تطور الاختصاص القضائي في منازعات العقود الإدارية

مقال بعنوان: تطور الاختصاص القضائي في منازعات العقود الإدارية 

مقال بعنوان: تطور الاختصاص القضائي في منازعات العقود الإدارية  PDF

مقدمة 
إن الدولة كشخص عام مكلف بتسيير الشؤون العامة لمواطنيها تحتاج في سبيل ذلك إلى الدخول في علاقات تعاقدية مع الإفراد والمؤسسات عامة كانت أم خاصة، وطنية أو أجنبية، فبالرغم من قدم اللجوء إلى أسلوب التعاقد، فإن هذا الأخير يتميز في العصر الراهن بمجموعة من الخصائص والمميزات، لعل أهمها الصفة القانونية التي يوجد عليها طرفي العقد، إذ أصبح من الممكن أن تبرم عقود بين أشخاص معنوية فيما بينها أو بينها وبين أشخاص طبيعيين، وفي مقدمة هؤلاء الأشخاص الإعتباريين نجد الدولة، والتي أصبحت تلجأ إلى أسلوب التعاقد للقيام بالوظائف الإدارية حتى أصبح مصطلح الإدارة المتعاقدة Administration Contractuelle من التعبيرات المتداولة[1].
يعرف المغرب نظام مميز بين نوعي عقود الإدارة خاصة على أن[2] القانون المطبق على أي منهما مختلف. فعقود الإدارة الخاصة تخضع لقواعد القانون الخاص المنصوص عليها في ظهير قانون الالتزامات والعقود الصادر في 1913-08-12.
فهي في سبيل ذلك تتصرف كالأفراد العاديين تبيع وتشتري بمقتضى عقود تخضع للقانون المدني، وتخضع بالتالي للقضاء العادي، كما قد تتصرف في معرض تعاقدها مع الغير، كسلطة عامة، وتحتفظ في ذلك بكامل صفتها الأصلية، وبجميع اختصاصاتها ومسؤولياتها، والعقود التي تبرمها في هذا الصدد يطلق عليها اسم العقود الإدارية.
والعقد الإداري حسب قضاء مجلس الدولة الفرنسي هو ذلك العقد الذي يبرمه شخص معنوي بقصد تسيير مرفق عام، أو تنظيمه. وتظهر فيه نية الإدارة في الأخذ بأحكام القانون العام، وآية ذلك أن يتضمن العقد شروطا استثنائية وغير مألوفة في القانون الخاص، وان يخول المتعاقد مع الإدارة الاشتراك مباشرة في تسيير المرفق العام[3].
والعقود الإدارية كغيرها من العقود تترتب عنها منازعات نتيجة تضارب مصالح الطرفين، وذلك إما خلال مرحلة إبرام العقد أو انتهاء تنفيذه، وهذا يستتبع بالضرورة وجود مساطر لحل هذا النزاع.
والمسلم به تشريعا وقضاء في كل البلدان التي تأخذ بازدواجية القضاء أن منازعات العقود الإدارية تدخل ضمن اختصاص القضاء الإداري، فهي في فرنسا ظلت خاضعة لقاضي المشروعية حتى سنة 1884، حيث أبعدها مجلس الدولة الفرنسي عن مجال الإلغاء تدريجيا لتدخل ضمن القضاء الشامل، فهذا الاستبعاد كان عاما شمل كذلك القرارات الفردية كالترخيص والتصديق، لأن مجلس الدولة اعتبر انه بمجرد إبرام العقد تصبح مثل هذه القرارات مندمجة ولا تقبل الطعن بالإلغاء. والفقه الفرنسي اتفق على انه متى تم توقيع العقد، فان القاضي المختص بالمنازعات الناشئة خلال مدة العقد هو قاضي العقد هذا ما أكده
Laurent Richer [4]بقوله إن قاضي العقد ما هو إلا القاضي الإداري الذي يبت في إطار قواع القضاء الشامل، لكن في المطالب التي يتقدم بها أطراف العقد قصد معرفة حقوقهم التعاقدية، فقاضي العقد ليس لا بقاضي تجاوز السلطة، ولا بقاضي المسؤولية التقصيرية، فهو يبت في الطلبات التي تعود إل تنفيذ العقد، أداء التعويضات بناء على المسؤولية العقدية، أو نظرية الظروف الطارئة، أو فسخ العقد، أو بطلانه، أو تلك المتعلقة بأعمال تنفيذ العقد.
فالمسطرة المطبقة أمام قاضي العقد تحكمها قواعد التقاضي الإدارية العادية بصفة عامة. مع وجوب الإشارة إلى بعض الحالات التي تستوجب تدخل قاضي المستعجلات، ويكون ذلك طبقا لقواعد الاستعجال التي حددها قانون المسطرة المدنية طبعا.
مما سبق يتبين على أن الاختصاص القضائي بالبت في منازعات العقود الإدارية، عرف تطورا مهما، سواء على مستوى القضاء الإداري المغربي، أو المقارن. هذا التطور الذي أفضى إلى تمييز كل من اختصاص القضاء الشامل، وقضاء الإلغاء، بالنسبة لهذا النوع من المنازعات. وهو وما سنتناوله من خلال المحورين التاليين:


المبحث الأول: الإطار التنظيمي للاختصاص القضائي في منازعات العقود الإدارية
المبحث الثاني: نطاق القضاء الشامل وقضاء الإلغاء في مجال المنازعات العقدية

المبحث الأول: الإطار التنظيمي للاختصاص القضائي في منازعات العقود الإدارية

يعتبر الارتباط وثيقا بين فكرة العقد الإداري وبين قواعد الاختصاص بمنازعات العقد الإداري، ذلك أن إسناد الاختصاص للمحاكم العادية يخول تطبيق قواعد القانون الخاص كلما كان عقد الإدارة خاصا، ويكون الاختصاص للمحاكم الإدارية كلما كان العقد إداريا بالنسبة للدول التي تأخذ بنظام ازدواجية القضاء.
باعتبار فرنسا مهد القضاء الإداري وكون المغرب كان خاضعا للحماية الفرنسية فقد كان لذلك تأثير كبير على مستوى التنظيم القضائي بصفة عامة، وفي المجال الإداري بصفة خاص، لذلك سنقوم في المطلب الأول بدراسة تطور منازعات العقود الإدارية بفرنسا ثم في المغرب كمطلب ثاني.

المطلب الأول: تطور منازعات العقود الإدارية بفرنسا ومصر

إن تطور الاختصاص القضائي في مجال منازعات العقود الإدارية بفرنسا ارتبط بتطور القضاء الإداري في مجمله، وقد عمل كل من الفقه والقضاء على إرساء ووضع مجموعة من النظريات لتمييز العقود الإدارية عن العقود المدنية، وبالتالي رسم حدود لاختصاص كل من القضاء الإداري والقضاء العادي في مجال العقود.

