 117 من الدستور.
6 ـ الفصل 89 من الدستور.
7- الفصل 93 من الدستور.
8- الفقرة الأخيرة من المادة 54 من القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.16.40 في 24 مارس 2016، الجريدة الرسمية عدد 6456، في 14/04/2016.
9- مجلس شورى الدولة بالعراق، الإدارة القضائية وأثرها في تطوير القضاء والارتقاء بمستواه(تنمية القدرات والكفاءات، تحديث الأساليب، إدارة الدعاوى)، اطلع عليه بتاريخ03/06/2020، س16:15، على الرابط:
https://tridi-police.blogspot.com/2017/11/blog-post_82.html.
10- المواد 54 و 71 و72 و110من القانون التنظيمي رقم 100.13.
11ـ المادة 51 من القانون التنظيمي رقم 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.16.41 في 24 مارس 2016، الجريدة الرسمية عدد 6456 بتاريخ 14 أبريل 2016.
12- مشروع القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، موضوع قراءة المحكمة الدستورية رقم 19/89 م.د، في الملف رقم 041/19.
13- ميثاق إصلاح منظومة العدالة، الهيئة العليا للحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، يوليوز 2013.
14- ومن بينها الآلية التنفيذية 125 ضمن الهدف الرئيسي الرابع المتعلق ب"الارتقاء بفعالية ونجاعة القضاء"، والآلية التنفيذية 163 ضمن الهدف الرئيسي الخامس المتعلق ب"إنماء القدرات المؤسسية لمنظومة العدالة".
15- الفصل 89 من دستور 2011.
16- عبد اللطيف لشهب، القضاء والتنمية، مجلة المتوسط للدراسات القانونية والقضائية، العدد السادس، 2018، ص. 237.
17- المادتان الثانية والثالثة من المرسوم 2.11.473 الصادر في 14 شتنبر2011 بشأن النظام الأساسي الخاص بهيئة كتابة الضبط، الجريدة الرسمية عدد 5981 بتاريخ 26/09/2011.
18- الحسن العباقي، المحاكم ليست فضاء للقضاة وحدهم، مقال منشور بجريدة الصباح، عدد5444، بتاريخ 25/10/2017.
19-Nabila Mansour, L'administration de la justice, d'un logique de gestion à une logique de management qualité, mémoire pour l’obtention du diplôme du cycle supérieure de l'école nationale d'administration Rabat, 2006-2007, p.113.
20- مقتطف من خطاب الملك الراحل الحسن الثاني، بتاريخ 31 مارس 1982 بمناسبة اجتماعه بقضاة المملكة.
21- الفصل 70 من دستور 2011.
22- الفصل 89 من الدستور.
23- الفصول 107 و109 و110 و115 من الدستور.
24- الفصل الأول من الدستور.
25- الفصل 126 من الدستور.
26- الفصل 89 من الدستور.
27- الفصل 148 من الدستور.
28- الفقرة الثانية والثالثة من الفصل 113 من الدستور.
29- الفصل 93 من الدستور.
30- المادتان 54 و55 من القانون التنظيمي رقم 100.13.
31- الفقرة الأولى من الفصل 113 من الدستور.
32- المادة 2 من القانون التنظيمي رقم 100.13.
33- قرار المحكمة الدستورية رقم 19/89 م.د، في الملف رقم 041/19، حول مشروع القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة.
34- أبو القاسم الطيبي، مكانة كتابة الضبط ضمن منظومة العدالة، مقال منشور بجريدة الصباح، عدد5464، بتاريخ 15/11/2017.
35- وعلى سبيل المثال: الفصول 37ا/1 و39/7 و148/4 و202/3 و209 و436/1 و440 و455 و456 و460 و461 و466 و492 من الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.447 بتاريخ 28 شتنبر 1974 المتعلق بقانون المسطرة المدنية، الجريدة الرسمية عدد 3220 بتاريخ 30 شتنبر 1974، كما تم تعديله.
36- القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.02.225 بتاريخ 3 أكتوبر2002، الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 30 يناير 2003، كما تم تتميمه وتغييره.
37- المادة الثالثة من المرسوم.
38-عرض وزير العدل بمناسبة ندوة تقديم حصيلة منجزات الوزارة برسم سنة 2018، بالمعهد العالي للقضاء بتاريخ 21 دجنبر 2018.
39- قرار المحكمة الدستورية رقم 19/89 م.د، حول مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة.
40- المادة 51 من القانون التنظيمي رقم 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة.
41- ميثاق إصلاح منظومة العدالة، الأسس العامة لإصلاح منظومة العدالة، تشخيص الوضع الراهن لمنظومة العدالة، على مستوى أساليب تدبير مرفق القضاء، ص.46.
42- الفصل 118 من دستور 2011.