مبدأ سلطان الإرادة بين الاطلاق وإكراهات التوازن العقدي

عرض بعنوان: مبدأ سلطان الإرادة بين الاطلاق وإكراهات التوازن العقدي PDF

مبدأ سلطان الإرادة بين الاطلاق واكراهات التوازن العقدي PDF

مقدمة :
 يعد العقد من أبرز التصرفات القانونية الشائعة والمميزة لسلوك الإنسان قديما وحديثا، فهو مصدر من مصادر الالتزام قوامه اتفاق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني سواء كان هذا الأثر هو إنشاء الالتزام أو نقله أو تعديله أو إنهاؤه، فإرادة الأطراف هي العنصر الأساسي في تكوين العقد بل لا يمكن تصور العقد بدونها، ذلك أنها تنشئ العقد وتخرجه للوجود من جهة، وتحدد آثاره ومداه من جهة ثانية، وهذا ما يعبر عنه في الفقه بمبدأ سلطان الذي (principe de l’autonomie de la volonté) الإرادة أو النظرية التقليدية للعقد يعد نتاجا للمذهب الفردي السائد في القرنين 18 و19 والذي يعتد بالإرادة وحرية الفرد.
ويعتبر مبدأ سلطان الإرادة من المواضيع الفلسفية ذات الطابع القانوني التي أخذت حيزا مهما من الدراسات الفقهية، نظرا لكونه من المتطلبات الأساسية للعملية التعاقدية، بل هو أساسها الجوهري، ذلك أن ذمة الأطراف هي من تتحمل الالتزامات المترتبة عن العقد فكان لازما أن تكون إرادتهم هي من تحدث هذا الأثر من عدمه.
بالرغم من أهمية مبدأ سلطان الإرادة وما يكتسيه من دور أساسي في تكوين العقود وإنشاء الالتزامات، إلا أنه عرف تراجعا في الآونة الأخيرة وأضحت له توجهات حديثة بفعل تطورات اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية.
كل ذلك حدا بالباحثين إلى الانصباب على الموضوع، والبحث عما إذا كانت الإرادة قادرة لوحدها على إنشاء تصرفات قانونية، وتحديد مداها في ظل اتجاه أغلب التقنينات نحو التقليص من دور الإرادة في تكوين العقود.
وعليه، تتجلى أهمية البحث في موضوع "مبدأ سلطان الإرادة بين الإطلاق وإكراهات التوازن العقدي" في الوقوف على حقيقة هذا المبدأ، ومركزه في تكوين العقود في ظل التحولات التي فرضتها العولمة والاتجاهات الحديثة التي أضحى ينهجها التقنين الحديث في مجال العقود.
ومادام أن الموضوع يثير عدة نقاشات نظرا للوضعية الحديثة له فهو يطرح إشكالية محورية مفادها:
إلى أي حد حافظ مبدأ سلطان الإرادة على قوته المطلقة أمام التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها المجتمع؟
هذه الإشكالية تتفرع عنها أسئلة فرعية تتلخص فيما يلي:
ما قوام ومركز مبدأ سلطان الإرادة في تكوين العقود؟ وما هي العوامل التي أدت إلى تراجع وانتكاص هذا المبدأ؟
وللوصول إلى إجابة لإشكالية الموضوع والأسئلة المتفرعة عنها ارتأينا الاعتماد على استقراء وتحليل النصوص القانونية قصد استخلاص جملة من الأحكام العامة المرتبطة به، من خلال الاستعانة بالتصميم التالي: 

المبحث الأول: مبدأ سلطان الإرادة ومركزه في تكوين العقود
المبحث الثاني: اضطراب وتراجع مبدأ سلطان الإرادة 


المبحث الأول: مبدأ سلطان الإرادة ومركزه في تكوين العقود 

يهيمن على نظرية العقد مبدأ تقليدي هام ألا وهو مبدأ سلطان الإرادة، والذي يعتبر الركيزة الأساسية التي تبنى عليها التصرفات القانونية بصفة عامة. وهو ليس نتاج العصر الحالي وإنما نتاج القرون الوسطى، مر بعدها من محطات تاريخية تأرجح فيها بين الهيمنة والانتكاص. ونظرا لأهمية مبدأ سلطان الإرادة في نظرية العقد بصفة عامة، تتطلب هذه الدراسة البحث عن مركزه في تكوين العقود (المطلب الثاني) لكن قبل ذلك يتعين علينا إلقاء نظرة عامة حول مبدأ سلطان الإرادة (المطلب الأول).

المطلب الأول: نظرة عامة حول مبدأ سلطان الإرادة 

قبل أن نتعمق في البحث كان لابد من إعطاء تصور شامل لمبدأ سلطان الإرادة وذلك من خلال بيان مفهومه ومراحل تطوره في الفقرة الأولى، على أن نعرض للآثار المترتبة عنه في الفقرة الثانية.