الفقرة الأولى: تطور الاختصاص القضائي في منازعات العقود الإدارية بفرنسا

عمل الفقه والقضاء على رسم حدود الاختصاص بين القضاء العادي والقضاء الإداري في مجال العقود الإدارية باعتماد عدة نظريات.
فبعد الانتقادات التي وجهت لنظرية السلطة العامة، كونها لا تقدم فاصلا دقيقا بين أعمال السلطة العامة والتصرفات العادية للإدارة، كما أنها تضيق مجال القانون الإداري، أخذ القضاء الإداري بمعيار آخر هو معيار المرفق العام حيث تقرر بمقتضى حكم « terrie » لسنة 1903 أن اختصاص القضاء الإداري يتناول كل ما يتعلق بتنظيم وسير المرافق العامة، سواء كانت وسيلة الإدارة في ذلك عمل من أعمال السلطة العامة أو تصرفا عاديا مع بقاء حق الإدارة في اللجوء إلى وسائل القانون الخاص متى رأت أن تلك الوسائل أنجع في تسيير المرافق العامة.
لكن بظهور مرافق عامة ذات نفع عام يديرها الأفراد أو الأشخاص المعنوية الخاصة، تم التراجع عن معيار المرفق العام لتظهر معايير أخرى كمعيار المنفعة العامة ( مارسيل فالين)[5] وكذا المعيار المختلط (أندريه ديلوبادير)، فأصبح من الضروري لاعتبار العقد إداريا وبالتالي إحالة الاختصاص في المنازعات المرتبطة به إلى القضاء الإداري أن يتضمن:
1) وجود سلطة عامة كطرف في العقد
2) ارتباط العقد بنشاط المرفق العام
3) – اتباع أساليب القانون العام: ويتمثل ذلك في تضمين العقد شروطا استثنائية من القانون الخاص ويمكن استنتاجها من العقد وذلك بتحليل شروطه وبنوده أو من خلال النظام القانوني الذي يخضع له العقد إذا لم تكن الشروط الاستثنائية متضمنة في نصوص العقد ذاته.[6]

الفقرة الثانية: تطور الاختصاص القضائي في منازعات العقود الإدارية بمصر

قبل صدور القانون رقم 12 لسنة 1946 بإنشاء مجلس الدولة المصري كان النظام القضائي نظاما موحدا أساسه محاكم واحدة تختص بكل المنازعات كيفما كان نوعها أو سببها أو أطرافها. ومن تم كانت منازعات كل العقود سواء إدارية أو غير إدارية من اختصاص المحاكم العادية، وكانت هذه المحاكم تطبق على منازعات جميع العقود القانونية الخاصة لأنه لم يكن آنذاك قانون إداري لتطبيقه.
لكن بصدور قانون رقم 12 لسنة 1946 تم إنشاء قضاء إداري، أصبحت مصر تعرف نظاما قضائيا مزدوجا.
هذا القانون حدد اختصاص القضاء الإداري الوليد على سبيل الحصر دون أن يتطرق إلى منازعات العقود الإدارية، مما جعل منازعات العقود الإدارية تظل تحت عبادة القضاء العادي ويحكمها القانون الخاص:” وإن كان قسم الرأي بمجلس الدولة قد احتفظ بحق الفتوى فيما يعن الإدارة من أمور منها بطبيعة الحال المنازعات المتعلقة بالعقود الإدارية". [7]
في سنة 1949 صدر القانون رقم 9 المتعلق بإنشاء مجلس الدولة وحدد المشرع اختصاص القضاء الإداري وهذه المرة أيضا على سبيل الحصر، بحيث تضمنت المادة 5 النص على اختصاص محكمة القضاء الإداري بالفصل في المنازعات الخاصة بعقود الالتزام والأشغال العامة وعقود التوريد الإدارية.
هنا المشرع تحرك نحو إدخال العقود الإدارية في ولاية القضاء الإداري لكنه تحرك فيه استحياء، لأنه لم يجعل اختصاص القضاء الإداري بمنازعات العقود الإدارية اختصاصا عاما يشمل كل العقود الإدارية بل اكتفى بإدخال ثلاثة أنواع فقط في اختصاص القضاء الإداري، لتبقى باقي الأنواع ضمن دائرة القضاء العادي.
كذلك فإن المشرع لم يقرر اختصاص القضاء الإداري بمنازعات العقود الإدارية الثلاث التي حددها على سبيل الاستغلال. مما يجعل الاختصاص بالمنازعات المتعلقة بهذه العقود الثلاث اختصاصا مشتركا بين نوعي المحاكم، ويكون للمدعي الخيار في اللجوء لأي منها، ومتى اختار يمتنع على المحكمة الأخرى قبول الدعوى. ” وكان أبرز العيوب التي شابت الإصلاح الذي حققه قانون 1949”.[8]
ومع صدور القانون 165 لسنة 1955 تقرر اختصاص القضاء الإداري بمنازعات العقود الإدارية، حيث نصت المادة 10 على ”يفصل مجلس الدولة بهيأة قضاء إداري دون غيره في المنازعات الخاصة بعقود الالتزام والأشغال العامة والتوريد أو أي عقد إداري آخر.
هذ النص أبعد بصفة قطعية ولاية القضاء العادي على أي نوع من أنواع العقود الإدارية وجعل منازعات العقود الإدارية كلها في دائرة اختصاص القضاء الإداري.
بعد أن انعقد الاختصاص بمنازعات العقود الإدارية للقضاء الإداري ظهرت الحاجة إلى ضرورة تحديد نطاق أشغال كل من قاضي العقد والقاضي الإداري في هذه المنازعات. ولقد كان للفقه دور بارز.

المطلب الثاني: تطور منازعات العقود الإدارية بالمغرب

إلى حين إعلان الحماية في المغرب، ظل القاضي الشرعي رمزا للقضاء ذي الاختصاص العام بكل ما يهم المغاربة دون تمييز بين نوعية المنازعات التي تثور بين الأفراد، ليعرف التنظيم القضائي ببلادنا إصلاحا جوهريا استنادا إلى اتفاقية 4 نونبر 1911 التي خولت لفرنسا حق القيام بكل الإصلاحات الضرورية وكذا اتفاقية فاس لسنة 1912 التي نصت على حق الدولة الحامية القيام بتنظيم القضاء، ليعرف المغرب بصدور ظهير التنظيم القضائي لسنة 1913، أولى بوادر ظهور ازدواجية القانون قبل أن يتم تكريس قضاء مزدوج بموجب قانون 1993.

الفقرة الأولى: الاختصاص القضائي في منازعات العقود الإدارية قبل إحداث المحاكم الإدارية

إن ميدان القضاء الإداري الذي أحدثته سلطات الحماية كان محدودا جدا وكان في جملته تابعا للسياسة العامة التي طبقتها هذه السلطات الاستعمارية للاستفادة أكثر ما يمكن من كل ما يمكن أن ينتزع من المغرب[9]
ويعد ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتنظيم القضائي، الذي لا يختلف في جوهره وشكله عن مرسوم 27نوفمبر 1988 الذي سبق أن اختارته فرنسا لتونس، يعتبر هذا الظهير، خاصة المادة الثامنة منه، الأساس القانوني للمنازعات الإدارية بصفة عامة في المغرب[10]، حيث نصت على أنه:" تختص جهات القضاء الفرنسية المنشأة في ايالتنا، وذلك في حدود الاختصاص الممنوح لكل منها، بنظر جميع الدعاوى التي تهدف إلى تقرير مديونية الإدارات العامة بسبب تنفيذ العقود المبرمة من جانبنا أو بسبب الأشغال العامة التي أمرت بها أو بسبب الأعمال الصادرة منها والضارة بالغير، وتختص نفس الجهات بالنظر في الدعاوى المرفوعة من الإدارات العامة على الأفراد. . . . ”
و يمكن اعتبار هدا النص هو أساس المنازعات في المغرب، فهو يحدد اختصاص المحاكم التي تم تأسيسها حديثا وأوكل لها المنازعات المتعلقة بالمادة الإدارية.
ففي فرنسا كان إحداث قضاء إداري متخصص وقانون متميز عن القانون العادي ناتج عن مبدأ التمييز بين سلطات الإدارة والسلطات القضائية وكذلك نتيجة المنع الصريح للقضاة من التدخل في شؤون الإدارة. إما في المغرب، فقد خطا المشرع خطوات في نفس الاتجاه ولكنها خطوات متسارعة، حيث أناط بالقاضي مهمة البت في المادة الإدارية، وفي نفس الوقت يمنعه من التدخل في شؤون الإدارة بأي شكل يعيق سيرها. ويؤكد الاستاد أمين بنعبد الله[11] انه من الصعب قراءة الفصل 8 من الظهير دون استحضار نصين قانونيين فرنسيين في بداية القرن 19، فمن جهة نجد مرسوم 11 يونيو 1806 الذي أوكل لمجلس الدولة مهمة معرفة الطلبات المرتبطة سواء بالصفقات المنعقدة مع الوزراء أو بالأشغال أو المقتنيات لصالح المرافق تحت إمرتهم. ومن جهة أخرى نجد قانون 28 للسنة 8 الذي أوكل لمجالس الأقاليم مهمة مباشرة صعوبات تنفيذ صفقات الأشغال العامة وجعل مجلس الدولة هو المختص بالاستئناف. فواضع المادة 8 من ظهير 1913 حاول توجيه منازعات العقود الإدارية بالمغرب في نفس المنحى الذي سار إليه المشرع الفرنسي.
مع إنشاء المجلس الاعلى بمقتضى ظهير 27 شتنبر 1957 تم تحقيق وحدة القضاء، وكانت محاولة لسد الثغرة الكبيرة التي كانت تعرفها المنازعات الإدارية وهي غياب قضاء المشروعية. من هنا حاول المشرع المغربي إناطة هذا المجلس باختصاص الإلغاء لتجاوز السلطة. فعبر هدا القضاء كان لا بد من ضرورة تحديد معيار العقد الإداري الذي مند ظهير 1913 لم يطرح عمليا أي مشكل على مستوى القضاء المختص. فالاختصاص القضائي ظل موكولا للمحاكم تماشيا مع الفصل 8 من ظهير 1913، "فطبيعة العقد لم تكن له أهمية حقيقية إلا من جهة معرفة القانون الواجب التطبيق. "[12]. والجدير بالذكر إن المجلس الأعلى لم تثر لديه مشكلة معيار العقد الإداري لمدة وصلت 6 سنوات، فالقرارات الوحيدة كانت تتعلق بتجاوز السلطة المثارة ضد أعوان الإدارة المعينين بمقتضى عقود، وهذا الأمر الزم على المجلس تحديد الطبيعة الإدارية لهؤلاء لتحديد القانون العام الواجب التطبيق.
إذا كان إحداث المجلس الأعلى قد شكل خطوة لتعزيز وحدة القضاء وازدواجية القانون الذي تم إرساؤه مع إصلاحات 1913، فان قانون المسطرة المدنية ل 28 شتنبر 1974 شكل ترسيخا لوحدة المسطرة. فادا كانت الخاصية العامة لهده المسطرة تكمن في نسخ المادة 8 من ظهير 1913، فان هدا النسخ أدى لزاما إلى إلغاء مصدر القانون في المادة الإدارية. وهكذا جاءت المادة 18 من قانون المسطرة المدنية لتنيط بمحاكم أول درجة اختصاص البت في كافة النزاعات سواء المدنية أو التجارية أو الاجتماعية أو الإدارية. . . لكن يمكن إن نستشف- يؤكد الاستاد أمين بنعبد الله-بطريقة غير مباشرة أسس تطبيق قواعد القانون الإداري على العقود الإدارية والتي ظلت وفية لروح نصوص 1913. فواضعو قانون 1974 منعوا القضاء من البت بصفة ولو عرضية في أي طلب يستهدف عرقلة نشاط إدارات الدولة والمؤسسات العمومية.

الفقرة الثانية: مرحلة القضاء الإداري المختص

مما لا شك فيه أن إحداث المحاكم الإدارية في بلادنا، بموجب قانون 41. 90، عزز من جهة مراقبة القاضي لشرعية الأعمال التعاقدية ولاسيما الإدارية منها[13]، حيث نصت المادة الثامنة من قانون المحاكم الإدارية على اختصاص هذه المحاكم بالنظر في النزاعات الناشئة عن العقود الإدارية، وهو ما نتج عنه إثارة إشكالية تنازع الاختصاص وبشدة، خاصة وأن المادتين 12 و13 من قانون هذه المحاكم يجعل الاختصاص المتعلق بالقضاء الإداري من النظام العام، ويوجب على كل جهة قضائية عادية أو إدارية أن تثيره من تلقاء نفسها، ومن جهة أخرى أسند الفصل في تنازع الاختصاص للغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى التي اعتمدت في بداية إنشائها على معيار توفر العقد على شروط استثنائية والمساهمة في تسيير المرفق العام، ثم بعد ذلك (منذ سنة 1966) اعتمد على المعيار الشكلي المتمثل في وجود الإدارة كطرف في العقد.
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي عزز من استقلالية القضاء الإداري، عندما كرس لمبدأ التقاضي على درجتين في المنازعات الإدارية بما فيها منازعات العقود الإدارية، بإحداثه لمحاكم الاستئناف الإدارية سنة 2006 بموجب قانون 80. 03، الذي نص في مادته الخامسة على أنه:”تختص محاكم الاستئناف الإدارية بالنظر في استئناف أحكام المحاكم الإدارية وأوامر رؤسائها ما عدا إذا كانت هناك مقتضيات قانونية مخالفة".
والأصل خضوع المنازعات المترتبة عن تنفيذ العقود الإدارية بجميع صورها إلى ولاية القضاء الشامل دون قضاء الإلغاء وذلك لكون العقد هو نتاج توافق إرادتين من جهة ومن جهة أخرى لعدم اتصاله بوسائل الطعن المعتمدة في دعوى الإلغاء، إلا أنه يمكن اللجوء إلى قضاء الإلغاء للطعن في القرارات لتجاوز استعمال السلطة في مجال العقود الإدارية كالقرارات السابقة على تكوين العقد وكذا القرارات المتصلة بعملية التوقيع أو المصادقة على العقد وأيضا القرارات المتصلة بتنفيذ العقد الإداري أو إنهائه، وهو ما سنتعرض له في المبحث الموالي.

المبحث الثاني: نطاق القضاء الشامل وقضاء الإلغاء في مجال المنازعات العقدية

إذا كان الأصل هو أن صاحب الاختصاص بصفة عامة في كل قضايا المنازعات الإدارية هو القاضي الإداري، وإسناد الاختصاص لقاضي العقد يعتبر كاستثناء، فيمكن القول على أن الاختصاص الأصيل بالبت في منازعات العقود الإدارية، إنما يعود للقضاء الشامل، بينما يختص قضاء الإلغاء فيما ليس من صميم العقد الإداري، ولو أنه مرتبط بهذا الأخير.

المطلب الأول: اختصاص القضاء الشامل بالبت في منازعات العقود الإدارية

يعتبر القضاء الشامل الأصل في كل ما يتعلق بالمنازعات التي تترتب عن العقود الإدارية، واختصاص المحاكم الإدارية يمتد ليشمل كل ما يتعلق بعملية التعاقد بل وبجميع العقود الإدارية فهو اختصاص شامل ومطلق للمنازعات العقدية وما يتفرع عنها[14]. هذا ما أكدته المادة 8 من قانون 41. 90 المحدث بموجبه المحاكم الإدارية.
هذا الاختصاص يمتد ليشمل كل ما يتعلق بعملية التعاقد ابتداء من أول إجراء لتكوينها إلى آخر نتيجة في تصفية كافة الحقوق والالتزامات التي نشأت عنها، كما أنه اختصاص جامع لكل أنواع العقود الإدارية : عقود الأشغال-عقود التوريد وغيرها. . . .
وهكذا فمتى كان الإجراء صادرا عن جهة إدارية استنادا إلى نصوص العقد الإداري وتنفيذا له فإن هذا الإجراء يعد قرارا إداريا، وبالتالي لا يرد عليه طلب الإلغاء أو طلب وقف التنفيذ، وإنما يعد من قبيل المنازعات الحقوقية التي تعرض على قاضي العقد وتكون محلا للطعن أمام القضاء الكامل.[15]
فولاية القضاء الكامل على القرارات الإدارية المتعلقة بالعقود الإدارية –حسب المحكمة الإدارية العليا- مشروطة بشرطين:[16]
1- أن تصدر هذه القرارات تنفيذا للعقد الإداري، وهو ما يستلزم بداهة أن تكون في مواجهة المتعاقد مع الإدارة، ويعتبر القرار تنفيذا للعقد الإداري وذلك إذا كان صادرا استنادا إلى بنود العقد أو تنفيذا له. وعلى هذا الأساس يتم استبعاد من هذه الطائفة القرارات التي تصدرها الإدارة قبل إبرام العقد الإداري في المرحلة التمهيدية وكذا تستبعد قرارات تحديد شروط استخدام المرفق العام.
2- أن تستند الإدارة عند إصدار هذه القرارات إلى بنود العقود”. . . أما إذا كان طلب إلغاء العقد مستندا إلى نصوص العقد نفسه وتنفيذا له فإن المنازعة بشأنه تكون محلا للطعن أمام محكمة القضاء الإداري على أساس استعداء الولاية الكاملة لهذا القضاء.[17]
وعلى هذا الأساس يختص قاضي العقد بالمنازعات التي تثور بصدد الجزاءات التي توقعها الإدارة استنادا إلى سلطتها المستمدة من نصوص العقد ودفاتر الشروط.
وقد وضع مجلس الدولة الفرنسي أساس التفرقة بين اختصاص القضاءين في حكمه الصادر في 16 دجنبر 1907، حيث فرق المفوض Thardieu بين حالتين:
- حالة صدور القرارات الإدارية استنادا إلى الشروط الواردة في دفاتر الشروط. وحينئذ يتعين على الشركات المتعاقدة والطرف الآخر في الدعوى اللجوء إلى القضاء الكامل أمام قاضي العقد المختص.
- أما إذا ما صدرت القرارات المطعون فيها استنادا إلى القوانين واللوائح فإن وسيلة المنازعة فيها هي قضاء الإلغاء بغض النظر عن العقد وأحكامه.
وقد أكد الدكتور سليمان الطماوي هذا الاتجاه بقوله:. . . أن المتعاقد مع الإدارة، يسترد حقه في الالتجاء إلى قضاء الإلغاء إذا ما صدرت من الإدارة قرارات غير مشروعة، بصفة أخرى، أي لم تستند في إصدارها إلى صفتها كمتعاقدة فحينئذ يكون للمتعاقد كسائر المواطنين أن يطلب إلغاء تلك القرارات إذا ما استوفى شروط المصلحة.[18]

الفقرة الأولى: صور منازعات العقود الإدارية في نطاق القضاء الشامل.

يندرج في نطاق القضاء الشامل كل المنازعات الناشئة عن تنفيذ العقد والمتصلة به. ويشمل ذلك”. . . النزاع الهادف إلى إلغاء قرار إداري اتخذته الإدارة أثناء سريان العقد، على اعتبار أن كل ما يدخل في نطاق العقد هو من اختصاص القضاء الشامل ومنازعاته هي منازعات حقوقية[19]. ويؤكد الدكتور سليمان الطماوي أنه متى توافرت في المنازعة حقيقة العقد الإداري، سواء أكانت المنازعة خاصة بانعقاد العقد أو صحته أو تنفيذه أو انقضائه، فإنها كلها تدخل في نطاق ولاية القضاء الكامل، دون ولاية الإلغاء[20].
وتبعا لذلك، تتخذ تلك المنازعات عدة صور في نطاق القضاء الشامل يمكن إجمالها في الصور التالية:
1- دعوى بطلان العقد:
هي دعوى تثار عندما يلحق العقد عيب في التكوين، حيث إن المتعاقد لا يمكنه المطالبة بإلغاء العقد إلا بسلوك دعوى القضاء الشامل ولا يحق هنا للغير –الأجنبي عن العقد- أن يرفعها بحكم أنه لا يملك سوى حق الطعن بالإلغاء.
2- دعوى الحصول على مبالغ مالية - دعوى التعويض-
تقام هذه الدعوى إما:
من طرف الإدارة وذلك في شكل طلب تعويض عن الأضرار التي تسبب فيها الطرف المتعاقد معها، وذلك إذا ما أخل بالتزامه: أي لم ينفذ العقد داخل الأجل، أو تم تنفيذ العقد بغير الشكل والصورة التي التزم بها في العقد.
وإما من طرف المتعاقد مع الإدارة: مطالبة بالأجر، مطالبة بثمن البضائع.
ودعوى التعويض في مجال منازعات العقود الإدارية تتخذ عدة أوجه:
- التعويض عن التماطل في أداء المقابل المالي نتيجة تنفيذ العقد: فهدف المتعاقد من تنفيذ العقد هو الحصول على المقابل المالي لذا على الإدارة الالتزام بتأديته وإلا أرغمت على تأدية فوائد التأخير.
- التعويض لضمان التوازن المالي: ينشئ اختلال التوازن المالي للعقد الإداري حقا والتزاما في الوقت ذاته، فالالتزام ينشأ على كاهل الإدارة التي عليها إعادة التوازن المالي للعقد، والحق يكون للمتعاقد في شكل تعويض عن الظروف التي أثرت على التوازن المالي للمشروع، وهذه الظروف تكون إما نتيجة تعديل العقد. أو نتيجة خطأ الإدارة، أو نتيجة فعل الأمير، أو نتيجة قوة قاهرة أو صعوبات مادية غبر متوقعة.
3- دعوى إبطال تصرفات الإدارة المخالفة لالتزاماتها التعاقدية:
ويكون ذلك في حالة صدور تصرف من الإدارة على خلاف التزاماتها التعاقدية، هنا يحق للمتعاقد الآخر أن يحصل على حكم بإبطال تلك التصرفات عن طريق القضاء الشامل. وتحتفظ دعواه في هذه الحالة بصفتها تلك، من حيث إنها تنتمي إلى القضاء الشامل، حتى ولو اقتصرت على طلب إلغاء قرار إداري أصدرته الإدارة بصفتها متعاقدة، ولهذا أثره فيما يتعلق بإجراءات التقاضي ومواعيده لاختلاف كل من قضاءي الإلغاء والتعويض عن الآخر في ذلك الخصوص. [21]
في حكم شركة مقاولة الأشغال العمومية العقارية ضد مدير المكتب الوطني للكهرباء الذي ألغى صفقة متعلقة بإنجاز الطاعنة لأشغال إعداد حوض جديد للطاقة الكهربائية بجرادة. اعتبرت المحكمة الإدارية بالرباط أن القرار القاضي بإلغاء الصفقة يدخل في إطار المنازعات حول تنفيذ النزاع لا منفصل عنه، فالدعوى الموازية قائمة في هذه النازلة، وأنه كان بإمكان الطاعنة أن تحصل على نفس النتائج بتقديم دعوى أمام القضاء الشامل وهو ما لم تفعله. [22] فقرار فسخ الصفقة لعدم وفاء المتعاقد مع الإدارة لالتزاماته قرار متصل بالعقد وتحاكم مشروعيته من طرف قاضي العقد في نطاق القضاء الشامل.
4- دعوى فسخ العقد:
هو الفسخ الذي ينطق به القضاء وذلك بناء على طلب أحد الطرفين، وقد حدد الدكتور سليمان الطماوي الأسباب التي من أجلها يحكم القضاء بالفسخ في العناصر التالية:[23]
- الفسخ القضائي بسبب القوة القاهرة: ينتج عن القوة القاهرة إعفاء المتعاقد من التنفيذ، فلا يكون بمقدور الإدارة إرغامه على التنفيذ ولا أن توقع عليه غرامات التأخير.
- الفسخ القضائي نتيجة الإخلال بالالتزامات التعاقدية: ويكون في حالة عدم وفاء أحد الأطراف المتعاقدين بالتزاماته التعاقدية، وإذا ما وصلت المخالفة درجة جسيمة هنا يحق له اللجوء إلى القضاء.
وهنا موقف المتعاقد يختلف عن موقف الإدارة. [24]
- موقف المتعاقد: يكون دائما مضطرا إلى اللجوء إلى القضاء بغية الحصول على حكم قضائي يقضي بفسخ العقد. وهذا الحكم لا يصدر عن القضاء إلا إذا أخطأت الإدارة خطأ جسيما.
- موقف الإدارة: يمكنها اللجوء إلى فسخ العقد بقرار إداري صادر من جهتها، ويمكنها أن تتنازل عن استعمال حقها في فسخ العقد الإداري وأن تلتجئ بدورها إلى القضاء ضمانا لعدم رجوع المتعاقد عليها بالتعويض إذا ما ثبت أنها أساءت استخدام هذا الحق.
- الفسخ القضائي كموازن لسلطات الإدارة: أتاح المشرع للإدارة إمكانية التدخل في مجال العقود الإدارية وزيادة التزامات المتعاقد أو تقليصها على ألا يتجاوز ذلك حدودا معينة وألا ينجم عنه قلب اقتصاديات العقد أو تغيير جوهره بحيث يصبح المتعاقد أمام عقد جديد، وإذا ما حصل تجاوز من طرف الإدارة يحق للمتعاقد المطالبة بفسخ العقد خصوصا إذا ما ارتأى أن التعويض لن يمكن من مواجهة ظروف العقد الجديد.

الفقرة الثانية: القضاء الاستعجالي في منازعات العقود الإدارية

إن أساس اختصاص القضاء الإداري بالأمور المستعجلة في نطاق العقود الإدارية أن المختص بأصل الموضوع يختص تبعا له بكل ما يتفرع عنه. وعلى هذا الأساس استقرت أحكام المحاكم الإدارية باختصاصها بالنظر في جميع الطلبات المستعجلة المتعلقة بالعقود الإدارية. والجدير بالذكر أن المحاكم تفصل في الطلب المستعجل في الحدود والضوابط المقررة للفصل في الطلبات المستعجلة، حيث تنظر أولا في توافر الاستعجال على حسب الحالة المعروضة والحق المطلوب المحافظة عليه، ثم تستظهر جدية الأسباب أو عدم جديتها بالنسبة إليها في ظاهرها، فتحكم على مقتضى هذا النظر بحكمها المؤقت على الوجه المستعجل للنزاع، وذلك إما باتخاذ الإجراء المطلوب أو رفضه دون المساس بالناحية الموضوعية للنزاع، الأمر الذي تنظر فيه المحاكم بعد ذلك في ظل ما لديها من دلائل موضوعية.
وتتوزع الطلبات المستعجلة في نطاق ولاية القضاء الإداري بين طلبات في نطاق ولاية الإلغاء وطلبات في نطاق ولاية القضاء الشامل.
فالطلبات المستعجلة في منازعات العقود الإدارية في نطاق ولاية الإلغاء تنحصر في طلب الحكم بوقف تنفيذ قرار من القرارات الإدارية المنفصلة، وتبعا لذلك يخضع هذا الطلب لأحكام وقف تنفيذ القرار الإداري. وقد عبر عنه الفقهاء بنظام وقف التنفيذ. ويستهدف هذا النظام وقف سريان القرارات الإدارية.
وبحكم أن القضاء الشامل يهم كل متعلقات العقد تكوينا وتنفيذا وإنهاء، فإن اختصاص القاضي الإداري بالفصل في المنازعات التعاقدية يستتبع اختصاصه النظر في الطلبات المستعجلة المنبثقة عنه والمطعون بإلغائها وفق شروط معينة، وهو يدخل بالتالي ضمن ولاية قاضي الإلغاء دون قاضي العقد. [25]، فمحل دعاوى إيقاف تنفيذ القرارات الإدارية أمام القضاء الإداري عامة، سواء في ببلادنا، أو في فرنسا، أو مصر، يكون دائما هو ذاته محل طلب دعوى الإلغاء، وذلك تطبيقا لقاعدة اقتران طلب وقف التنفيذ المقرر الإداري بطلب إلغاء نفس المقرر.[26]

المطلب الثاني: اختصاص قضاء الإلغاء كاستثناء في مجال المنازعات العقدية

يعتبر قضاء العقود الإدارية ومسؤولية الإدارة عن أعمالها التعاقدية المجال الأصلي للقضاء الشامل، أما مجال قضاء الإلغاء في نطاق منازعات العقود الإدارية فيبقى محدودا جدا. والمتتبع لقضاء مجلس الدولة الفرنسي في هذا الخصوص يجد أن ذلك القضاء يقوم على مبدأين أصليين، يمكن اعتبارهما مدخلا لدراسة قضاء الإلغاء في مجال العقود الإدارية وهما:
1- كون دعوى الإلغاء توجه ضد قرار إداري صادر عن الإرادة المنفردة للإدارة بينما العقد نتاج توافق إرادتين.
2- أن وسائل الطعن المعتمدة في دعوى الإلغاء والتي لا يمكن أن تتعلق بخرق الإدارة لشرط العقد الذي أبرمته وإنما بأوجه عدم المشروعية، كما هي منصوص عليها في الفصل 20 من قانون 90-41 المحدث للمحاكم الإدارية.[27]
وبالرغم من الإطلاق الذي قد يستشف من القاعدتين، فالأصل في منازعات العقود الإدارية أنها تدخل في مجال القضاء الشامل لأن دعوى الإلغاء لا توجه إلى العقود الإدارية، غير أن العقد الإداري يرتبط بإجراءات تمهد الإدارة بها لإبرام العقد أو تهيئ له، ومن هذه الإجراءات ما يتم بقرار إداري صادر من السلطة المختصة ويمكن له كافة فخصائص ومقومات القرار الإداري، فمثل هذه القرارات وإن كانت تساهم في تكوين العقد وتستهدف إتمامه، فإنها مع ذلك تنفرد في طبيعتها عنه وتنفصل عنه، ومن ثم يجوز الطعن فيها بالإلغاء وتسمى بالقرارات الإدارية المنفصلة (الفقرة الأولى)، كما أنه بالنسبة لعقود الامتياز قد تصدر قرارات إدارية تؤثر في المستفيدين من خدمات المرفق الأمر الذي يقتضي السماح لهؤلاء المستفيدين الطعن في هذه القرارات ( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: إلغاء القرارات الإدارية المنفصلة عن العقد:actes détachables

- تعد القرارات الإدارية المنفصلة القرارات التي تستهدف التمهيد لإبرام العقد أو السماح بإبرامه أو الحيلولة دون إبرامه، وتعتبر كذلك القرارات الممهدة لعقد الصفقات العمومية قرارات منفصلة عن العملية التعاقدية وقابلة بطبيعتها هاته للطعن عن طريق دعوى الإلغاء.[28]
- القاعدة العامة أن الطعن بالإلغاء لا يمكن إلا ضد القرارات الإدارية وبالتالي لا مكان للحديث عنه في مجال العمليات المركبة كالعقود الإدارية. فهاته الاخيرة عملية مركبة تتكون من عدة مراحل تشمل كل مرحلة عدة قرارات إدارية، وهي كعملية قانونية متكاملة تخرج ككل عن نطاق دعوى الإلغاء.
وقد صورت أحكام القضاء الإداري نظرية القرارات المنفصلة، وعرفت القرار المنفصل” متى توافرت في المنازعات الإدارية حقيقة العقد الإداري سواء أكانت المنازعات خاصة بانعقاد العقد أو صحته أو تنفيذه أو انقضائه فإنها كلها تدخل في نطاق ولاية القضاء الشامل. أما القرارات الممهدة لعقد الصفقات العمومية تعتبر قرارات منفصلة عن العملية التعاقدية وقابلة بطبيعتها هاته للطعن عن طريق دعوى الإلغاء. [29]
- ويجب التمييز هنا بين العقد نفسه وبين القرارات الإدارية التي ترافق انعقاده، إذ أن هذه القرارات تعتبر مستقلة عن العقد ويجوز الطعن فيها بالإلغاء، فعلى سبيل المثال القرارات التي تصدر من جانب الإدارة وحدها بمقتضى سلطتها العامة في المرحلة التمهيدية من إبرام العقد كالقرارات المتصلة بفتح الأظرفة أو الإقصاء من جلسة طلب العروض. أما فيما يخص القرارات التي تصدر تنفيذا للعقد أي القرارات الخاصة بجزاء من الجزاءات التعاقدية كفسخ عقد أو إلغاؤه. . . فهذه تدخل في نطاق العقد وهي منازعات حقوقية ومجالها القضاء الشامل لا قضاء الإلغاء.
وعلى هذا الأساس قضت المحكمة الإدارية بمراكش” حيث لما كان من الثابت من وثائق الملف أن القرار المطعون فيه اتخذ بسبب إخلال الطاعن بشروط وبنود واردة في العقد المبرم في إطار القانون المتعلق بالاستثمارات الصناعية واتخذ من طرف الجهة المطلوبة في الطعن بوصفها سلطة إدارية الشيء الذي تكون معه دعوى الإلغاء هي الإطار المناسب لمراقبة مشروعية القرار المذكور وليس دعوى القضاء الشامل كما تمسك به بذلك والي جهة مراكش".[30]
وينبغي الإشارة إلى أن إلغاء القرارات المنفصلة في حالة العقود الإدارية وحدها لا يمكن أن يؤدي بذاته إلى إلغاء العقد، بل يظل العقد سليما حتى يتمسك أحد أطرافه بالحكم الصادر بالإلغاء وذلك بناء على أثر حكم الإلغاء أمام قاضي العقد، هنا يجوز لقاضي العقد أن يحكم بإلغائه استنادا إلى سبق إلغاء القرارات المنفصلة والتي ساهمت في إتمام عملية التعاقد[31]
- إلغاء القرارات المنفصلة من طرف المتعاقد:
لقد وسع مجلس الدولة الفرنسي من نظرية القرار المنفصل لتشمل أيضا المتعاقد مع الإدارة ليس استنادا إلى خرق الإدارة لبنود العقد ولكن نتيجة خرقها الشروط والإجراءات المنصوص عليها في القوانين واللوائح.
لكن أغلب الفقه ذهب إلى أن المتعاقد ليس أمامه إلا سبيل واحد، هو قاضي العقد الذي يحسم بمقتضى القضاء الشامل كل المنازعات المتعلقة بالعقد الإداري.
الدكتور سليمان الطماوي له نظر في هذا الاتجاه” حيث أن التجاء المتعاقد إلى دعوى الإلغاء لا يكون بطبيعة الحال إلا بعد إبرام العقد، وبالتالي لا يكون للمتعاقد مصلحة في الالتجاء إلى قضاء الإلغاء، لأنه لو حصل على حكم بإلغاء القرار الإداري المنفصل فإنه يتعين عليه بعد ذلك العودة مرة أخرى إلى قاضي العقد حتى يرتب له النتيجة التي تترتب على الحكم بالإلغاء، ومن ثم يكون من الأفضل أن يلجأ إلى قاضي العقد مباشرة. [32]
- إلغاء القرارات المنفصلة من طرف غير المتعاقد:
إذا كان المتعاقد مع الإدارة لا يمكنه أن يلجأ إلى قاضي العقد في إطار القضاء الشامل للطعن في القرارات الإدارية المنفصلة عن العقد فإنه يمكنه أن يسلك طريق دعوى الإلغاء. والقضاء الإداري ذهب إلى أن إلغاء القرارت الإدارية المنفصلة في حالة العقود الإدارية وحدها لا يمكن أن يؤدي بذاته إلى إلغاء العقد بل يبقى العقد ساري المفعول إلى أن يطعن فيه أحد الأطراف أمام قاضي العقد الذي يمكن أن بحكم بإلغائه استنادا إلى القرارات الإدارية المنفصلة التي سبق إلغاؤها.

الفقرة الثانية: طعون المستفيد في حالة عقود الامتياز

وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، لا يمكن البتة الاستناد إلى شروط عقد من العقود من اجل التوصل إلى إلغاء قرار إداري، ومبرر الفقهاء في ذلك إن قضاء الإلغاء إنما يستهدف المحافظة على قواعد المشروعية، لكن القضاء الفرنسي خرج عن هذه القاعدة من خلال حكمه الشهير في قضية syndicat des propriétaires du quartier croix de Segney-tivoli والتي صدر الحكم فيها في 21 دجنبر 1906 حيث أجاز للمستفيدين في حالة امتياز المرافق العامة أن يطعنوا بالإلغاء في القرارات التي تصدر عن الإدارة في علاقتها بالملتزم والتي تتضمن إخلالات بشروط عقد الامتياز [33]. ومبرر معظم الفقهاء في فرنسا ومصر يرجع هذا الاستثناء إلى الطبيعة اللائحية لبعض الشروط الواردة في عقود الامتياز.[34]
إن مختلف طعون المستفيدين من خدمات المرافق العامة الاقتصادية تدخل في إطار قضاء الإلغاء، وذلك وفق أحكام القضاء الإداري، وذلك انطلاقا من أن قبول أو رفض إبرام عقود المرشحين للانتفاع من خدمات المرافق العمومية الاقتصادية هي قرارات سابقة على إبرام العقود، كما جاء في حكم صادر عن إدارية فاس حيث جاء فيه، ” فرض المكتب الوطني للكهرباء إبرام عقد مع أحد المنتفعين بخدماته من أجل تزويده بالكهرباء هو قرار إداري صادر عن سلطة عامة ومنصب على تصرف منبثق من تسيير المكتب المذكور لمرفق عام، يتعذر على المواطنين الاستفادة من خدماته في غياب ذلك التعاقد".[35]
وفي حكم آخر، قضت إدارية مراكش” إن قرارات رفض التعاقد مع المرشحين للانتفاع من خدمات المرفق العام، تعتبر قرارات إدارية سابقة على إبرام العقود وتدخل في اختصاص المحكمة الإدارية، وإن حرمان ومنع الطاعنة من حقها في الاستفادة من خدمات مرفق عمومي لأسباب لا علاقة لها بها وخارجة عن إرادتها يعد خرقا لمبدأ المساواة، ويجعل قرار الإدارة معرض للإلغاء.[36]

خاتمة
إذا كان تطور وظائف الدولة وتعددها، قد حذا بها إلى الدخول في علاقات تعاقدية بغية تسيير المرافق العامة، بهدف تحقيق المصلحة العامة، خاصة فيما يخص إبرامها العقود الإدارية التي تتميز عن نظيرتها في القانون المدني، فإن هذا التطور واكبه تطور على مستوى الاختصاص القضائي سواء تعلق الأمر بالقضاء الإداري المغربي أو المقارن، هذا الذي أفضى إلى وجود قضاء إداري أكثر تخصصا داخل منظومة القضاء الإداري الذي هو قضاء متخصص بامتياز، وهو قاضي العقد الإداري، الذي يمارس اختصاصاته في نطاق القضاء الشامل كقاعدة عامة، لكن هذا لا ينفي بالمرة أن هناك حالات تدخل في نطاق قضاء الإلغاء، كما هو الشأن بالنسبة للقرارات المنفصلة.
--------------------------------
هوامش:
[1] - د. ثورية العيوني، "القضاء الإداري ورقابته على أعمال الإدارة"، دار النشر الجسور وجدة، الطبعة الأولى 2005، ص:229.
- ثورية العيوني، مرجع سابق، ص 238[2]
سليمان الطماوي الأسس العامة للعقود الإدارية ص 59 الطبعة الأولى 1999[3]
[4] A PARTIR DU MOMENT OU LE DIFFEREND SE SITUE APRES LA SIGNATURE DU CONTRAT au cours de la vie de celui-ci le juge saisi est
le juge du contrat
A partir du moment où le différend se situe après la signature du contrat, au cours de la vie de celui-ci, le juge saisi est le juge du contrat.
Cette expression , couramment utilisé par la jurisprudence et la doctrine, ne désigne pas un type particulier de juridiction : le juge du contrat est le juge administratif de droit commun saisi d’un recours de plein contentieux par lequel l’une des parties fait valoir ses droits contractuels. Le juge du contrat n’est donc ni le juge de l’excès de pouvoir ni le juge de la responsabilité quasi-délictuelle. Il peut être saisi de demandes tendant à l’exécution du contrat, au paiement d’indemnités fondées sur la responsabilité contractuelle ou la théorie de l’imprévision, à la résiliation du contrat, à sa nullité ou à celle d’actes d’exécution.
[5] - محمد خلف الجبوري: العقود الإدارية، الطبعة الثانية، 1998، ص 13.
[6] - د. ثورية العيوني القضاء الإداري ورقابته على أعمال الإدارة، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى 2005، ص 272-273.
[7] الطماوي الأسس العامة للعقود ص 23
[8] الطماوي ص 25
[9] - عبد القادر باينة: القضاء الإداري، الأسس العامة والتطور التاريخي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 1988، ص 123.
[10] - indepandance nationale du système juridique au Maroc, acte de collegue des 26 et 27 mars 1998, p191.
[11]Amine benabdallah. independance nationale et système juridique au maroc. acte du colloque des 26 et 27 mars 1998 p 192
[12] Amine benabdallah p 192
[13] - مولاي ادريس الكتاني الحلابي: العقود الإدارية، مطبعة دار السلام، الرباط، طبعة 2001، ص 73.
[14] محمد الأعرج نظام العقود الإدارية والصفقات العمومية. منشورات المجلة المغربية للادارة المحلية والتنمية – عدد 88 - 2011ص 124
[15] عمر حلمي. طبيعة اختصاص القضاء الإداري بمنازعات العقود الإدارية، دار النهضة العربية 1993 ص 65
[16] عمر حلمي، نفس المرجع السابق ص 65
[17] القضية 167 السنة 11 قضائية أشار إليه عمر حلمي مرجع سابق ص 66
[18] سليمان الطماوي – مرجع سابق ص 194
[19] كريم الحرش القضاء الإداري. سلسلة اللامركزية والإدارة المحلية. عدد مزدوج 16 – 17 الطبعة 1 سنة 2012 ص 199
[20] سليمان الطماوي. الأسس العامة للعقود الإدارية. الطبعة الاولى 1957. ص 130
[21] الاختصاص النوعي للمحاكم الإدارية في منازعات العقود الإدارية ريمالد مواضيع الساعة 48/2003 ص 77
[22] حكم أورده محمد الاعرج، مرجع سابق، ص 78
[23] محمد سليمان الطماوي، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 768 أشار إليه كريم الاحرش مرجع سابق.
[24] كريم الاحرش ص 201
[25] عمر حلمي مرجع سابق ص 143
[26] عبد الله بونيت. إيقاف تنفيذ القرار الإداري في ضوء الإجتهاد القضائي المغربي والمقارن-دراسة تطبيقية الطبعة 2-2011.
حكم إدارية مكناس رقم 9/94//3غ بتاريخ 20/10/1994 ملف 2/94/3غ- حكم رقم 605 بتاريخ 5/7/2001 ملف 43/00غ+غ عن إدارية الرباط- قرار عدد 140 بتاريخ 30/5/1995 ملف إداري عدد 10434/94 بلفقيه ربيعة ضد معالي الوزير الأول-المجلس الأعلى- نزهة الجعي ضد الدولة المغربية قرار 5/4/2006 ملف إداري القسم 1 عدد 3349/4/1/2005. - قرار استئنافية الرباط عدد 309 بتاريخ 23/5/07 ملف عدد 11/06/5 السيد محمد أوزابير ضد رئيس المجلس البلدي لسيدي يحيى الغرب ومن معه، حكم محكمة القضاء الإداري المصري رقم 5152 لسنة 60ق استجابت من خلاله لوقف تنفيذ قرار إداري. حكم نفس المحكمة رقم 1000 لسنة 60ق. هذه القرارات وغيرها كثيرة أشار إليها المرجع السابق
[27] محمد صقلي حسيني. المنازعات العقدية على ضوء الاجتهاد القضائي الإداري، مقال في مجلة المحاكم الإدارية. عدد 4 سنة 2011 – ص51
[28] حكم المحكمة الإدارية بالبيضاء رقم 98 بتاريخ 21/02/2001 منشور بمجلة ريمالد 48 ص 87 المحاكم المغربية، عدد 86 ص 203 أشار اليهالاعرج
[29] حكم المحكمة الإدارية بأكادير عدد 27 بتاريخ 06/05/1999، شركة تيرس ضد وزير الفلاحة، الدليل العملي. ص 395 أشار اليها الاعرج ريمالد عدد 48 ص 88
[30] حكم عدد بتاريخ 23/01/2002 مولاي مسعود أكوزال ضد الوزير الأول. حكم منشور بالدليل العملي الجزء 1 ص 118.
[31] الأعرج ص 150
[32] سليمان الطماوي. الأسس العامة للعقود الإدارية. ص 149
[33] د. ثورية العيوني، "القضاء الإداري ورقابته على أعمال الإدارة. مرجع سابق. ص 310
[34] سليمان الطماوي. م. س ص 151
[35] حكم إدارية فاس. عدد 769 بتاريخ 07/01/2000 ناصف حرمة الله ضد المكتب الوطني للكهرباء أورده محمد الأعرج مواضيع الساعة 47 ص 86.
[36] حكم إدارية مراكش عدد 73 بتاريخ 10/05/2000 سعاد الهلالي ضد الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء، أورده الأعرج مرجع سابق ص 143

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -