إجراءات التحقيق في الدعوى المدنية

مقال بعنوان: إجراءات التحقيق في الدعوى المدنية

إجراءات التحقيق في الدعوى المدنية

مقدمة :
يعتبر القضاء من وظائف الدولة الأساسية باعتبارها وحدها مكلفة بإقامة العدل وضمان حقوق المواطنين، والفصل في النزاعات القائمة بينهم، ولأجل ذلك أنشئت المحاكم ووضعت القوانين التي تحدد اختصاصاتها وتبين للمتقاضين الإجراءات والمساطر الواجب سلوكها عند الالتجاء إلى القضاء.
وبذلك يعتبر حق التقاضي من الحقوق الدستورية، حيث جاء في دستور فاتح يوليوز 2011 في الباب السابع المعنون بالسلطة القضائية الفصل 118 ما يلي "حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه ومصالحه التي يحميها القانون".
وتعتبر الدعوى من بين الوسائل القانونية التي أقرها المشرع باعتبارها طريق أصلي للجوء إلى القضاء، حيث يعرض الأشخاص منازعاتهم بشأن الحقوق أو المراكز القانونية لحمايتها .. وتمر هذه الدعوى من عدة مراحل لعل أهمها مرحلة التحقيق، فخلال هذه المرحلة، يقوم الخصوم بطرح ادعاءاتهم ومزاعمهم للمناقشة مع السعي لإثبات صحتها ووجاهتها، كما تقوم المحكمة بجمع كافة العناصر والأدلة التي ستمكنها من الفصل في النزاع. ويتم ذلك بواسطة إجراءات تسمى "إجراءات التحقيق". ولا نعني بإجراءات التحقيق هنا تلك الإجراءات التي يتخذها قاضي التحقيق الجنائي لأن لها قواعدها الخاصة في إطار قانون المسطرة الجنائية، بل هي إجراءات تتعلق بالإثبات المدني، فالمقاربة اللفظية قصد بها تشريعنا أن للقاضي المدني نفس الدور التنقيبي والتدخلي الذي يتمتع به القاضي الجنائي في بحثه عن الأدلة وسير الدعوى وإثبات الوقائع والكشف عن الحقيقة .
والعبرة من إجراءات البحث والتحقيق هي إثبات الحقوق أو الدفاع عن المراكز القانونية، فإقامة الدليل هو الذي يثبت الحقوق. فالإثبات يتعلق بكل الطرق والوسائل التي يستعملها صاحب الحق لإقامة الدليل على وجود حقه، وكذا تلك التي يستعملها الخصم لنفي وجود الحق المدعى فيه، ولإقناع كل طرف القضاء بصحة ما يدعيه . فالحق والعدم سواء، إذا لم يتم إثباته عند قيام المنازعة فيه. وهكذا تواتر الرأي لدى الفقه القانوني بأن "الدليل هو فدية الحق، وأنه يستوي حق لا وجود له وحق لا دليل عليه" وأن "مالا دليل عليه هو والعدم سواء" .
ولعل تشعب ارتباط الإثبات بتعدد مصادره يوضح علاقة الإثبات من جهة أولى بقواعد الموضوع المتمثلة في الوسائل المعتمدة في الإثبات وتقييمها والجهة التي يقع عليها عبء الإثبات، ومن جهة ثانية بقواعد الشكل والمنصبة على المساطر المتبعة في الإثبات .
فقواعد الإثبات إذن تنقسم إلى قسمين: قواعد موضوعية وقواعد إجرائية، فالقواعد الموضوعية تعنى ببيان وسائل الاثبات (الإقرار، الكتابة، شهادة الشهود، القرينة، اليمين) وقوتها في الإثبات، وتحديد محل الإثبات والشخص الذي يقع عليه عبء الإثبات.
أما القواعد الإجرائية فتبين الأوضاع والأشكال والإجراءات التي تتبع في إقامة وتقييم وهدم الأدلة أمام القضاء، كالأبحاث واليمين وتحقيق الخطوط والزور الفرعي.
ولقد ارتأى المشرع أن ينظم قواعد الإثبات الموضوعية في قانون الالتزامات والعقود ، بينما نظم قواعد الإثبات الإجرائية في قانون المسطرة المدنية تحت عنوان إجراءات التحقيق .
اعتبارا لكون إجراءات البحث والتحقيق هي موضوع هذا المقال، فتجدر الإشارة إلى أن المشرع استعمل مصطلح إجراءات التحقيق mesures d’instructions . كعنوان لإجراءات نص عليها في الفصول من 55 إلى 102 من ق.م.م. كما استعمل نفس المصطلح مع إضافة كلمة "المسطرية" للدلالة على إجراءات التحقيق المنصوص عليها في الفصول من 328 إلى 336 من ق.م.م، وهي إجراءات يتبعها القاضي المقرر عند تسيير مسطرة التحقيق، من الأمر بتبليغ المقال وتعيين أول جلسة علنية والأمر بتبليغ المذكرات الدفاعية والمستنتجات وإطلاع الخصوم على المستندات والأوراق المدلى بها في ملف القضية والأمر بالتخلي ثم إدراج القضية في الجلسة العلنية.
والحقيقة أننا لم نعثر على ما اطّلعنا عليه من كتب الفقه أو من التشريع المقارن على إجراءات التحقيق "المسطرية"، ويرى أحد الباحثين أن السبب في اختيار هذا المصطلح يعود إلى المصدرين التاريخيين لقانون المسطرة المدنية وهما قانون المنازعات الإدارية وقانون المسطرة المدنية الفرنسيين .
إن تنظيم مسطرة التحقيق لم يأتي من فراغ، بل جاء نتيجة مناخ تاريخي وسياسي ثم اجتماعي. فأول تنظيم تشريعي لمسطرة التحقيق كان من خلال ظهير 12 غشت 1913. والظاهر أنها كانت متأثرة بشكل واضح بمسطرة التحقيق في القضايا الإدارية في القانون الفرنسي خاصة قانون 23 يوليوز 1889 المتعلق بالمسطرة المتبعة أمام مجالس الأقاليم les conseils de préfecture ومرسوم 5 غشت 1881 المتعلق بالمسطرة المتبعة أمام مجالس المنازعات الإدارية بالمستعمرات les conseils du contentieux administratif des colonies ، وقد عرفت مسطرة التحقيق عدة تعديلات أهمها:
- تعديل بمقتضى ظهير 27 أبريل 1920، والذي أحدث بمقتضاه الأمر بالتخلي، كما تم إلزام المقرر بوضع تقرير كتابي بعد إنهاء التحقيق.
- تعديل بمقتضى ظهير 29 مارس 1954 تم إعفاء المقرر من كثير من الإجراءات ذات الطابع الإداري حتى يتفرغ لعمله القضائي، كما رخص له الاكتفاء بوضع تقرير شفوي عند إنهائه التحقيق، كما أعطيت له لأول مرة صلاحية الأمر بإجراءات التحقيق العادية كالخبرة ومعاينة الأماكن والأبحاث، وأيضا البت في تجريح الخبراء، وتغريم الشهود.
وقد ألغى هذا الظهير أحد إجراءات التحقيق العادية، وهو الاستجواب حول الوقائع والفصول خاصة أن العمل القضائي أظهر أن هذا الإجراء لا تلجأ إليه المحاكم إلا نادرا، ونشير بالمناسبة أن قانون المسطرة المدنية الفرنسي كان سباقا في إلغاء هذا الإجراء بمقتضى قانون 23 ماي 1942.
- قانون المسطرة المدنية الحالي ل 28 شتنبر 1974، وتجدر الإشارة إلى أن هذا القانون هو جديد فقط بالنسبة لإعادة هيكلة المسطرة القضائية على أساس التنظيم القضائي المستحدث بمقتضى ظهير 15 يوليوز 1974 والمعدل لاحقا بمقتضى ظهير 10 سبتمبر 1993، فهو قانون في حقيقته امتداد لقانون المسطرة المدنية القديم وفق صيغته المعدلة بمقتضى ظهير 25 مارس 1954.
وقد كان على المشرع بعد أن استقر الوضع بعيد الاستقلال أن يقف وقفة متأنية يراجع فيها توجهه، فإن هو أصر على الإبقاء على قانون المسطرة المدنية وفق النمط الفرنسي، كان عليه أن يأخذ في الاعتبار التعديلات والتجديد الذي عرفه قانون المسطرة المدنية الفرنسي قبل سنة 1974، ونخص بالذكر مراسيم 9 سبتمبر 1971 و 20 يوليو 1972 و 28 غشت 1972 و 17 دجنبر 1973، هذه المراسيم قلبت رأسا على عقب مسطرة التحقيق وجعلتها في حلة عصرية ومتطورة، وإلا فقد كان عليه أن يقرر الرجوع إلى الفقه الإسلامي الأصيل إثباتا لهويته الإسلامية والعربية، وان يستمد منه بعض القواعد خاصة تلك المتعلقة بالبينة واليمين ودور القاضي في الكشف عن الحقيقة.
وفي ذلك يرى أحد الباحثين إن على المشرع أن يبقي على المسطرة الشرعية التي كانت متبعة أمام محاكم قضاة شرعيين مع تطويرها حيث تناسب العصر .
يعتبر موضوع الحكامة القضائية في إجراءات البحث والتحقيق في الدعوى المدنية من المواضيع التي تكتسي أهمية كبرى، لأنها تبرز كيفية تنظيم المشرع لإجراءات غايتها إثبات الحقوق والحفاظ على المراكز القانونية، حماية لمصالح المتقاضين، وفق مسطرة ناجعة وفعالة من شأنها تحقيق حكامة قضائية.
إلى أي حد ساهم المشرع من خلال المقتضيات الناظمة لإجراءات البحث والتحقيق، في تكريس حكامة قضائية تستجيب لمتطلبات الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة؟
لئن كانت إجراءات البحث والتحقيق في الدعوى المدنية تعرف تنظيما تشريعيا، إلا أنها تظل معيبة بالبطء والتعقيد نظرا لتشتت القواعد الناظمة لها، ولعل تجاوز تلك المعيقات رهين بتوحيد قواعد الإثبات في سبيل تحقيق حكامة قضائية.
من خلال ما سبق، وللإحاطة بمجمل الإشكالات التي يطرحها هذا الموضوع، سوف نقوم بتقسيمه وفق الشكل التالي:

المبحث الأول: أهم إشكالات إجراءات البحث والتحقيق في الدعوى المدنية
المبحث الثاني: الارتقاء بفعالية ونجاعة إجراءات البحث والتحقيق في سبيل تحقيق حكامة قضائية 


المبحث الأول: أهم إشكالات إجراءات البحث والتحقيق في الدعوى المدنية

يتمتع القاضي في مرحلة الأمر بإجراءات التحقيق بسلطات حقيقية تمكنه من إبراز دوره التنقيبي في تسيير مسطرة التحقيق، مما قد ينعكس سلبا على هذه الإجراءات .
وتعتبر سلطة القاضي في توظيفه لهذه الإجراءات كبيرة تظهر في إشرافه على سير مسطرة الدعوى، إذ أنه لا يكتفي بما يقدّمه أطراف الدعوى من حجج ومستندات بل يسعى جاهدا لتقصّي الحقيقة باتخاذ جميع التدابير الكفيلة باستكمال نقصان أدلة الخصوم، وبقيامه باتخاذ إجراءات تحقيق الدعوى بمبادرة منه أو بناء على طلب من له الصفة والمصلحة بهدف الوصول إلى الحقيقة موضوع الادّعاء .
إلا أن الوصول للحقيقة المذكورة لازال بعيد المنال في ظل إجراءات تتسم بالبطء والتعقيد. لذلك سنحاول تحليل هذا المبحث من خلال مطلبين. نتناول في الأول بعض مكامن القصور التشريعي في إجراءات البحث والتحقيق، على أن نعرج في الثاني إلى تبيان محدودية سلطة القاضي في إجراءات البحث والتحقيق.

المطلب الأول: مكامن القصور التشريعي في إجراءات البحث والتحقيق

إن مرحلة تنفيذ إجراءات التحقيق هي مرحلة لاحقة لمرحلة الأمر بإجراء تحقيق، ففي هذه المرحلة يأخذ إجراء التحقيق حركيته وتجسيده على أرض الواقع. والملاحظ أن المشرع المغربي لم يعطي لهذه المرحلة الأهمية اللازمة لها، بحيث لم يقم بتنظيمها بصفة متكاملة، لذلك سنحاول الوقوف على مكامن الفراغ التشريعي عن طريق تناول المواضيع التالية، من خلال فقرتين: على مستوى تنفيذ إجراءات التحقيق (فقرة أولى)، ثم على مستوى بطلان إجراءات البحث والتحقيق (فقرة ثانية).

الفقرة الأولى: على مستوى تنفيذ إجراءات التحقيق

هذه المرحلة تتخللها مجموعة من الإجراءات لعل أهمها القاضي المختص، مكان وزمان التنفيذ، وصولا إلى انتهاء عمليات تنفيذ إجراءات التحقيق. وكل هذه المراحل تثير مجموعة من الإشكاليات، خاصة مع وجود فراغ تشريعي.
أولا: القاضي المختص بتنفيذ أو مراقبة تنفيذ إجراءات التحقيق
في هذه المرحلة المنطق يقتضي أن يكون القاضي الآمر بإجراء التحقيق هو نفسه المختص بتنفيذ أو مراقبة تنفيذ الإجراء، على أن القانون لم يسر دائما في هذا المنحى، ونرى أنه يتعين تحديد القاضي أو الهيئة المختصة بتنفيذ أو مراقبة تنفيذ إجراءات التحقيق في ق.م.م، والتمييز بين القضاء الفردي والقضاء الجماعي.
القضاء الفردي: إن القاضي الفرد يكون هو المختص بتنفيذ أو مراقبة تنفيذ إجراء التحقيق الذي أمر به، إلا أنه استثناء يجوز له أن ينتدب قاضيا آخر من محكمة أخرى من نفس الدرجة أو من درجة أقل ليقوم بدله بتنفيذ إجراء التحقيق الذي أمر به .
القضاء الجماعي: فإن القاضي أو المستشار المقرر هو من يقع على عاتقه تنفيذ أو مراقبة تنفيذ الإجراء الذي أمر به دون هيئة الحكم، لأنه يبقى واضعا يده على القضية إلى حين انتهاء التحقيق بإصدار أمر بالتخلي.
ثانيا: مكان وزمان إجراءات التنفيذ
الملاحظ أن المشرع المغربي قد ذهب أحيانا إلى تفضيل السرية على العلنية في تنفيذ إجراءات التحقيق، في الفقرة الرابعة من الفصل 336 من ق.م.م. " تجرى الأبحاث أمام المستشار المقرر مالم ترغب المحكمة في الاستماع إلى الشهود بنفسها وفي هذه الحالة يجرى الاستماع بغرفة المشورة ".
ونعتقد أن تنفيذ إجراءات التحقيق في جلسة سرية كغرفة المشورة يوفر الجو المناسب لضبط وإتقان إجراء التحقيق كما يتم في متسع من الوقت خلافا لما هو عليه الأمر في الجلسة العلنية.
أما بالنسبة لزمن تنفيذ إجراءات التحقيق، إن المشرع لم يهتم بتحديده، ونرى أن تنفيذ إجراء التحقيق يجب أن يتم داخل أيام وساعات العمل الرسمية إلا إذا اقتضت الضرورة أو المصلحة خلاف ذلك ، وأيضا تحديد سقف زمني حتى لا نتجاوز طول عمر النزاع.
ثالثا: دور كتابة الضبط خلال مرحلة تنفيذ إجراءات التحقيق
يقوم كاتب الضبط بتدوين مجريات إجراءات التحقيق المنجز من طرف القاض، كما يعمل على تنفيذ جميع الإجراءات التي يمكن أن تتخذ خلال هذه المرحلة من الدعوى كتوجيه الإنذارات وتبليغ الأوامر والإجراءات.
إن دور كاتب الضبط كمساعد للقاضي في تسيير إجراءات التحقيق تقلص في هذا المجال، فالفصل 334 من ق.م.م أعطى للقاضي المقرر أو المستشار المقرر صلاحية تسيير المسطرة بنفسه وألا يكتفي بمراقبة تسييرها من طرف كتابة الضبط مقارنة مع نص الفصل 156 من ق.م.م القديم . وهذا في نظرنا يشكل عبء على القاضي نظرا لكثرة المهام المنوطة به.
رابعا: حضور الخصوم ووكلائهم لعملية تنفيذ إجراءات التحقيق
الخصوم من حيث المبدأ غير ملزمون بالحضور الشخصي لإجراءات التحقيق، غير أنه في حالات معينة. ونظرا لطبيعة إجراءات التحقيق يتعين على الخصوم الحضور بصفة شخصية، كما هو الحال مثلا في الخبرة الطبية أو تحقيق الخطوط أو الحضور الشخصي، وهذا ما يجعل من الأمر أقرب إلى الاستحالة في بعض الحالات خصوصا في ارتباط مبدأ الحضورية مع ما يطرحه التبليغ من مشاكل واقعية. ففي بعض الحالات يصعب إعلام الأطراف لحضور إجراءات التحقيق نظرا لغياب محل إقامتهم أو موطنهم مما يؤدي إلى تطويل أمد الدعوى.
خامسا: حضور النيابة العامة لعمليات تنفيذ إجراءات التحقيق
لقد أجاز المشرع للنيابة العامة الحضور لعمليات تنفيذ إجراءات التحقيق ، والملاحظ أن الأمر يبقى اختياريا بدليل صيغة الإمكان الواردة في الفصل 55، والواقع أن النيابة العامة لا تحضر إجراءات التحقيق.
ونعتقد أن حضور النيابة العامة لإجراءات التحقيق فيه فائدة للعدالة، على اعتبار أنه يجعل الخصوم والشهود يشعرون أنه من الممكن أن تطالهم المتابعة الجنائية إذا ما قصروا أو خالفوا القانون، كالإدلاء بشهادة الزور أو الاستدلال بوثيقة مزورة.
سادسا: صعوبات تنفيذ إجراءات التحقيق
يلاحظ أن المشرع أغفل تحديد المسطرة المتبعة في شأن البت في صعوبات تنفيذ إجراءات التحقيق مثل تعديل مهمة الخبير، تجريحه، استبداله، تعديل أجرته، تغريم الشهود، ثم تجريحهم.
سابعا: انتهاء عمليات تنفيذ إجراءات التحقيق
إن عمليات تنفيذ إجراءات التحقيق تنتهي بوضع محضر أو تقرير بشأنها.
والملاحظ أن المشرع الفرنسي قد أجاز للمحكمة أن تجري تسجيلا صوتيا أو مرئيا لعمليات تنفيذ إجراءات التحقيق .
حبذا لو أخذ المشرع بهذا الاتجاه لما فيه من نكهة تبرز روح العصر.

الفقرة الثانية: على مستوى بطلان إجراءات البحث والتحقيق

البطلان من مشكلات القانون، فكل نظام إجرائي يقف دائما حياله غير قادر على الوصول فيه إلى قاعدة تتفق مع مقتضيات العدالة وتسلم من النقد ، فهل من العدالة أن يبطل الإجراء كلما مسته مخالفة لقاعدة من القواعد المسطرية؟ فيصادر الحق الموضوعي – في كثير من الحالات – نتيجة بطلان الإجراءات التي هي مقررة في الأصل لتوجيه صاحبه إلى السبيل التي تؤدي به إلى الانتفاع بحقه؟
ثم إذا قبل الاستغناء عن البطلان، أفلا يستتبع ذلك بطلان نواهي القانون وأوامره الأساسية، فيستحيل على النظام الإجرائي أن يسير ويعمل وينتج أثاره على وجه المطلوب؟
إن مرحلة التصريح ببطلان إجراءات التحقيق مرحلة احتمالية قد تقرر فيها المحكمة الجزاء القانوني لمخالفة القواعد المنظمة لإجراءات التحقيق، سواء في الأوامر أو في إجراءات التحقيق.
بالرجوع إلى قانون المسطرة المدنية نلاحظ أنه لم يقع التنصيص على قواعد خاصة ببطلان إجراءات التحقيق، ويتبين من هذا أن المشرع رغب في إخضاعها للقواعد العامة لبطلان الإجراءات المدنية.
كما يظهر أن المشرع المسطري كان يأخذ فيما يخص بطلان الإجراءات المدنية بالنظرية التهديدية .
ولقد تراجع المشرع عن هذه النظرية في قانون المسطرة المدنية الحالي أخذا بمبدأي:
أولا: مبدأ لا بطلان بغير نص
ومقتضى هذا المبدأ أنه لا يجوز التصريح بالبطلان إلا إذا نص القانون على هذا البطلان، وأساس هذا المبدأ أن هناك آثارا خطيرة تترتب على البطلان، فيجب أن ينفرد المشرع بتحديد حالاتها.
ولقد أخذ مشرعنا بهذا الاتجاه عند تحديده لأسباب النقض في الفصل 13 من ظهير 27/09/1957 المتعلق بإحداث المجلس الأعلى، بحيث جعل من أسباب النقض خرق القواعد الجوهرية للمرافعات. وقد كان المجلس الأعلى – محكمة النقض حاليا – يعتبر من القواعد الإجرائية الجوهرية المتعلقة بحقوق الدفاع والتي يعتبر خرقها من أسباب النقض، عرض الحجج على الخصم الآخر وإجراء الخبرة بحضور الأطراف .
ثانيا: مبدأ لا بطلان بغير ضرر
معناه أن البطلان لا يحكم به ولو نص القانون عليه إلا إذا تحقق ضرر من المخالفة. وأساس هذا المبدأ أن الغاية من القانون حماية مصلحة معينة، وإذا لم يلحق ضرر بهذه المصلحة فإن الحكم بالبطلان يعتبر مخالفا للعدالة ومنافيا لإرادة المشرع .
ولقد نص المشرع صراحة على هذا المبدأ في الفصل 49 من ق.م.م بقوله " يجب أن يثار في آن واحد وقبل كل دفع في الجوهر الدفع بإحالة الدعوى على محكمة أخرى لتقديمها أمام محكمتين مختلفتين أو لارتباط الدعويين والدفع بعدم القبول وإلا كان الدفعان غير مقبولين.
يسري نفس الحكم بالنسبة لحالة بطلان الاخلالات الشكلية والمسطرية التي لا يقبلها القاضي إلا إذا كانت مصالح الطرف قد تضررت فعلا".
ولقد سار المشرع في هذا الاتجاه أيضا عند تحديده لأسباب النقض في قانون المسطرة المدنية في الفصل 359 منه، متراجعا في هذا عما كان يأخذ به ظهير 27/09/1957 المحدث للمجلس الأعلى، بحيث جعل من أسباب النقض خرق قاعدة مسطرية أضر بأحد الأطراف، بحيث لم تعد ضرورة لإجراء تمييز بين القاعدة المسطرية الجوهرية وغير الجوهرية.

المطلب الثاني: محدودية سلطة القاضي في إجراءات البحث والتحقيق

مما لا شك فيه أن القاضي هو محرك إجراءات البحث والتحقيق من خلال السلطات المخولة له، فالقاضي لا يجبر على الأمر بإجراء تحقيق، بل يمكن له أن يأمر بها بصفة تلقائية ولو لم يطلب منه الخصوم ذلك، كما يحق له أن يقوم بتعديل أو استبدال أو الاستغناء عن إجراءات التحقيق التي سبق له أن أمر بها، كما أن الأمر بإجراء تحقيق لا ينزع عنه الاختصاص، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القاضي في هذا الإطار يخضع لرقابة محكمة النقض التي هي في اتساع مستمر واكتساح متواصل ، مما يؤثر على سلطة القاضي في إجراءات البحث والتحقيق ويجعلها بعيدة عن تحقيق حكامة قضائية.
وعليه سوف نعالج هذا المطلب من خلال فقرتين: فقرة أولى " التأثير السلبي للقاضي في إجراءات البحث والتحقيق". أما في الفقرة الثانية فنسلط الضوء على " اتساع رقابة محكمة النقض على سلطة القاضي".

الفقرة الأولى: التأثير السلبي للقاضي في إجراءات البحث والتحقيق

للإحاطة بالدور السلبي للقاضي في إدارة إجراءات التحقيق، سوف نحاول ملامسة مجمل السلطات المخولة له وذلك من خلال العناصر التالية:
- لا يجبر القاضي على الأمر بإجراءات التحقيق.
- للقاضي أن يأمر بإجراءات التحقيق بصفة تلقائية.
- للقاضي أن يعدل أو يستبدل أو يستغني عن إجراءات التحقيق.
- الأمر بإجراءات التحقيق لا ينزع عن القاضي الاختصاص.
أولا: لا يجبر القاضي على الأمر بإجراءات التحقيق
من خلال الفصل 55 من ق.م.م ، يتضح أن الأمر بإجراء خبرة ليس حقا للخصوم يجبر عليه القاضي، فللقاضي الصلاحية الكاملة لقبول أو رفض طلب الخصوم بالأمر بأحد إجراءات التحقيق، فمن الممكن جدا أن يمتنع القاضي عن الأمر بإجراءات تحقيق طلبها منه الخصوم إذا ما قدر أنه يتوفر على جميع العناصر الواقعية للبت في الطلب. وإن عدم إجبار القاضي على إصدار أمر بإجراء تحقيق يمتد أيضا ليستغرق سلطته كذلك في إجراء التحقيق المناسب في الدعوى ، ذلك أنه لا يجبر قاض على اختيار إجراءات تحقيق معينة كالخبرة مثلا لأنه من الجائز أن يفضل عليها المعاينة أو البحث أو غيرهما .
والملاحظ أن اتساع سلطة القاضي في قبول أو رفض طلب بإجراء التحقيق قد يؤثر سلبا على مصالح الأطراف، علما بأن هناك مثلا بعض النزاعات التي تحتاج إلى خبرات تقنية وفنية، ولا يمكن الفصل في جوهر النزاع بدونها.
ثانيا: للقاضي أن يأمر بإجراء التحقيق بصفة تلقائية
إن من شأن تدخل القاضي تلقائيا بالأمر بإجراء من إجراءات التحقيق، أن يقوم بتخفيف عبء الإثبات على أحد الخصوم مما قد يبدوا أن الأمر يشكل انحيازا لأحد الأطراف على حساب الآخر، تماشيا مع بعض القوانين المقارنة التي يشترط فيها القانون تقديم الطلب من أحد الخصوم لكي يأمر بها القاضي، بحيث لا يجوز للقاضي أن يأمر بها تلقائيا. ونخص بالذكر هنا التقديم الجبري للمستندات la production forcé des pièces. فقد اشترط قانون المسطرة المدنية الفرنسي وقانون الإثبات المصري ضرورة تقديم طلب من الخصم لكي يلزم الطرف الآخر أو الغير بتقديم دليل موجود بحوزته .
أما التشريع المغربي، فنعتقد أن كافة إجراءات التحقيق العادية يمكن الأمر بها بصفة تلقائية باستثناء اليمين الحاسمة التي يتطلب فيها تقديم طلب من الخصم، لأن اليمين الحاسمة ملك للخصوم لا للقاضي .
ثالثا: للقاضي أن يعدل أو يستبدل أو يستغني عن إجراءات التحقيق
من خلال استقراء الفصول المنظمة لإجراءات البحث والتحقيق يتضح أن القاضي يتوفر على سلطة واسعة في استبدال أو تعديل أو الاستغناء عن إجراءات التحقيق، فللقاضي الحرية المطلقة إزاءها.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يحق للقاضي أن يتراجع عما أمر به من إجراءات التحقيق إذا تضمن هذا الإجراء قضاء قطعيا في مسألة تتعلق بجواز الإثبات أو عدم جوازه بوسيلة إثبات معينة، كقبول الإثبات بشهادة الشهود. عكس ما ذهب إليه المشرع المصري، حيث أجاز للمحكمة أن تعدل عما أمرت به من إجراءات الإثبات، لكنه اشترط عليها أن تبين أسباب العدول في محضر الجلسة، (المادة 9 من قانون الإثبات المصري). وهذا في نظرنا قد يؤدي إلى تطويل أمد الدعوى.
رابعا: الأمر بإجراء تحقيق لا ينزع عن القاضي الاختصاص
وبديهي القول، أن القاضي لا يرفع يده عن القضية بعد إصداره الأمر بإجراء تحقيق، بل تبقى مبسوطة على النزاع من خلال إشرافه على تنفيذ البحث وتتبع ومراقبة مساره واتخاد ما يراه مناسبا في الوقت المطلوب متى استجد جديد من صلح بين أطراف الخصومة أو تنازل أو تدخل الغير في الدعوى، ذلك أن الإجراء المأمور به أصبح متجاوزا .
إلا أن المشرع المغربي لم ينص صراحة على هذه الخاصية على خلاف قانون المسطرة المدنية الفرنسي الجديد في الفصل 153 منه الذي جاء فيه الأمر بإجراء التحقيق لا ينزع الاختصاص عن القاضي).
ومن وجهة نظرنا نعتقد أن المشرع يجب أن يحدوا حدو المشرع الفرنسي، وينص صراحة على هذه الخاصية من أجل تعزيز حقوق المتقاضين.

الفقرة الثانية: اتساع رقابة محكمة النقض على سلطة القاضي

من الملاحظ، من خلال تتبع واستقراء مسار الاجتهاد القضائي في المغرب من زاوية الرقابة التي تفرضها محكمة النقض على سلطة القاضي في مجال الإثبات، على هامش تدخل القاضي المدني في إعمال سلطته يبقى محدودا وأن نطاق هذه الرقابة في اتساع مستمر واكتساح متواصل .
ويمكن القول إنه من خلال الوقوف على موضوع رقابة محكمة النقض على سلطة القاضي المدني في مجال الإثبات أن هناك التباسا يحيط بمحكمة النقض في موضوع القوة الإلزامية لمصادر الإثبات.
وقواعد الإثبات المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية منها ما هو موضوعي ومنها ما هو إجرائي شكلي منصوص عليها في الفصول من 55 الى 102، إضافة الى الفصل 336.
وهكذا تعتبر إجراءات التحقيق من المجالات التي اتجه فيها العمل القضائي إلى إعمال قواعد الإثبات المنصوص عليه في ق.م.م، وهذا ما سنعمل على توضيحه من خلال التطرق إلى بعض الأمثلة من إجراءات التحقيق من قبيل الخبرة والمعاينة.
أولا: على مستوى الخبرة
من خلال الوقوف على بعض التشريعات المقارنة نجدها اعتبرت الخبرة وسيلة من وسائل الإثبات، إلا أن البعض منها كالقانون الإيطالي الذي اعتبر الخبرة إجراء مساعدا للقضاء تأمر به المحكمة لتنوير رأيها في مسألة فنية.
وهو نفس التوجه الذي سار عليه مشرعنا، إلا أن هناك جانب من الفقه اعتبرها وسيلة من وسائل الإثبات المنظمة في قانون المسطرة المدنية ضمن إجراءات البحث والتحقيق، والتي يمكن للقاضي أن يأمر بها بناء على طلب أحد الأطراف أو منهما معا أو تلقائيا قبل البت في النزاع .
ومن القوانين التي اعتبرت الخبرة وسيلة من وسائل الإثبات نجد على سبيل المثال القانون الفرنسي في المواد من 263 إلى 283 لقانون المرافعات لسنة 1975. وقد انتقد القضاء الفرنسي ما سار عليه التشريع الفرنسي، حيث اعتبر أن وسيلة الإثبات هي ما يقدمه الخصم وعلى مسؤوليته الخاصة، وأنها ليست بوسيلة إثبات. ويترتب على ذلك أنه لا يجوز الأمر بخبرة لإثبات الوقائع لأن عمل الخبير لا يقتصر على المعاينات ولكن نشاطه يرتكز أساسا على عملية التقدير الفني اللازم لأداء مهمته، وهي مهمة فكرية عقلية لا مادية، فعملية التقدير الفني التي يقوم بها الخبير للوقائع لا يمكن تحديدها أو تفسيرها إلا عن طريق فني، ونشاط الخبير لا يتضمن إلا مساعدة فنية للقاضي في تقدير أدلة الإثبات المقدرة تقديرا فنيا والتي يكون قد تلقها مسبقا ومنظورة أمامه. مما يجعل عملية التقدير الفني هي المهمة الأصلية التي تطبع الخبرة وتميزها عن وسائل الإثبات.
ثانيا: على مستوى المعاينة
من خلال الفصول 55 إلى 70 من قانون المسطرة المدنية، يمكن تعريف المعاينة أو الوقوف على عين المكان بأنها مشاهدة المحكمة لشيء مادي الذي هو محل النزاع، وذلك بغية التحقق من حالاته وأوصافه وكل ما يحيط به من أجل الوصول إلى حل النزاع.
وقد تبنى المشرع المغربي في قانون المسطرة المدنية المعاينة كإجراء من إجراءات التحقيق، وقد اعتبرها المجلس الأعلى –محكمة النقض حاليا- بأنها وسيلة من وسائل الإثبات رغم أنها لا تدخل ضمن وسائل الإثبات المنصوص عليها في الفصل 404 من ق.ل.ع .
وما يعضد قولنا في استعمال المعاينة كوسيلة من وسائل الإثبات، نورد بعض النماذج من الاجتهادات القضائية الصادرة عن محكمة النقض:
• مثال المعاينة يعمل بها كوسيلة من وسائل الإثبات رغم عدم التنصيص عليها ضمن وسائل الإثبات المحددة في الفصل 404 ق.ل.ع، وكإجراء من إجراءات التحقيق المنصوص عليها في الفصل 67 من ق.م.م، حيث جاء ضمن حيثيات القرار أن المعاينة تعتبر من الأدلة في المسائل المادية بالرغم من عدم التنصيص عليها في الفصل 404 كوسيلة من وسائل الإثبات، ويعمل بها في المسائل التي يحتاج الإثبات فيها إلى الدليل المادي لإثبات الحال .
• كما أن محكمة النقض، سارت إلى إثبات الدليل المادي عن طريق المعاينة لواقعة الترامي، إذ صدر في أحد قراراتها:" مادام أن موضوع الدعوى والترامي للمرة الثانية بعد التنفيذ، ومادام أن الترامي واقعة مادية يمكن إثباتها بجميع وسائل الإثبات منها المعاينة، فقد كان حريا بالمحكمة لكي تتوفر على العناصر اللازمة للبت في هذا النزاع أن تأمر بإجراء معاينة"، وفي قرار آخر:" يجب الوقوف على عين المكان عند اختلاف طرفين حول محل النزاع المتعلق بقطعتين مختلفتي الأسماء".
• كما أن محكمة النقض اعتمدت معاينة العدول بالبينة ولواقعة الحيازة في عقد الصدقة .
من خلال ما سبق يتضح أن هناك التباسا ملحوظا حول تطبيق الإثبات المنصوص عليه في قانون المسطرة المدنية، وذلك باعتباره تارة من إجراءات التحقيق في الدعوى وتارة أخرى من وسائل الإثبات، وهذا هو قضاء محكمة النقض من جهة. ومن جهة أخرى فإذا كان للمحكمة الأمر بإجراء بحث وذلك بهدف تنويرها واستكمالا لتكوين قناعتها، وبصفة عامة كلما رأت فائدة في الأمر بهذا الإجراء سواء بكيفية تلقائية أو بناء على طلب الأطراف أو أحدهم، فإنه لا يمكنها عدم الاستجابة لهذا الطلب دون تعليل هذا الرفض وإلا عدّ ذلك مسا بحقوق الدفاع. كما يصبح ما قضت به وفق ما لها من سلطة تقديرية معرضا للنقض نظرا لنقصان أو فساد التعليل ليصير لزاما على محكمة الموضوع عندما تريد أن تمارس ما لها من سلطة، إما باستبعاد أو قبول طلب إجراء من إجراءات التحقيق، أن تلتزم بتعليله وإلا عرضت حكمها للنقض، وهذا من شأنه دفن السلطة التي يتمتع بها قاضي الموضوع في هذا الصّدد.
حيث جاء في قرار لمحكمة النقض تحت رقم 483 بتاريخ 5 أكتوبر 1987، في ملف اجتماعي عدد 87/8087 أنه: ".... وحيث تعيب الطاعنة على القرار المطعون فيه خرق مقتضيات الفصلين 399 و 754 من قانون الالتزامات و العقود و المساس بحقوق الدفاع و انعدام التعليل، و عدم الارتكاز على أساس قانوني، ذلك أن محكمة الاستئناف في قضائها المطعون فيه رفضت الاستجابة لطلب الطاعنة الرامي إلى إجراء بحث لإثبات حقيقة تخلي الأجير عن عمله، بدعوى أنها منحت الفرصة في المرحلة الابتدائية لإثبات ما تدعيه، غير أنها لم تحظر لجلسة البحث، في حين أن الطاعنة لم يقع استدعائها على الشكل القانوني بهذه الجلسة أمام المحكمة الابتدائية، ولا يمكن بالتالي مؤاخذتها على عدم حضورها لتلك الجلسة، وأن رفض طلبها الرامي إلى اجراء بحث جديد أمام المحكمة الاستئنافية غير معلل و يشكل مساسا بحقوق الدفاع.... " .

المبحث الثاني: الارتقاء بفعالية ونجاعة إجراءات البحث والتحقيق في سبيل تحقيق حكامة قضائية

في إطار تنزيل بنود إصلاح منظومة العدالة، ومن منطلق الوعي بأهمية العدالة الإجرائية والقواعد المسطرية في ضمان النجاعة القضائية، تمت مراجعة قانون المسطرة المدنية، بهدف تحيين نصوصه لتتلاءم ومقتضيات الدستور الجديد وميثاق إصلاح منظومة العدالة، وتطعيمها بمختلف المجهودات المعرفية والاجتهادات القضائية والممارسات الفضلى للمحاكم .
وتهدف مسودة مشروع قانون المسطرة المدنية إلى تبسيط إجراءات التقاضي وسير الدعوى أمام المحاكم في إطار مواجهة الهدر القضائي للأحكام بسبب الاختلالات المسطرية، حيث تم تخويل القاضي دورا ايجابيا في إجراءات التحقيق.
من خلال ما سبق سوف نحاول ملامسة هذا المبحث من خلال مطلبين، نسلط الضوء في مطلب أول على تعزيز الترسانة التشريعية المرتبطة بإجراءات البحث والتحقيق، على أن نعرج في إطار مطلب ثان لنتناول دعم سلطة القاضي المدني في إجراءات البحث والتحقيق.

المطلب الأول: تعزيز الترسانة التشريعية المرتبطة بإجراءات البحث والتحقيق

في إطار تجاوز البطء والتعقيد، الذي يعتري إجراءات البحث والتحقيق في ق.م.م، عمل المشرع على اتخاذ مجموعة من التدابير من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه، وتقويم ما يمكن تقويمه عبر تحديث إجراءات تحقيق الدعوى من خلال مشروع قانون المسطرة المدنية، وإحاطتها بمجموعة من الضمانات للرفع من الأداء القضائي في سبيل تحقيق حكامة قضائية.
وعليه سنحاول معالجة هذا المطلب من خلال فقرتين، سوف نتطرق في فقرة أولى للضمانات القانونية، وفي فقرة ثانية لآلية الرصد والجزاء.

الفقرة الأولى: تكريس الضمانات القانونية في إجراءات البحث والتحقيق

من خلال قراءة متأنية للمواد المنظمة لإجراءات التحقيق في مشروع قانون المسطرة المدنية، وبعد مقارنتها بفصول قانون المسطرة المدنية الحالي، يتضح أن الأولى تحبل بمجموعة من المستجدات الهادفة لتجاوز البطء والتعقيد، من خلال الفصل 55 من مشروع ق.م.م يتضح جليا أن المشرع أحاط إجراءات التحقيق بمجموعة من الضمانات القانونية لعل أهمها، تحديد ضوابط يجب مراعاتها قبل الأمر بإجراء من إجراءات التحقيق.
أولا: الضوابط المرعية عند الأمر بإجراء التحقيق
1- أن يكون ضروريا
الملاحظ إن مشروع قانون المسطرة المدنية ساير ما استقر عليه الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض في اعتبار أن اللجوء لإجراءات التحقيق يجب أن يكون ضروريا للكشف عن الحقيقة من خلال ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 55 من مشروع ق.م.م .
وبذلك يجب على المحكمة أن تبني حكمها على اليقين لا على الظن والتخمين، فإذا طلب أحد الأطراف إجراء تحقيق للتأكد من واقعة ما، وكان هذا الإجراء ضروريا للكشف عن الحقيقة، وجب عليها الرد بشأنه إما بقبوله أو برفضه بما يكفي.
2- أن يكون مجديا
يجب على القاضي حسب منطوق الفقرة الأولى من المادة 55 من مشروع ق.م.م قبل أن يأمر بأحد إجراءات التحقيق أن يتأكد من كون هذا الإجراء مفيدا في التحقيق، منتج في الدعوى، وبعبارة أخرى يجب أن يتأكد القاضي من أن الأمر بإجراء التحقيق سيسهل الفصل في النزاع.
فإذا ما تبين للقاضي أن الأمر بإجراء التحقيق لن يفيد في الدعوى، وأنه سيترتب عنه تطويل في الإجراءات وتعطيل في الفصل في القضايا وجب عليه أن يمتنع عن الأمر به.
والواقع يظهر أن العمل القضائي خاصة بعض القضاة يأمرون بإجراءات التحقيق من باب التزييد أو بهدف التخلص من القضية مؤقتا أو نهائيا، علما أنه من المحتمل جدا أن يبت نفس القاضي الذي أمر بإجراء التحقيق في القضية بعد تأخيرها، وهو ما حاول مشروع ق.م.م تجاوزه من خلال التنصيص على ضرورة أن تكون إجراءات التحقيق مجدية.
ثانيا: الضوابط الخاصة عند الأمر بإجراء تحقيق
- توسيع صلاحية القاضي في إجبار أطراف الدعوى أو الغير بتقديم أي مستند إثبات يوجد بحوزته، وذلك بناء على طلب الطرف الآخر ما لم يوجد مانع قانوني وذلك داخل أجل معقول.
وتحسب للمشرع التنصيص على الأجل المعقول لأنه من شأنه المساهمة في تدبير الزمن القضائي.
كما أن الفقرة الأولى من المادة 56 من م.ق.م.م حددت أجلا أقصاه 15 يوما من تاريخ توصل طالب الأمر بإجراء من إجراءات التحقيق بالإشعار لإيداع المبلغ الذي يتطلبه القيام بهذا الإجراء بصندوق المحكمة.
وهذا ما أغفل عنه قانون المسطرة المدنية الحالي، وترك السلطة التقديرية للقاضي في تحديد هذا الأجل.
- إقامة دعوى أصلية في إجراءات البحث والتحقيق
إن قانون المسطرة المدنية الحالي لا يخول للأفراد حق إقامة دعوى أصلية للمطالبة بإجراء من إجراءات التحقيق، وبذلك فمشروع قانون المسطرة المدنية حسن فعلا حينما أتاح إمكانية حصر موضوع الدعوى في الأمر بإجراء من إجراءات التحقيق لكن هذه المكنة ليست على إطلاقها لكون المشروع حصرها في تحقيق الخطوط والزور الأصلي .

الفقرة الثانية: دعم آليات الجزاء لضمان فعالية إجراءات البحث والتحقيق

من خلال قراءة متأنية للمواد المنظمة لإجراءات البحث والتحقيق في مشروع قانون المسطرة المدنية من 55 إلى 102، يتضح أن واضع هذا المشروع قد أحاط إجراءات البحث والتحقيق بمجموعة من الضمانات يترتب على مخالفتها توقيع الجزاء وذلك من أجل ضمان فعالية هذه الإجراءات كما عمل على رفع مبلغ الغرامات في مخالفة بعض الإجراءات، وأشار المشرع إلى ضرورة مساهمة الجميع بحسن نية من أجل إنجاح عملية التحقيق في الدعوى المدنية.
أولا: الرفع من قيمة الجزاء
من خلال المادة 55 من مشروع قانون المسطرة المدنية خصص الفقرة الثانية التي جاء فيها "يجب على الأطراف أن يساهموا في إجراءات تحقيق الدعوى وفقا لما تقتضيه قواعد حسن النية وللمحكمة ترتيب الآثار عن كل امتناع أو رفض غير مبرر".
هكذا يتضح من خلال المقطع الأخير لهذه الفقرة أن المشرع رتب الآثار على أطراف الدعوى في حالة امتناع أو رفض غير مبرر في المساهمة في إجراءات التحقيق، وأعطى للمحكمة السلطة التقديرية في اختيار الجزاء المناسب حسب طبيعة وملابسات كل قضية.
كما أنه من بين الضمانات المستحدثة بمقتضى هذا المشروع، أنه في حالة رفض أحد الأطراف أو الغير تقديم مستند للإثبات بناء على طلب أحد الأطراف، فإنه يمكن للمحكمة إجبار حائز هذا المستند بتقديمه تحت طائلة غرامة تهديدية .
كما تم الرفع من مبلغ الغرامات من خلال هذا المشروع، وذلك تدعيما لمصداقية إجراءات التحقيق.
وكمثال على ذلك نذكر مثلا إجراء البحث، حيث تم الرفع من قيمة الغرامة من 50 درهم إلى 200 درهم في حالة تخلف الشهود عن الحضور للإدلاء بالشهادة .
أما في حالة التخلف عن الحضور للمرة الثانية للإدلاء بالشهادة فإن مبلغ الغرامة يرفع إلى 500 درهم ، مقارنة مع القانون الحالي الذي يحدد الغرامة في100 درهم.
أما فيما يخص إجراءات تحقيق الخطوط ونخص هنا بالذكر المادة 91 من مشروع ق.م.م. نجدها تنص على ما يلي: "فإنه إذا أثبت من التحقيق أن المستند المحرر أو الموقع ممن أنكره أمكن الحكم عليه لفائدة الخزينة العامة للمملكة بغرامة من 500 إلى 5000 درهم، بالإضافة إلى ما قد يحكم به من تعويضات ومصاريف".
و الملاحظ أن المشرع رفع سقف مبلغ الغرامة مقارنة مع ما هو محدد في القانون الحالي، حيث يتراوح مبلغها بين 100 إلى 300 درهم .
كما أنه في حالة امتناع الجهة المودع لديها المستند الرسمي المطلوب إحضاره للمقارنة عن الإدلاء به للمحكمة، فإن المشرع رتب لها جزاء جنائي وأحال في الفقرة الثانية من المادة 90-1 على قانون المسطرة الجنائية.
ثانيا: نحو تكريس مبدأ حسن النية في إجراءات البحث والتحقيق
الملاحظ أن القانون لم يحدد مفهوم حسن النية بل ترك الأمر للفقه والقضاء، وذلك في نظرنا، من أجل ترك مساحة وسلطة واسعة للقاضي في التعامل مع هذا المبدأ . ويمكن القول إنه مبدأ أخلاقي بامتياز، يتمثل أساسا في ذلك الشعور الأخلاقي الذي يحمله كل فرد في وجدانه كيفما كان مستواه العلمي أو المعرفي، وعلى ضوئه يتعين على كل متقاض ممارسة حقه، ولو كان صاحب حق فهذا لا يشفع له في استعمال أساليب وطرق تقوم على سوء النية ولو كان من شأنها حماية حقوقه ومصالحه، بمعنى أنه لا مجال للقول بكون الغاية تبرر الوسيلة، فإذا لم تكن هذه الأخيرة مشروعة وأخلاقية فلا يمكن الحديث عن الغاية ولو كانت مشروعة، فما بالك إن كانت غير ذلك .
ولأهمية هذا المبدأ في إجراءات التقاضي بشكل عام، وإجراءات البحث والتحقيق بشكل خاص، فقد عمل واضعوا مشروع قانون المسطرة المدنية على تكريس هذا المبدأ بشكل صريح وإحاطته بضمانات قانونية في حالة خرقه.
وهكذا فمن خلال المادة 5 ق.م.م والتي تنص على التقاضي بحسن النية فقد أضاف واضعوا المشروع الجديد فقرة لهذا الفصل، وأقر من خلالها جزاء في حالة التقاضي بسوء نية، والمتمثل في غرامة مدنية لفائدة الخزينة العامة تتراوح قيمتها ما بين 500 و5000 درهم، مع إمكانية تعويض المتضرر عن الضرر الذي لحقه بسبب التقاضي بسوء نية.
أما فيما يخص إجراءات البحث والتحقيق، فالملاحظ أن المشرع أشرك الأطراف في هذه المرحلة من مراحل الدعوى، وذلك من خلال الفقرة الثانية من المادة 55، ليصبح الأطراف منتجين في الدعوى بشكل عام وفقا لما تقتضيه قواعد حسن النية. كما أحاط المشرع هذا الالتزام بضمانات، وهي توقيع الجزاء في حالة مخالفة قواعد حسن النية من طرف المحكمة.
كما أن المشرع اعتبر السكوت بمثابة قبول ضمني من خلال المادة 1-91، وأيضا اعتبر أن عدم حضور الطرف رغم توصله بالاستدعاء بصفة قانونية بمثابة إقرار للمستند.
وهذا من شأنه تحقيق الفعالية في إجراءات التحقيق من خلال حسن تدبير الزمن القضائي دون انتظار الجواب من الطرف الأخر، مما يدفع هذا الأخير إلى تقديم جواب صريح داخل الأجل القانوني حتى لا يفسر سكوته بما حدد مسبقا بموجب القانون.
أما فيما يخص الزور الفرعي، فإنه في حالة ادعاء أحد الأطراف الزور وبتت المحكمة في طلبه بالرفض، فإن هذه الأخيرة تحكم عليه بغرامة تتراوح بين 500 و5000 درهم، دون المساس بالتعويضات والمصاريف والمتابعة الجنائية .
من خلال ما سبق يمكن القول إن مشروع قانون المسطرة المدنية، طعّم إجراءات البحث والتحقيق بمجموعة من الضمانات الهادفة إلى تحقيق الفعالية والنجاعة القضائية وبالتالي تحقيق حكامة قضائية.

المطلب الثاني: نحو دعم سلطة القاضي المدني في إجراءات البحث والتحقيق

إن سلطة القاضي في إجراءات البحث والتحقيق في الدعوى المدنية في ظل النظام الحالي، يعرف مجموعة من القيود والمعوقات تتمثل أساسا في اتساع رقابة محكمة النقض وتعدد مصادر الإثبات، وبالتالي يتعين مسايرة التطور الحاصل على مستوى إجراءات البحث والتحقيق في القوانين المقارنة، وتوسيع سلطة قاضي الموضوع، وكذلك الاستثمار في رأس المال البشري عبر تحيين برامج التكوين المستمر بهدف بلوغ مفهوم الضمير المسؤول الذي نادى به جلالة الملك في بحر خطاب العرش لـ 30 مارس 2013 .
وبناء عليه سنحول مناقشة هذا المطلب من خلال فقرتين، نتناول في فقرة أولى تعزيز الدور الإيجابي للقاضي المدني، على أن نعرج في فقرة ثانية إلى تقليص رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع في مجال إجراءات البحث والتحقيق.

الفقرة الأولى: تعزيز الدور الإيجابي للقاضي المدني

إن الدور الذي يتولاه القاضي في إطار إشرافه على مسطرة التقاضي الجارية أمامه في الخصومة، هو أن يعرض على أطراف النزاع، تلقائيا أو بناء على طلبهم، وسائل الإثبات المحتج بها وكذا نتائج إجراءات التحقيق التي قد يقوم بها، حتى يتأتى لهم مناقشتها، وتقديم استنتاجاتهم بشأنها؛ فاحترام حقهم في الإثبات يخول لهم الحق في تحديد موقفهم مما يقدم في الدعوى من أدلة، أو في طلب التأجيل للإطلاع على المستندات المقدمة من الخصم الآخر والرّد عليها.
إن للقاضي سلطة تقدير واسعة في إدارة عملية الإثبات؛ فهو يقوم بدور الوسيط بين أطراف الدعوى طيلة إجراءات التقاضي؛ وفي مرحلة التحقيق، فمن خلال اطلاعه على المذكرات والحجج المرفقة بها يتمكن من الإلمام بعمق النزاع ووقائعه، ومن الوقوف على البيانات غير التامة لإنذار الجهة المعنية من أجل استكمالها، أو الإدلاء بما يجب الإدلاء به، ومن وضع اليد على مكامن الغموض واللبس للتدخل من أجل رفعه في إبانه وقبل تجهيز القضية للحكم. لذلك إن تدخل القاضي بصورة إيجابية في الدعوى يجب أن يتم في الوقت المناسب أثناء سير الإجراءات، حتى إذا تم حجز الملف للتأمل أو المداولة نكون أمام مرحلة تم فيها الحسم في الجانب الشكلي أو المسطري، لأن ما يلاحظ من خلال الممارسة القضائية أن هناك حالات ليست باليسيرة يتم فيها اعتبار الملف جاهزا للحكم، وفي الوقت الذي ينتظر فيه الأطراف صدور الحكم البات في النزاع يتم إخراجه من التأمل أو المداولة من أجل الإنذار بالإدلاء بوثيقة أو استكمال بيان أو أداء رسوم... إلى غيرها من الأسباب التي كان بالإمكان تداركها أثناء سير المسطرة، لو أن القاضي أو المستشار المقرر قام بدوره الإيجابي في تصريف الدعوى على الوجه المطلوب، الأمر الذي رسخ، في بعض الحالات، بطء العدالة وعدم إيصال الحقوق إلى أصحابها في الزمن المنشود وبالفعالية المطلوبة، ويؤدي بالتالي إلى عدم تكريس ثقة المتقاضي في القضاء .
ومن خلال استقراء المقتضيات الناظمة لإجراءات البحث والتحقيق في إجراءات الدعوى المدنية في إطار مشروع قانون المسطرة المدنية، يتضح أنه تم تعزيز الدور الإيجابي للقاضي للمدني حيث لم يعد غريبا عن النزاع ومقيدا باتباع الأطراف في السبل التي يتبعونها في تحقيق الدعوى، كما أنه لم يعد مقيدا بمبدأ الحياد المطلق على النحو الذي يجعل دوره سلبيا في إدارة النزاع، ويتبين ذلك من خلال المكنة التي أتاحها له المشرع من خلال مشروع قانون المسطرة المدنية، حيث أنه بموجب المادة 55 أصبح له الحق في إجبار الأطراف أو الأغيار على الإدلاء بالمستند الموجود في حوزتهم و هذه الامكانية متاحة للقاضي التجاري دون القاضي المدني، حيث نصت المادة 22 من القانون المحدث للمحاكم التجارية " أن تأمر تلقائيا أو بناء على طلب أحد الأطراف بتقديم الوثائق المحاسبية أو الإطلاع عليها".
علاوة على ما تم بسطه، يمكن أيضا تحقيق الفعالية من خلال دعم دور القاضي عند الأمر بإجراء رفع اليد، فله مثلا كقاضي منفرد أن يصدر أمرا ولائيا برفع اليد عن القضية و إحالتها على رئيس المحكمة لاتخاذ ما يراه مناسبا في القانون متى انصب محل الدعوى على حق عيني أو حق مختلط عيني و شخصي، إذ يتعين طبقا للتنظيم القضائي والقانون أن يسند البت في مثل هذه الدعاوى لهيئة قضائية جماعية بدل قاض منفرد، كما أن له من تلقاء نفسه، أن يحكم بعدم الاختصاص متى تم فتح ملف للنزاع أمام المحكمة الابتدائية و تبين أن موضوعه ينعقد اختصاص النظر فيه للمحكمة التجارية أو للمحكمة الإدارية.
وعليه، فسلطة القاضي المدني في إدارة دليل الإثبات ترتبط، من جهة أولى، بجانب الموضوع من خلال ما خوله له القانون من صلاحيات تنصب على طبيعة التعامل مع وسائل الاثبات، ومن جهة ثانية، بجانب الإجراءات من خلال تعامل القاضي مع أطراف النزاع وتقدير النتائج المترتبة على مواقفهم ومراكزهم القانونية، ومع إجراءات تحقيق الدعوى المنصوص عليها في قانون المسطرة المدنية .
من خلال ما تقدم، يتضح أن الدور الإيجابي للقاضي يتمثل أيضا من خلال سلطته في تحديد الطرف الملزم بإيداع المبلغ الذي يتطلبه بإجراء من إجراءات البحث والتحقيق عندما تأمر المحكمة تلقائيا به، وذلك وفق مقتضيات المادة 56 من م.ق.م.م .
وفي الأخير، يمكن القول إن من شأن توظيف الدور الإيجابي للقاضي المدني أن يحقق عدالة فعالة وسريعة وحماية حقوق المتقاضين وتحقيق نجاعة الإجراءات وصدور الأحكام في أجل معقول بما يحقق حكامة قضائية تستجيب للإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة.

الفقرة الثانية: تقليص رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع في مجال إجراءات البحث والتحقيق

من خلال استقراء موقف محكمة النقض يتضح أن هناك حالات كثيرة بسطت فيها هذه المحكمة رقابتها، بدل أن تترك المجال في تقديرها لسلطة قاضي الموضوع، الأمر الذي يستدعي تعزيز مجال هذه السلطة في تقدير الوقائع القانونية من خلال رفع رقابة محكمة النقض في مجال إجراءات التحقيق، ومنح قاضي الموضوع هامشا أوسع تجاه المراكز القانونية لأطراف الخصومة في الإثبات .
أمام اتساع مجالات الرقابة المفروضة من طرف محكمة النقض على سلطة القاضي المدني في إجراءات البحث والتحقيق، بحجة انعدام التعليل أو فساده أو انعدامه، وبالنظر أحيانا للجوانب ذات الصلة بالواقع لا بالقانون، واقع يتعين تصحيحه وإعادة النظر فيه، وذلك من أجل تعزيز سلطة قاضي الموضوع في تقدير الوقائع القانونية ومنحه فسحة أكبر لإعمال هذه السلطة .
ومن الأمثلة التي يتعين العمل فيها على توسيع مجال سلطة القاضي في تقدير الوقائع، وترك الاستقلالية التامة له دون إخضاعه لرقابة محكمة النقض كما ذهب إلى ذلك أستاذنا الفاضل الدكتور بنسالم أديجا:
سلطة محكمة الموضوع في قبول أو رفض طلب إجراء البحث، أو في الأمر به تلقائيا بحسب ظروف القضية وموقف طرفيها من الإثبات، ذلك أن مواقف محكمة النقض حاليا تراوحت بين توسيع أو تضيق هذه السلطة:
فتارة يحتفظ لقاضي الموضوع بمطلق السلطة في الأمر أو عدم الأمر بإجراء تحقيق.
أو يزكي موقف القاضي المدني برفضه الأمر بإجراء بحث في واقعة لم يثبتها طالب البحث.
أو يربط سلطة قاضي الموضوع بشأن الأمر ببحث من عدمه بوسيلة إثبات أخرى موجودة في الملف.
وتارة أخرى لفرض رقابة في نقض الحكم بعلة خرقه لمقتضى قانوني كما في حالة الفصل 71 من ق.م.م المتعلق بإجراء بحث والاستماع للشهود، علمنا أن الفصل يعطي فيه المشرع للمحكمة الصلاحية للأمر بالبحث من عدمه، إذ وردت صيغته كما يلي "يجوز الأمر بالبحث في شأن الوقائع التي يمكن معاينتها من طرف الشهود ..."
وفي نفس السياق الحالة الأخيرة تربط محكمة النقض ضرورة الأمر بإجراء بحث بحقوق الدفاع والفصلين 71 من ق.م.م و الفصل 754 من ق.ل.ع .
وهكذا، وبقراءة مجموعة من القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى سابقا منذ إحداثه إلى تاريخه، يتبين أن هناك تدبدبا واضحا في الموقف تجاه السلطة التقديرية التي منحها القانون لقاضي الموضوع في التعامل مع إجراءات البحث والاستماع للشهود، وذلك من خلال تدخله بفرض الرقابة أحيانا في حالة عدم مناقشة طلب إجراء بحث والرد عليه فرتب على هذا الموقف النقض، علما بأن عدم الرد على الطلب يعتبر بمثابة رفض ضمني له، ويرفع يده على هذه الرقابة أحيانا أخرى كما في حالة عدم استجابة المحكمة لطلب إجراء بحث ثان فلم يرتب على هذا الموقف النقض.
سلطة محكمة الموضوع في مجالات تقدير التعويض عن الضرر وتقدير المستحقات المترتبة عن الطلاق أو التطليق للشقاق يجب أن تستقل بها المحكمة دون فرض رقابة عليها من طرف محكمة النقض، وهي الرقابة التي تأخذ في بعض الأحيان مظهر عدم إبراز المحكمة للعناصر التي اعتمدتها في التقدير .... .
حق الوالي في مراقبة المحضون وقيام حقه في المطالبة بإسقاط الحضانة عن الحاضنة متى استوطنته بلدا يعسر فيه على الولي مراقبة المحضون والعناية به طبقا للمادة 169 من مدونة الأسرة. فتقدير مدى يسر أو عسر هذه المراقبة مسألة واقع ترجع سلطة تقديرها لقاضي الموضوع، ويجب أن يستقل بهذا التقدير ولو لم يبين الأسباب والموجبات التي بنى عليها تقديره، كما هو الحال بالنسبة لتقدير قاضي الموضوع لمبيت المحضون من عدمه مع الحاضنة .
وبالرجوع إلى مشروع ق.م.م خاصة المادة 55 يتضح أن واضع هذا المشروع قد تنبه إلى السلطة التقديرية للقاضي المدني في الأمر بإجراء تحقيق، ومنحه سلطة واسعة في ذلك لكن هذه السلطة ربطها بشرطين وهما: أن يكون الأمر بإجراء التحقيق ضروريا وأن يكون مجديا، ولا ضير في أن يتوفر شرط دون الأخر.
ومن شأن توسيع السلطة التقديرية للقاضي المدني تحقيق نوع من الفعالية والنجاعة في إجراءات البحث والتحقيق.

خاتمة :
إن تنظيم إجراءات التحقيق في الدعوى المدنية في القانون المغربي إرث تشريعي مأخوذ من قوانين أجنبية يرجع تاريخ بعضها لما يقارب ثلاثة قرون.
ويتسم هذا التنظيم بغلبة الشكلية، وعدم مسايرته للعمل القضائي، وشدة التعقيد، وعدم مواكبته للمستجدات الحديثة والتطور العلمي، مما يضفي عليه طابعا تقليديا متجاوزا. كما أنه لم يتم تصور إجراءات التحقيق ضمن هذا التنظيم إلا كمسطرة عارضة في الدعوى، مما يصعب معه اعتبارها دعوى أصلية في بعض الحالات كدعوى تحقيق الخطوط.
كل هذه الإشكالات وغيرها حاول مشروع قانون المسطرة المدنية تجاوزها من خلال ما أتى به من مستجدات تشريعية خاصة على مستوى إجراءات البحث والتحقيق من أجل عصرنتها وتطويرها.
ومن خلال تحليلنا لإجراءات التحقيق في مشروع قانون المسطرة المدنية، اتضح أن المشرع حاول الارتقاء بهذه الإجراءات في إطار الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة، نظرا لأهمية هذه الإجراءات في الكشف عن الحقيقة وسير المسطرة وإثبات وقائع النزاع، مما سيساهم لا محال في تبسيط إجراءات الدعوى وإصدار أحكام داخل أجل معقول.
وكما قلنا في معرض تحليلنا لهذا الموضوع، وتبعا لما جاء في خطاب جلالة الملك، فإن الضمير المسؤول للساهرين على تفعيل هذه المقتضيات التشريعية يعتبر المحك الحقيق لإنجاح هذا الإصلاح التشريعي.
______________________
لائحة المراجع :

القوانين:
- قانون المسطرة المدنية، ظهير شريف بمثابة قانون رقم 1.47.744 بتاريخ 11 رمضان (28 شتنبر1974).
- قانون الالتزامات والعقود، ظهير 9 رمضان 1331 (12 أغسطس 1913)، صيغة محينة بتاريخ 18 فبراير 2016.
- مشروع قانون المسطرة المدنية، صيغة الثلاثاء 4 غشت 2015.
مقالات وتقارير ومنجزات وزارة العدل :
- ميثاق اصلاح منظومة العدالة، 30 يوليوز 2013.
- معالم على درب الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة، حصيلة ومنجزات وزارة العدل 2015.
- سعود العماري، مبدأ حسن النية في العقود، مقال منشور في موقع www.alyoum.com يوم الاطلاع 24.03.2017.
- يوسف أقصبي، التقاضي بحسن النية كآلية للرفع من النجاعة القضائية، مقال منشور على الموقع الالكترونيwww.alkanounia.com يوم الاطلاع 2017.03.24.

الكتب
- عبد الكريم الطالب، الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، دراسة في ضوء مسودة مشروع 2015.
- المعزوز البكاي، المختصر في قانون المسطرة المدنية، مطبعة ورقة سجلماسة، طبعة 2015 مكناس.
- محمد الكشبور، رقابة المجلس الأعلى على محاكم الموضوع في المادة المدنية، محاولة لتمييز بين الواقع والقانون.

الرسائل والأطروحات:
- بنسالم أوديجا، سلطة القاضي في الاثبات في المادة المدنية، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال، الجزء الأول، السنة الجامعية 2014/2015.
- محمد المجدوبي الادريسي، إجراءات التحقيق في الدعوى في قانون المسطرة المدنية المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، الطبعة الأولى 1996، مطبعة الكاتب العربي-دمشق.
تعليقات