الفقرة الأولى: المفهوم والتطور 

تستند وتقوم نظرية العقد في القانون المدني على مبدأ هام هو مبدأ سلطان الإرادة ويقصد به أن للإرادة وحدها القدرة على إنشاء الالتزام وتحديد مضمونه وأثره دون حاجة إلى إجراء أو شكل خاص[1]، أي أن إرادة الأطراف هي الأصلية في إنشاء الالتزامات وتحديد مداها ونطاقها دون تدخل أية جهة أخرى غير ممثلة في العقد.
وقد عبر المختار بن أحمد عطار في إطار تفسيره لهذا المبدأ على أن الإرادة لها الأثر الفاعل في تكوين العقد وفي ترتيب الآثار بل في جميع العلاقات القانونية حتى وإن لم تأتي وفق أوضاع تعاقدية[2].
وعليه استنادا للتعاريف السالفة الذكر يتضح أن مفهوم مبدأ سلطان الإرادة يقوم على اعتبارات ذاتية مرتبطة بوجدان الفرد أساسها الإرادة قبل الإقدام على إبرام تصرفات قانونية والتي من شأنها أن تحمله التزامات.
وعلى هذا الأساس فإرادة الفرد هي الأساس في تكوين العقد وإذا ما تخلفت أو شابها عيب انعدم العقد.
وقد ظهرت الإرهاصات الأولية لمبدأ سلطان الإرادة مع المبادئ الدينية وقانون الكنيسة الذي نادى بالوفاء بالعقود خلال القرون الوسطى، إذ كان المتعاقد إذا أقسم على احترام عقده ولو لم يفرغه في شكله المخصوص، عدا الحنث باليمين خطيئة يعاقب عليها بل أن مجرد عدم الوفاء بالوعد جريمة دينية[3].
وفي مرحلة لاحقة ساعدت عدة عوامل اقتصادية وسياسية على انتشار مبدأ سلطان الإرادة منها ازدياد النشاط التجاري فيما يتعلق بالمعاملات التجارية، وكذلك رغبة الدولة في بسط نفوذها باتجاهها نحو التدخل في الروابط القانونية بين الأفراد قصد إضفاء حماية على العقود، إضافة إلى ظهور المذهب الفردي الذي نادى بدوره بأن الحرية هي الهدف وأن الفرد قلب المجتمع وأن هدف الجماعة هو حماية الفرد ووجوب استقلال إرادته وتسيير هذه الأخيرة لكل ما في الحياة من نظم اقتصادية واجتماعية. وقد صاحبت أيضا هذا المذهب نظريات فلسفية وأخرى اقتصادية اتخذ أنصارها عنوانا لهم "دع الأمور تجري (laissez faire) دع الأشياء تنتقل (laissez passer) وفي تفسير لذلك إطلاق الحرية في العمل وجعل التجارة حرة من القيود الجمركية[4].
وهكذا استمر مبدأ سلطان الإرادة في التطور إلى أن استقر وصار دعامة تنبني عليها النظريات القانونية والمواثيق الدستورية وساد مبدأ الحرية الفردية واستقلالها وأن ما يقرره المتعاقدان بحريتهم يكون شريعتهم التي تحكم علاقتهما وأن العقد قانون بالنسبة لعاقديه وأن ما يبرمه المتعاقدان نتيجة حريتهما لا يمكن لأحدهما أن ينفرد بإنهائه وهذا تعبير صادق عما نهجه الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود المغربي[5] بقوله: "الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون"[6].
وبذلك أخذ مبدأ سلطان الإرادة مكانة بارزة في تكوين العقود، هذه المكانة ترتبت عنها نتائج نابعة من المبدأ نفسه وهذا ما سيكون موضوع الدراسة في الفقرة الموالية.

الفقرة الثانية: الآثار المترتبة عن مبدأ سلطان الإرادة 

لقد سبق القول أن مبدأ سلطان الإرادة تطور إلى أن ترسخ فأصبح قاعدة أساسية تبنى عليها النظريات القانونية، فجميع الالتزامات والنظم القانونية ترجع في مصدرها إلى الإرادة الحرة، وهذه الإرادة لا تقتصر على أن تكون مصدرا للالتزام فحسب بل هي المرجع الأساسي له.
وبذلك صارت إرادة الإنسان تشرع بذاتها وتنشئ بذاتها لذاتها التزامات، فإذا ما التزم شخص بتصرف قانوني فإنه يلتزم لأنه أراد ذلك وبالقدر الذي أراد، فالصالح العام يتحقق آليا بمجرد تحقيق الصالح الخاص، ولئن قام تعارض بين الحرية والعدالة فالرجحان يكون للحرية[7].
وبناء على ذلك، فالإرادة وحدها كافية لإبرام العقود وبالتالي تستطيع هذه الإرادة إنشاء تصرفات قانونية[8] دون قيد على حرية الإنسان الكاملة ولا يحد من هذه الحقوق سوى اعتبارات النظام العام والأخلاق الحميدة والآداب العامة. والإرادة التي يعتد بها في هذا المجال هي الإرادة التي اتجهت اتجاها صحيحا وسليما نحو غايتها؛ أي الإرادة التي لم تكن مشوبة بعيب من العيوب[9] فالإرادة المكرهة أو التي يشوبها غلط أو المدلس عليها لا تنشأ عقدا صحيحا ويكون لصاحبها أن يتمسك بالعيب ويبطل العقد.
ولما كان العقد وليد إرادة المتعاقدين، فإن مبدأ سلطان الإرادة يوجب احترام هذا العقد ،فلا يحق لأحد المتعاقدين القيام بنقضه أو تعديله أو إنهائه إلا بالاتفاق مع المتعاقد الآخر، كما أنه لا يحق للقاضي التدخل لتعديل أو إنهاء العقد بدعوى أنه غير عادل، بل يجب أن يقتصر دوره بهذا الشأن في تفسير العقد عن طريق البحث عن الإرادة الحقيقية لعاقديه[10].
ومن هذا نستخلص أن العقد هو بمثابة القانون المصغر بين الأطراف ولذلك يعبرون عن هذه الحقيقة بأن العقد شريعة المتعاقدين، فالعقد ملزم تماما كالقانون بل هو من نفس طبيعته، لأن القانون عقد كبير يبرمه كل الأفراد في المجتمع، وتوجد إلى جانبه عقود صغيرة فيما بين الأفراد، ولذلك لا ينبغي أن يقال أن العقد لا ينعقد إلا بإذن من المشرع لأن هذا الأخير لم تصبح سلطته عامة إلا نتيجة للعقد الذي تم بين الأفراد والذي هو العقد الاجتماعي[11] .
وحيث أن إرادة الأطراف هي الأساس في تكوين العقود، فإن آثار هذه الأخيرة ينبغي أن لا تنصرف إلا للمتعاقدين في إطار ما يسمى بمبدأ نسبية العقود[12]، وهذا المبدأ له قوته الفلسفية فالحقوق والالتزامات التي يرتبها العقد تلحق بالمتعاقدين دون غيرهما، فمن لم ترتض إرادته انصراف هذا الأثر إليه يظل بمنأى عن هذا الأثر فلا يستفيد ولا يتضرر من العقد.
كانت هذه لمحة حول مفهوم وتطور وآثار مبدأ سلطان الإرادة، وهذه النتائج تستدعي منا البحث عن متجليات ومظاهر هذا المبدأ .

المطلب الثاني: مركز مبدأ سلطان الإرادة في تكوين العقود 

إذا كان مبدأ سلطان الإرادة حسب أنصاره الركيزة الأساسية في تكوين العقود وتحديد آثارها، فسنبحث عن مدى تجليات ومركز مبدأ سلطان الإرادة في تكوين العقود على مستوى التقنين المغربي.
فمن خلال إطلاعنا على معظم القوانين المغربية الخاصة نجد أن المعاملات المالية (الفقرة الأولى) هو المجال الأوسع لتطبيقات الحرية التعاقدية في مقابل ذلك، يظهر بدرجة أقل في المعاملات الشخصية (الفقرة الثانية.)

الفقرة الأولى: في مجال المعاملات المالية 

يمتاز قانون الالتزامات والعقود المغربي بأنه ذو نزعة فردية توفيقية، ويتجلى ذلك أساسا في مجموعة من النصوص التي تكرس مبدأ الرضائية والحرية في التعاقد التي لا يحد منها إلا قيد النظام العام، وكل ما من شأنه المساس بحقوق الغير1. فمبدأ سلطان الإرادة أو العقد شريعة المتعاقدين وغيره من المبادئ التقليدية في ميدان القانون المدني لازالت تحتفظ بصلابتها في إطار قانون الالتزامات والعقود المغربي، الأمر الذي يصعب معه على القاضي مهمة الفصل في المنازعات التي تمس هذه المبادئ، لذلك فهناك مجموعة من النصوص التي تؤكد اعتناق المشرع المغربي لمبدأ سلطان الإرادة كالفصول 2و19و21 من ق.ل.ع التي تتعلق على التوالي بمبدأ الرضائية في العقود والحرية التعاقدية وضرورة التعبير عن الإرادة بشكل ظاهر[13].غير أن المشرع حدد نطاق مبدأ سلطان الإرادة في الفصل 230 من ق.ل.ع الذي جاء فيه: "الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئيها ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون".
وبالتالي فالمشرع جعل إرادة المتعاقدين بمثابة القانون المنظم لهذه العلاقة التعاقدية، لهذا فالفصل 230 من ق.ل.ع أتى على ذكر أحكام مبدأ سلطان الإرادة كما أن في مجال الحقوق الشخصية فالإرادة هي أساس التصرف القانوني، وإن كان يقوم بجانبها مصادر أخرىغير إرادية كالعمل غير المشروع والإثراء بلا سبب والقانون، غير أن في مجال الحقوقالعينية يقل دور مبدأ سلطان الإرادة لأن الحقوق العينية محددة على سبيل الحصر في القانون 39.[14]08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية [15]، ولا مجال للتوسع فيها.
ولا بأس أن نعطي مثالا لنوع من العقود التي تتميز بمبدأ سلطان الإرادة في إبرامها، ونقصد هنا عقد البيع في قانون الالتزامات والعقود، فعملية البيع تتأسس على مبدأ الحرية التعاقدية ومبدأ سلطان الإرادة الذي يعد البنيان الذي بنيت عليه نظرية الالتزامات والعقود المغربي سيرا على نهج القانون المدني الفرنسي[16].
لذا فعقد البيع يعتبر من عقود التراضي بمعنى أن الأفراد أحرار في التراضي على موضوع التعاقد وفق مشيئة إرادتهم ولا إجبار أو إكراه لأحدهم على الآخر وما على القانون سوى حماية الأفراد في أموالهم[17]. وقد جاء في الفصل 488 من ق.ل.ع المغربي ما يلي: "يكون البيع تاما بمجرد تراضي عاقديه، أحدهما بالبيع والآخر بالشراء، وباتفاقهما على المبيع والثمن وشروط العقد الأخرى"، بمعنى أنه لا يلتزم فيه بشكلية معينة بحيث ينعقد صحيحا بمجرد تطابق الإيجاب والقبول على الشيء المبيع والثمن، بخلاف بعض العقود الأخرى التي يتطلب الشارع لصحتها شكلية معينة كما هو الشأن بالنسبة للعقود العينية التي توجب التسليم كالهبة أو الرهن الحيازي. لكن ورغم القاعدة العامة التي تقر بمبدأ سلطان الإرادة في إبرام عقد البيع، إلا أن هناك جملة من الاستثناءات التي تطلب فيها المشرع لصحة عقد البيع شكلية الكتابة كما هو الحال إذا كان المبيع عقارا أو حقوقا عقارية أو ما شابه، إذ أوجب المشرع أن تجري عملية البيع هذه كتابة في عقد رسمي أو محرر ثابت التاريخ كما جاء النص على ذلك في المادة الرابعة من م.ح.ع والتي فرضت الشكلية على جميع البيوع العقارية سواء كانت محفظة أو غير محفظة[18].
لكن تجدر الإشارة أخيرا إلى أن الحرية التعاقدية تبقى مقيدة بضوابط فكرة النظام العام والآداب العامة، فكل اتفاق يخالف النظام العام والآداب العامة باطل بطلانا مطلقا. 

الفقرة الثانية: في مجال الأحوال الشخصية 

فكما تقوى الإرادة في مجال الأموال خاصة في الحقوق الشخصية والتي يتسع مجالها بمعنى أن الإرادة مصدر لكثير من هذه الحقوق التي ترتب آثارها، فالأمر على العكس من ذلك في مجال الروابط الأسرية التي نجد فيها المجال ضيقا لإعمال مبدأ سلطان الإرادة فإعمال الإرادة في هذه المعاملات يبقى محدودا، فعقد الزواج وهو الأساس الذي ترتكز عليه الأسرة مصدر إرادة المتعاقدين غير أن الآثار التي يرتبها غير خاضعة للإرادة، بل ينظمها القانون وكذلك بقية روابط الأسرة لا شأن للإرادة فيها[19].
 فالمراكز القانونية التي تنشئها الإرادة في هذا النوع من المعاملات وإن كانت وليدة الإرادة غير أنها تخضع لأحكام المشرع دون اعتبار لإرادة الأطراف. وقبل الحديث عن قوة القانون في ترتيب آثار الزواج نستهل محورنا هذا بالحديث عن الخطبة باعتبارها وعدا أو تواعد رجل وامرأة على الزواج[20].
ففي هذه المرحلة يعتبر كلا الطرفان في فترة خطبة إلى حين الإشهاد على عقد الزواج ،ولكل من الطرفين حق العدول عن الخطبة، فحرية الطرفين في هذه المرحلة تبقى حاضرة لأن لكلا الطرفين الحق في إجراء الخطبة من عدمه أو العدول عن الخطبة عملا بمبدأ حرية الشخص في الزواج[21].
 غير أن مجرد العدول عن الخطبة لا يترتب عنه تعويض، إلا أنه إذا صدر عن أحد الطرفين فعل سببّ ضررا للآخر يمكن للمتضرر المطالبة بالتعويض (المادة 7 من م.أ[22]). فكما أن لسلطان الإرادة دوره في إجراء الخطبة بين الطرفين فله أهميته أيضا في تكوين عقد الزواج، فالزواج ينعقد بإيجاب من أحد المتعاقدين وقبول من الآخر بألفاظ تفيد معنى الزواج لغة أو عرفا، يصح الإيجاب والقبول من العاجز عن النطق بالكتابة إن كانيكتب وإلا فبإشارته المفهومة من الطرف الآخر ومن الشاهدين (المادة 10 من م.أ) لذلك فعقدالزواج هنا يبقى خاضعا للشروط الإرادية التي وضعها الطرفان اعتمادا على مبدأ سلطان الإرادة وتجسيدا لما جاء النص عليه في الفصل 230 من ق.ل.ع.
وهذه الحرية التعاقدية أساس تكوين عقد الزواج، لكن يبقى دور هذه الإرادة محدودا في قضايا الأحوال الشخصية لأن سلطان الإرادة يتلاشى في نطاق تحديد الآثار القانونية التي تترتب على هذا العقد، فيستقل القانون بذلك دون اعتبار لإرادة الزوجين ابتغاء حماية المصلحة العامة [23].
ختاما، فمبدأ سلطان الإرادة أو مبدأ حرية التعاقد في إنشاء التصرف مازال يمثل القاعدة الأساسية في التعاقد، وإن كانت ترد على هذه القاعدة استثناءات وقيود أصبحت تتزايد في الوقت الحالي عما كان عليه الوضع بالأمس لعوامل تخص تطور الأوضاع الاجتماعية وتغيرها، يضاف إلى ذلك ما يشهده العالم اليوم من تحولات اقتصادية على مستوى المعيش اليومي، والعلاقات التعاقدية التي أصبح مداها يتسع ويتطور ليشمل مجالات فنية وتقنية، مما يجعل المشرع ملزما بإعادة النظر في جملة من المبادئ الكلاسيكية التي أصبحت تتراجع[24] بفعل هذا التطور المجتمعي وصار التوازن العقدي يواجه جملة من الإكراهات التي تعيق تحقيق السلم الاجتماعي. 

المبحث الثاني: اضطراب وتراجع مبدأ سلطان الإرادة 

بالرغم من سيادة حرية التعاقد في كثير من المجالات، إلا أن هذه الحرية أخذت في تراجع واضطراب توخم عن ذلك تقهقه لمبدأ سلطان الإرادة بفعل عوامل عدة. فنظرا لطبيعة بعض العقود وحاجتها الملحة للتنظيم قصد الحفاظ على استقرار المعاملات وتحقيق الأمن التعاقدي، أخذ المشرع في إدخال الشكلية كقيد على مبدأ سلطان الإرادة، رافقه القضاء - أمام اختلالات التوازن العقدي وما تتطلبه بعض أطراف العلاقة التعاقدية من حماية ـ في التدخل هو كذلك للنظر في المؤسسة العقدية هذا من جهة، ونظرا كذلك للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي نجم عنها تنامي فئة من العقود توخم عنها ازدياد تدخل الدولة قصد توجيه العقود من جهة ثانية.
وعليه، تقتضي منا دراسة هذا المبحث بحثه في مطلبين، سنتناول مدى تأثير المؤسستين التشريعية والقضائية على مبدأ سلطان الإرادة في مطلب أول على أن نتطرق لتأثير التحولات الاقتصادية والاجتماعية على هذا المبدأ في مطلب ثان.

المطلب الأول: تأثير المؤسستين التشريعية والقضائية على مبدأ سلطان الإرادة 

لقد أدت المؤسستين التشريعية والقضائية إلى تراجع وانتكاص مبدأ سلطان الإرادة وذلك من خلال بعض مظاهر التدخل التشريعي (الفقرة الأولى) والتدخل القضائي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : التدخل التشريعي في العقود 

لقد تكرس مبدأ سلطان الإرادة في معظم العقود بموجب الفصل 19 من ق.ل.ع، إلا أن هذا المبدأ ما لبث أن أوجد له المشرع استثناءات بموجب نفس الظهير مرتبطة فيما إذا تعلق الأمر بحقوق عقارية أو أشياء أخرى يمكن رهنها رهنا رسميا[25].
ينضاف بذلك إلى الإرادة عنصر آخر لكي ينتج العقد أثره، وهو أن يتخذ هذا التصرفالشكل المحدد له بموجب القانون. إن ركن الشكلية والذي تم تأصيله بموجب الفصل 489 منق.ل.ع فحواه ضرورة توافر الكتابة كلما كان الأمر يتعلق بحق عيني عقاري.
ويلاحظ أن المشرع استلزم الكتابة العرفية بالرغم من ما يثيره من مشاكل أمام المحاكم، لكن تدارك ذلك وجنح نحو فرض رسمية العقود وتعميمها في المجال العقاري وذلك بموجب القانون رقم 08.39 المتعلق بمدونة الحقوق العينية في مادته الرابعة1، واستمر على هذا النهج ليطال أغلب القوانين العقارية2.
واتجاه المشرع نحو تعميم وفرض شكلية الكتابة على العقود لم يكن اعتباطيا، بل كان من وراء ذلك أهداف وانعكاسات3 تفرضها العدالة على بعض العقود4.
واستمر الشارع المغربي في التضييق على مبدأ سلطان الإرادة وقوته وتعداه ليشمل بالكتابة مجال الكراء العقاري سواء المدني منه أو التجاري، متجاوزا بذلك الخاصية التي كانت تعتبر عقد الكراء رضائيا5.
حيث لم يتم الإبقاء على هذه الخاصية في مندرجات القانون الجديد رقم 67.[26]12 المتعلقبالكراء المدني حسب ما جاء في مادته الثالثة[27]. أتبعه كذلك في هذا النهج القانون 49.[28]16 المتعلق بالكراء التجاري الذي نص هو أيضا في مادته الثالثة على ضرورة تحرير عقد الكراء في محرر ثابت التاريخ تحت طائلة عدم إخضاعه لهذا القانون.
وعلى هذا الأساس تزعزعت المبادئ التي ظهر من أجلها مبدأ سلطان الإرادة وأصبح الفصل 19 من ق.ل.ع يطبعه القصور، لا يؤخذ به على أصله، وأصبح ذو استثناءات بفعل تدخل المشرع وجنوحه نحو الشكلية في بعض العقود، والتي أصبحت تعد من أركان العقد ينبغي توافرها إلى جانب الأركان الأخرى، وانعدامها يحول دون ترتيب أي أثر للعقد.
وانتكاص مبدأ سلطان الإرادة لم يكن بفعل تدخل المشرع وحده، بل وأمام إكراهات اقتصادية وتكنولوجية واجتماعية التي أفرزت اختلالات في التوازن العقدي سمح المشرع للقاضي بالتدخل من أجل الحفاظ على التوازن العقدي.

الفقرة الثانية: التدخل القضائي في العقود 

يعتبر مبدأ حرية الإرادة منطلقا أساسيا للعملية التعاقدية كما أن القوة الملزمة للعقد هي الهدف الجوهري للمتعاقدين، فالعقد شريعة المتعاقدين فلا يجوز نقضه أو تعديله إلا باتفاق الطرفين[29].
غير أن هذا الأمر ليس على إطلاقه، إذ أن المشرع لاعتبارات العدالة قد خول للقاضيفي بعض الحالات سلطة التدخل في العقود[30] حيث نجده ينص في الفصل 54 من ق.ل.ع علىأنه: "أسباب الإبطال المبنية على حالة المرض والحالات الأخرى المشابهة متروكة لتقدير القضاة"، ففي ضوء هذا الفصل إذا كان أحد المتعاقدين قد استغل مرض المتعاقد الآخر أو ضعفه أو طيشه البين أو هواه الجامح أو حاجته الماسة وأبرم معه عقدا لا تتعادل فيه التزامات الطرفين، بل ينطوي على غبن أحدهما غبنا فاحشا، فإن الطرف المغبون غبنا استغلاليا يسوغ له المطالبة بإبطال العقد[31] للقاضي سلطة واسعة في تقرير الإبطال، وفي هذا الإطار جاء قرار[32] للمجلس الأعلى بتاريخ 04 أبريل 1980 : "لا يشترط لإبطال العقد السبب المنصوص عليه في الفصل 54 أن يكون الشخص فاقد الوعي، بل يكفي أن تكون إرادته معيبة بسبب المرض الذي نزل به، وأن المتعاقد معه استغل وضعيته هذه فحصل منه إبرام عقد ما كان ليقبله لو كان سليما معافى، وأن المحكمة لما لها من سلطة التقدير الممنوحة لها بمقتضى الفصل 54 من قانون الالتزامات والعقود المغربي، اعتبرت أن الهالك لم يكن حرا في تصرفه وأن المشتري استغل المرض الخطير الذي نزل به فأحضر الموثق للمصحة التي كان يعالج فيها وأشهد بالبيع".
هذا وقد اعتبر المشرع المغربي في الفصل 878 من ق.ل.ع استغلال المقرض حاجة المستقرض أو ضعف إدراكه أو عدم تجربته لحمله على القبول بفوائد أو منافع تتجاوز إلى حد كبير السعر العادي للفوائد وقيمة الخدمة المؤداة، من قبيل الغبن الاستغلالي الذي يجوز معه إبطال الشروط والاتفاقات المتضمنة منح المقرض فوائد أو منافع فاحشة، بل إن المشرع المغربي اعتبر الغبن الاستغلالي في مثل هذه الحالة ماسا بالنظام العام إذ أجاز للمحكمة أنتقرر البطلان من نفسها[33].
وإذا كان المشرع المغربي لم يأخذ بنظرية الظروف الطارئة[34]، فإنه في المقابل راعى الظروف والأزمات التي قد تعصف بالمدين فتجعله معسرا، الشيء الذي دفع به إلى تخويل القاضي إمكانية تمتيع المدين بمهلة الميسرة[35] Délai de grâce، وذلك بمقتضى الفقرة الثانية من الفصل 243 من ق.ل.ع والتي جاء فيها: " ومع ذلك، يسوغ للقضاة، مراعاة منهم لمركز المدين، ومع استعمال هذه السلطة في نطاق ضيق، أن يمنحوه آجالا معتدلة للوفاء، وأن يوقفوا إجراءات المطالبة، مع إبقاء الأشياء على حالها"، الأمر الذي طبقته محكمة الاستئناف بالرباط في قرار[36] لها بتاريخ 20 يناير 1961، حيث جاء فيه: "ومع ذلك تبقى إمكانية توقيف وتعطيل هذا الشرط، بمنح المكتري أجل ميسرة لأداء واجبات الكراء المتخلفة في ذمته...مما ارتأت معه المحكمة منح الطاعنة أجل ميسرة لأداء واجبات الكراء."
هذا فيما يتعلق ببعض الحالات في ق.ل.ع، أما فيما يخص القوانين الخاصة، فالمشرع المغربي من خلال القانون رقم 31.[37]08 المنظم لحماية المستهلك أعطى للقاضي إمكانية وضع يده على المنازعات الاستهلاكية من أجل إعادة التوازن إلى العلاقات العقدية، وكمثال على هذه الحماية القضائية ما تم التنصيص عليه في الفقرة الأولى من المادة 95 من القانون السالف الذكر: "إذا نشأ نزاع في شأن تنفيذ العقد الأصلي للبيع أو تقديم الخدمة، جاز لقاضي المستعجلات أن يأمر بوقف تنفيذ عقد القرض، إلى أن يتم الفصل في النزاع."
كما له صلاحية التدخل من أجل إعادة النظر في جدولة أقساط القروض الاستهلاكيةوالعقارية لصالح المستهلك الذي توقف عن أداء الأقساط بسبب فقده لعمله أو وظيفته أو فيالحالات التي تعترضه صعوبات اجتماعية غير متوقعة[38].
بالإضافة إلى القانون رقم 67.12 الذي أعطى للمكري الحق في مطالبة المكتري بالزيادة إما عن طريق المراجعة الاتفاقية أو القضائية وهذا ما يستشف من خلال المادة [39]35 من ذات القانون[40].
وارتباطا بما سبق، يمكن القول أن المؤسستين التشريعية والقضائية كان لهما التأثير البالغ على مبدأ سلطان الإرادة، إلا أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية ساهمت كذلك في انتكاص وتراجع هذا المبدأ.

المطلب الثاني: تأثير التحولات الاقتصادية والاجتماعية على مبدأ سلطان الإرادة 

لم تساهم المؤسستين التشريعية والقضائية لوحدهما في التضييق على الحرية التعاقدية ،بل كذلك عوامل اقتصادية واجتماعية ساهمت هي أيضا في الحد من الحرية التعاقدية وتقييدها.
فلقد تنامت عقود الإذعان (الفقرة الأولى) ومع هذا التنامي ازدادت فكرة النظام العام (الفقرة الثانية) .

الفقرة الأولى: تنامي عقود الإذعان 

لقد أدت التحولات الاقتصادية والاجتماعية إلى ظهور قوى اقتصادية متحكمة ساهمت بالإجحاف على مبدأ سلطان الإرادة عن طريق بروز نوع خاص من العقود يطلق عليها عقود الإذعان.
وقد عرف القضاء المغربي عقود الإذعان بأنها العقود التي لا يكون فيها أي خيار للمتعاقد سوى الإذعان للشروط التي يمليها المتعاقد الآخر إن أراد فعلا التعاقد1،وعليه فعقد الإذعان عقد يتحدد مضمونه التعاقدي كليا أو جزئيا بشكل مجرد وعام قبل المرحلة التعاقدية من جانب واحد وفردي (المذعن)، هذه الإرادة الفردية أو الأحادية هي التي تتولى تحديد اقتصاد العقد أو بعض عناصره أما إرادة المذعن عليه فلا تتدخل إلا من أجل منح فعالية قانونية لهذه الإرادة الأحادية.
فعقد الإذعان يجعل الطرف المذعن ينضم إلى عقد نموذجي حرر بصفة انفرادية من طرف المذعن دون أن يكون للأول أي إمكانية حقيقية لتعديله، وبالتالي تظهر إرادة واحدة دون الأخرى وهذا ما لا يتماشى مع ما يقرره مبدأ سلطان الإرادة.
والحقيقة أن عقود الإذعان هي عقود ضرورية لا غنى عنها بالنسبة لجمهور المستهلكين أو المنتفعين، هذا ما يجعلهم أحيانا مجبرين على إخضاع إرادتهم لبنود هذه العقود دون أن يظهر أثر حرية التعاقد الذي كرسته إرادة المذهب الفردي.
وعقود الإذعان أخذت في التزايد2 بفعل المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية نذكر منها على سبيل المثال عقد التأمين الذي يضم كافة العناصر المميزة لهذه الفئة من العقود، إذ أن مضمونه يتحدد بصفة مسبقة من جانب المؤمن ويعرض على الجمهور في شكل موحد، فتقتصر إرادة المؤمن لهم على التسليم والانضمام للعقد دون إمكانية مناقشته أو تعديله نظرا للقوة الاقتصادية والفنية التي تتمتع بها مقاولات التأمين والتي تخول لها فرض شروطها باعتبارها الطرف القوي في العقد بحكم احترافها وخبرتها.
الشيء الذي يجعل إرادة الطرفين غير متكافئة ومتناقضة على اعتبار أن الأول له دراية وحنكة بموضوع العقد والثاني لا يهمه من العلاقة إلا الآثار القانونية والاجتماعية للعقد[41].
وأمام معارضة مبدأ سلطان الإرادة لعقود الإذعان من أجل إعادة التوازن العقدي كان لزاما على المشرع أن يتدخل من أجل تهذيب هذه العقود وحتى لا يجور الطرف القوي على الطرف الضعيف في العقد وذلك بنصوص آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها.
هذه القواعد الآمرة أو المرتبطة بفكرة النظام العام لا يفهم منها إحياء الحرية التعاقدية وإنما التضييق عليها من جهة ثانية وهذا ما سنعمل على بحثه في الفقرة الموالية .

الفقرة الثانية: تزايد فكرة النظام العام

سبق القول أنه وبفعل المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية ظهر طرف قوي اقتصاديا وماليا وفنيا وقانونيا وذلك ناتج عن وضعه في السوق واحتكاره للسلعة أو الخدمة أو على الأقل سيطرته عليها سيطرة تجعل المنافسة فيها محدودة النطاق بتأثير عوامل الإنتاج والتوزيع وكذا بامتلاكه المعلومات والمعارف بشأن أساليب أو خصائص إنتاج أو تداول سلعة أو معرفته المعمقة والدقيقة بقانون وشروط العقد.
فاختلفت بفعل ذلك المراكز التعاقدية نتيجة اختلال موازن القوى وبالتالي أدى ذلك إلى استغلال الطرف الضعيف من لدن القوي، مما حدا بالمشرع إلى التدخل ووضع نصوص قانونية آمرة متعلقة بالنظام العام حفاظا على مصالح الطرف الضعيف في العقد.
وتعد فكرة النظام العام قيدا تقليديا على مبدأ سلطان الإرادة، كما أسهمت في تعيين حدوده ويتفق الجميع على صعوبة إيراد تعريف لها.
بيد أن القضاء المغربي[42] عرف النظام العام بأنه: "مجموعة من القواعد القانونية التي يقصد بها تحقيق مصلحة عامة سياسية أو اجتماعية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلوا على مصلحة الأفراد، فيجب على جميع الأفراد مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها ولا يجوز لهم أن يخالفوها باتفاقات فيما بينهم حتى ولو حققت لهم هذه الاتفاقات مصالح فردية، فإن المصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة".
وعلى هذا الأساس ففكرة النظام العام معيارها المصلحة العامة، وهو معيار موضوعي لا ذاتي ويستلزم احترام مقتضيات النظام العام والآداب العامة للحد من حرية الأفراد، والتقييد من دور الإرادة، فلم تبقى حرية التعاقد مبدأ مطلقا بورود هذا القيد عليها[43] ولقد تضمن القانون المغربي عدة تطبيقات لها وأخذ في الكثير من الحالات بمقتضيات النظام العام والآداب العامة[44]، ومما هو جدير بالذكر أنه حيث تتسع دائرة النظام العام يضيق مبدأ سلطان الإرادة وحيث تضيق هذه الدائرة يتسع المبدأ.
ونتيجة لذلك، فالعقد أصبح يستمد إلزاميته من إرادة المشرع لا من إرادة الأطراف ويتفرع عن هذه النتيجة أن الخواص إذا كانوا يتمسكون بالحرية التعاقدية فإن المتطلبات الاجتماعية تدعوا إلى تدخل الدولة لتشذيب ما علق بالمجال التعاقدي من تعسف وشطط[45]. وعليه فالعلاقة أضحت تنشأ مباشرة من القانون أو بصفة غير مباشرة من القضاء، فالنظام العام التعاقدي أصبح لا يطبق إلا قياسا، فمن التهديد القانوني في تكوين العلاقة التعاقدية إلى استثناء العلاقة التعاقدية من مصدر قانوني، وبذلك أصبح النظام العام الحمائي أو التوجيهي هو المرتكز التشريعي في جميع أنواع عقود الاستهلاك.
واستناد إلى كل ما تقدم، فحرية التعاقد ـ والتي كانت دعامة لا يتصور المساس بها ـ تأثرت بمقتضيات النظام العام الاقتصادي والاجتماعي، فلم يعد اليوم ما كان سائدا من نتائج المفهوم التقليدي للعقد، فقد ازدهر هذا النظام بعدما ازداد تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي ولم يعد ما كان يقوم عليه الاقتصاد الليبرالي من قبل[46].


خاتمة : 
لقد حاولنا قدر المستطاع من خلال هذا البحث المتواضع أن نظهر مفهوم وتطور وأثر مبدأ سلطان الإرادة والمكانة التي حظي بها في تكوين العقود على مستوى التشريع المغربي، كما حاولنا أن نظهر أهم التأثيرات التي قيدت هذا المبدأ ونحت نحو ما يسمى بالتوجهات الحديثة للعقود. غير أنه مهما تم التضييق على مبدأ سلطان الإرادة فإنه يظل مؤسسة لا غنى عنها في تكوين العقود، خاصة في بعض المجالات كما هو الحال في المجال التجاري والذي يمتاز بالسرعة والبساطة. لكن في ظل هذه التوجهات الحديثة للعقود يجب أن تكون الإرادة مصدرا للالتزام على ألا تكون مطلقة فلابد أن تكون هناك قواعد مقيدة لها، فلا يمكن اليوم إنكار دور الإرادة في العقد وبالمقابل لا ينبغي المغالاة فيها.
وإذا كان من المطلوب حقا أن تظل الإرادة في المسائل التعاقدية حرة، وجب على من يستخدمون هذه الحرية أن لا يستعملوها من أجل استغلال الآخرين، الذين لا يتواجدون في نفس المستوى الاقتصادي والاجتماعي فيدفعون ثمن هذه الحرية مع أنهم لا يستفيدون منها.
فهل حقيقة كانت الإرادة هي السيدة وصاحبة السلطان في الإبرام؟ وهل كانت لها السلطات الواسعة في تحديد المضمون وتنفيذه؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد اصطلاح يتمسك به تحت أي ظرف أو خلفية ثقافية اقتصادية أو سياسية؟
_____________________
الهوامش :
[1] ينظر محمد الربيعي، محاضرات في نظرية العقد، ألقيت على طلبة السداسي الثاني/شعبة القانون، جامعة القاضي عياض، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمراكش، السنة الجامعية 2014/2013، ص8.
[2] ينظر المختار بن أحمد عطار، النظرية العامة للالتزامات في ضوء القانون المغربي، الطبعة الثانية، مطبعة النجاح الجديدة ،2018، ص 49.
[3] ينظر ـ عبد الرزاق أحمد السنهوري ،نظرية العقد،الجزء الأول، الطبعة الثانية ، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت ،1998، ص .93 
ـ المختار بن أحمد عطار، م.س، ص50.
[4] يراجع الهامش الرابع من كتاب عبد الرزاق السنهوري ، م.س، ص 96.
[5] ظهير 9 رمضان 1331 الموافق ل12 غشت 1913 بمثابة قانون الالتزامات والعقود، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 46 بتاريخ 12 شتنبر 1913، ص .78.
[6] يراجع المختار بن أحمد عطار، م.س، ص50 وما بعدها.
[7] ينظر محمد وحيد الدين سوار، الاتجاهات العامة في القانون المدني دراسة موازنة بالفقه الإسلامي والمدونات المدنية العربية، الطبعة الثانية، مكتبة دار الثقافة، الأردن ،2001، ص 116.
[8] ويجب التفريق بين الإرادة في الواقعة القانونية (fait juridique) والإرادة في التصرف القانوني (acte juridique) فالأثر القانوني المتولد في الواقعة القانونية يترتب بغض النظر عما إذا كانت الإرّادة قد اتجهت أو لم تتجه إلى توليده، عكس الأثر القانوني المتولد عن التصرف القانوني والذي لا ينتج أي أثر ما لم تتجه إرادة الأطراف ّإلى إحداث الأثر القانوني.
لأخذ فكرة أكثر بشأن التفرقة بين التصرف القانوني والواقعة القانونية يراجع:
ــ محمد محروك، الوجيز في العقود المسماة البيوعات والأكرية الواردة على العقار في ضوء آخر التعديلات، الطبعة الأولى، مكتبة المعرفة، مراكش ،2017.
[9] لقد نظم المشرع المغربي عيوب الإرادة في الفصول 39 إلى 56 من قانون الالتزامات والعقود.
[10] ينظر لمحمد الربيعي، مرجع سابق، ص9.
[11] يراجع حدي لالة أحمد، "سلطة القاضي في تعديل الالتزام التعاقدي وتطويع العقد"، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في مسؤولية المهنيين
،جامعة أبو بكر بلقايد بتلمسان، السنة الجامعية 2012/2013 ، ص17.
[12] لأخذ فكرة عن مبدأ نسبية العقود يراجع:
ــ عبد الرزاق أحمد السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الأول، نظرية الالتزام بوجه عام مصادر الالتزام، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربي، بيروت/لبنان ،1998.
ــ محمد محروك، مرجع سابق، ص53 وما بعدها .
[13] خالد باهو، مبدأ سلطان الإرادة والاستثناءات الواردة عليه في القانون المغربي، مقال منشور بالموقع الالكتروني www.marocdroit.com، تاريخ الإطلاع 2018/10/11 الساعة 6:42 مساء.
[14] ظهير الشريف رقم 1.11.178 صادر في 25 من ذي الحجة 1432)22 نوفمبر 2011(، صادر في الجريدة الرسمية عدد 5998 بتاريخ 27 ذو الحجة 1432 )24 نوفنمبر2011(، ص5587.
[15] -تراجع المادة 9 – 10 من مدونة الحقوق العينية 39.08.
[16] -عبد الرحمان الشرقاوي، قانون العقود الخاصة، الكتاب الأول، العقود الناقلة للملكية عقد البيع، الطبعة الرابعة، مطبعة ياديب، الرباط ،أكتوبر2017، ص99.
[17] -عبد الرحمان الشرقاوي، مرجع سابق، ص99.
[18] -اشتراط الكتابة أصبح يتزايد في الوقت الراهن يوما بعد يوم في مجموعة من العقود التي يكون فيها المستهلك عديم الخبرة بمعنى تعزيزا للطابع الحمائي الذي جاءت به الشكلية أو الكتابة الرسمية.
[19] عبد الرزاق السنهوري، نظرية العقد، الجزء الأول، مرجع سابق، ص 107.
[20] المادة 5 من مدونة الأسرة الصادرة في 2004: "...تتحقق الخطبة بتعبير طرفيها بأي وسيلة متعارف عليها تفيد التواعد على الزواج ،ويدخل في حكمها قراءة الفاتحة وما جرت به العادة والعرف من تبادل الهدايا ."
[21] تقرير أطروحة دكتوراه في القانون الخاص تحت عنوان "خصوصيات القواعد المدنية في المادة الأسرية من خلال الزواج وانحلاله "للطالب موحى أسيدي عمر تحت إشراف الدكتور أحمد خرطة نوقشت بتاريخ 23/07/2015 بكلية الحقوق وجدة مختبر قانون الأسرة والهجرة .
[22] ظهير شريف رقم 1.04.22 صادر في 12 من ذي الحجة 1424 )3 فبراير 2004( بتنفيذ القانون رقم 70.03بمثابة مدونة الأسرة ،صادر في الجريدة الرسمية عدد 5184 بتاريخ 14 ذو الحجة 1424 )5 فبراير 2004(،ص 418.
[23] عبد الرزاق السنهوري، نظرية العقد، الجزء الأول، مرجع سابق، ص116.
[24] المعزوز البكاي، بعض مظاهر اضطراب النظرية العامة للعقد، مجلة القانون المدني، العدد الثالث ،2016، ص10.
[25] جاء في الفصل 489 من ق.ل.ع: "إذا كان المبيع عقارا أو حقوقا عقارية أو أشياء أخرى يمكن رهنها رهنا رسميا، وجب أن يجري البيع كتابة في محرر ثابت التاريخ ولا يكون له أثر في مواجهة الغير إلا إذا سجل في الشكل المحدد بمقتضى القانون."
[26] ظهير شريف رقم 1.13.111 الصادر في 15 من محرم 1435 الموافق ل19 نوفمبر 2013 بتنفيذ القانون رقم 67.12 المتعلق بتنظيم العلاقات التعاقدية بين المكري والمكتري للمحلات المعدة للسكنى أو للاستعمال المهني، الصادر في الجريدة الرسمية عدد 6208 بتاريخ 24 محرم 1435 ) 28 نوفمبر 2013(، ص 7328.
[27] والتي تنص على أنه : " يبرم عقد الكراء وجوبا بمحرر كتابي ثابت التاريخ."...
وهناك اتجاه فقهي يعتبر الكتابة في هذا المجال هي لازمة للإثبات لا لانعقاد التصرف، وأن الأصل في التصرفات أن تكون رضائية ،للتوسع أكثر في ذلك يراجع:
ـ محمد الكشبور، بيع العقار بين الرضائية والشكلية دراسة في أحكام الفقه الإسلامي وفي القانون الوضعي وفي مواقف القضاء ، سلسلة الدراسات القانونية المعاصرة، الطبعة الأولى،مطبعة النجاح الجديدة،1997، ص61 وما يليها.
[28] ظهير شريف رقم 1.16.99 صادر في 13 من شوال 1437 ) 18 يوليوز 2016( بتنفيذ القانون رقم 49.16 المتعلق بكراء العقارات أو المحلات المخصصة للاستعمال التجاري أو الصناعي أو الحرفي، صادر في الجريدة الرسمية عدد 6490 بتاريخ 7 ذو القعدة 1437 ) 11 أغسطس 2016 (، ص5857.
[29] المعزوز البكاي، مرجع سابق، ص 10.
[30] عاشور عثمان وعبد الفتاح فريدة، "مبدأ سلطان الإرادة بين التأصيل والحداثة"، مذكرة لنيل شهادة الماستر في الحقوق، جامعة عبد الرحمان ميرة ببجاية، كلية الحقوق والعلوم السياسية، تاريخ المناقشة 16-06-2014، ص 50.
[31] مأمون الكزبري، نظرية الالتزامات في ضوء قانون الالتزامات والعقود المغربي، الجزء الأول، مصادر الالتزام ،)دون ذكر الطبعة والمطبعة( ،1974، ص 134.
[32] قرار منشور بكتاب:
ـ الأستاذ عبد الرحمان الشرقاوي، دور القضاء في تحقيق التوازن العقدي، الطبعة الأولى، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع ،2008، ص 21.
[33] مأمون الكزبري، مرجع سابق، ص 134.
[34] يقصد بنظرية الظروف الطارئة صعوبة تنفيذ المدين لما سبق أن التزم به نظرا لظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية المتغيرة الشيء الذي قد يؤدي إلى اختلال التوازن العقدي.
[35] عبد الرحمان الشرقاوي، القانون المدني دراسة حديثة للنظرية العامة للالتزام على ضوء تأثرها بالمفاهيم الجديدة للقانون الاقتصادي ،الكتاب الثاني، أحكام الالتزام، الطبعة الأولى، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط ،2016، ص 236.
[36] أورده الأستاذ عبد الرحمان الشرقاوي، مرجع سابق، ص 237.
[37] ظهير شريف رقم 1.11.03 صادر في 14 من ربيع الأول 1432 )18 فبراير 2011( بتنفيذ القانون رقم 08. 31 القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك، صادر في الجريدة الرسمية عدد 5932 بتاريخ 3 جمادى الأولى 1432 )7 أبريل 2011(، ص 1072.
[38] عبد الكريم غيوان، أثر التحولات الاقتصادية على النظرية العامة للالتزام مبادئ مؤسسة العقد بين الثابت والمتغير في ضوء التشريع المغربي – نموذج - ، مقال منشور في الموقع الالكتروني www.frssiwa.blogspot.com، تاريخ الإطلاع 11/09/2018 على الساعة العاشرة ليلا.
[39] تنص المادة 35 على أنه: "يمكن للمحكمة أن تحدد نسبة الزيادة في مبلغ الوجيبة الكرائية بما لها من سلطة تقديرية ودون التقيد بالنسبتين المذكورتين في المادة 34 أعلاه إذا كان مبلغ الوجيبة الكرائية لا يتجاوز أربعمائة درهم شهريا على أن لا تتعدى نسبة الزيادة المحكوم بها %50".
[40] عبد الكريم غيوان، مرجع سابق.
[41] محمد الهيني ص 19.
[42] حكم عدد 155، صادر عن المحكمة الابتدائية بالبيضاء بتاريخ 19/2/1979، أشار إليه محمد الهيني في كتابه الحماية القانونية والقضائية للمؤمن له في عقد التأمينـ دراسة في عقد التأمين البري حماية مستهلكي خدمات التأمين، مرجع سابق، ص30 وما بعدها.
[43] حليس لخضر، "مكانة الإرادة في ظل تطور العقد"، رسالة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة أبي بكر بلقايد بتلمسان ،كلية الحقوق والعلوم السياسية، السنة الجامعية 2015/2016 ، ص 109.
[44] ينظر على سبيل المثال : الفصول 484 و729 من ق.ل.ع.
[45] محمد الهيني ص32.
[46] حليس لخضر ص111.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -