القانون بين الحكومة و البرلمان: من هو المشرع الأصلي ؟

مقال بعنوان: القانون بين الحكومة و البرلمان: من هو المشرع الأصلي ؟  (مبدأ فصل السلط: توازن أم تداخل ؟)

القانون بين الحكومة و البرلمان: من هو المشرع الأصلي ؟


بقلم : ذ.عبد الله عصفوري،منتدب قضائي
باحث في القانون العام 

مقدمة :
ارتبطت نظرية فصل السلط كمبدأ فلسفي يميز الشكل الديمقراطي لنظام الحكم عن غيره، باسم المفكر الفرنسي "مونتسكيو" في كتابه الشهير "روح القوانين" 1748 1، حيث يجب أن توقف السلطة السلطة كشرط من شروط تحقيق الحرية ومنع الاستبداد، وذلك قبل أن تصبح هذه النظرية عقيدة وتتبوأ منزلة المبدأ المقدس غداة إعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789، وبعد ذلك تم تكريسه في متن مختلف الدساتير الوطنية. 
ويعني مبدأ فصل السلط عدم جمع الصلاحيات التشريعية والتنفيذية والقضائية بيد هيئة واحدة؛ فتختص السلطة التشريعية بالتشريع ومراقبة العمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية، وتتولى السلطة التنفيذية مباشرة تطبيق القوانين المصادق عليها والسهر على احترام الأنظمة وتنفيذ السياسات العامة والسياسات العمومية، فيما تقوم السلطة القضائية بالبث في النزاعات الناشئة عن خرق القوانين والأنظمة والحكم على المخالفين. 
وإذا كانت المؤسسة الملكية بالمغرب تسمو على سائر السلط بالدستور تكريسا للامتداد السلطاني والشرعية التاريخية، ولا تخضع سلطاتها التي تمارسها بواسطة الظهائر والخطب والرسائل والتعليمات الملكية لأية مساءلة سياسية أو مسطرة قضائية؛ فإن العلاقة بين باقي السلط في إطار الفصل المرن بينها يجب أن تتسم بالتعاون والتوازن عبر مجموعة من الآليات التي تضمنتها فصول الدستور والعديد من النصوص التشريعية الأخرى. 
وأهمية هذا الموضوع تتجلى من خلال تعدد المقتضيات المتعلقة بتنظيم السلط والعلاقات بينها في دستور المملكة المغربية ل29 يوليوز 2011 2، الذي نص على مبدأ فصل السلط لأول مرة بشكل صريح3، وجعل فصل السلط وتوازنها وتعاونها أساسا للنظام الدستوري إلى جانب الديمقراطية المواطنة والتشاركية، ومبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة4، كما تبرز أيضا بفعل الوقائع اليومية للتنازع بين السلط، وكذا علاقة التأثير والتأثر في تدبير الحياة الاجتماعية عبر إصدار مجموعة من المراسيم التطبيقية والمقررات التنظيمية بشكل ومضمون يجعل منها الوجه الواقعي للقانون. 
وإذا كان هذا المقال يعتبر محاولة لكشف وتحليل هوامش ومناطق التماس في عمل السلط الثلاث، والتي تخلق من حين لآخر تجاذبات سياسية ونقاشا مجتمعيا واسعا، وتطفو للواجهة من بين تمظهراتها ونتائجها المطالبة باحترام مبدأ الشرعية ودولة القانون والمؤسسات؛ فبمقتضى العقلنة البرلمانية التي استلهمها المشرع المغربي من نظيره الفرنسي منذ أول دستور في 1962 وصولا إلى دستور 2011؛ أصبحت الحكومة تمتلك آليات دستورية وقانونية للحد من سلطة البرلمان التشريعية والتقليص من اختصاصاته، لذلك؛ وقبل التطرق - في الجزء الثاني للموضوع- للإدارة القضائية بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية؛فإن الوقوف -في الجزء الأول- على الإشكالات المتعلقة بممارسة الاختصاصات التشريعية بين الحكومة والبرلمان خاصة بعد دستور 2011، ومدى توازن العلاقة بينهما، ثم استقراء نجاعة وفعالية وحسن أداء التدخل البرلماني في المجال التشريعي كسلطة أصلية للحد من هيمنة المجال التنظيمي، يفرض نفسه عبر طرح الإشكالية التالية: 
ما مدى احترام مبدأ فصل السلط من خلال ممارسة المجال التشريعي بالمغرب على ضوء دستور 2011 ؟ 
وهو الإشكال الذي تتفرع عنه الأسئلة التالية: 
1ـ ماهي حدود المجال التشريعي للبرلمان ؟ 
2ـ ما مدى توازن العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية انطلاقا من مبدأ فصل السلط؟ 
3ـ وما هي مظاهر اكتساح المجال التنظيمي للقانون من خلال المنتوج التشريعي والممارسة؟ 
وفي محاولة للإجابة على هذه الأسئلة يمكن معالجة الموضوع في محورين كالتالي: 

أولا: حدود السلطة التشريعية للبرلمان في القانون والممارسة 
ثانيا: هيمنة المجال التنظيمي للحكومة على المجال التشريعي 

أولا- حدود السلطة التشريعية في القانون والممارسة 

يمارس البرلمان المغربي السلطة التشريعية، فيصوت على القوانين، ويراقب عمل الحكومة، ويقيم السياسات العمومية5. ولرئيس الحكومة ولأعضاء البرلمان على السواء حق التقدم باقتراح القوانين6. 
ويحدد الفصل 71 الميادين التي يختص القانون بالتشريع فيها، بالإضافة إلى المواد المسندة إليه صراحة بفصول أخرى من الدستور، وهي اختصاصات على سبيل الحصر. 
وبالإضافة إلى مجموعة من النصوص الدستورية التي تبرز المحدودية القانونية للسلطة التشريعية للبرلمان، هناك محدودية واقعية وإكراهات ذاتية تشكل قيودا أخرى أفرزتها الممارسة العملية وتعد انعكاسا لما هو قانوني.

1- رفض التكليف العمومي في المقترحات والتعديلات 

يسهر البرلمان والحكومة على الحفاظ على توازن مالية الدولة. وللحكومة أن ترفض بعد بيان الأسباب، المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان، إن كان قبولها يؤدي بالنسبة لقانون المالية إلى تخفيض الموارد العمومية أو إلى إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود7. 
فإذا كانت سلطة الاقتراح والمبادرة مخولة بموجب النص الدستوري للسلطة التشريعية، فإن سلطة هذه الأخيرة في تعديل مقتضيات مشروع قانون المالية محدودة جدا، حيث تقتصر فقط على إمكانية الزيادة في حجم المداخيل أو تخفيض النفقات العامة8. 
ففي المجال المالي، يمكن إثارة عدم القبول في كل لحظة من طرف الحكومة لرفض كل مقترح من شأن قبوله أن يؤدي إلى تقليص الموارد أو الزيادة في النفقات9. 
غير أن هذه السلطة من اختصاصها اقتراح مشاريع قوانين تبلور حاجيات السكان، وتوجه النفقات العامة نحو تقوية البعد الاجتماعي للمشاريع المبرمجة، في حين تواجهها الحكومة بمجموعة من القيود. ذلك أنه الصعب التقدم باقتراح قانون أو تعديل يستجيب لحاجيات السكان وليس له تأثير مالي، رغم أن القانون التنظيمي 130.13 لقانون المالية حاول التخفيف من هذا القيد الدستوري بتنصيصه على أن المراد بالتكليف العمومي فيما يخص الموارد الإضافية أو التعديلات تلك الاعتمادات المفتوحة برسم نفس الفصل10.

2- رفض التعديل لعدم سبق عرضه على اللجان 

إذا كان الفصل 83 من الدستور يمنح لأعضاء مجلسي البرلمان وللحكومة حق التعديل في النصوص التشريعية؛ فإنه يخول للحكومة بعد افتتاح مناقشة مشروع القانون في الجلسات العامة لمجلسي البرلمان، الحق في أن تعارض في بحث كل تعديل لم يعرض من قبل على اللجنة التي يعنيها الأمر، وبالتالي فالحكومة وحدها تمتلك صلاحية إدخال تعديلات جديدة على مشروع القانون خلال الجلسات العامة. 
وبالإضافة إلى اقتصارها على التعديلات المقبولة أو المقترحة من قبلها، يمكن للحكومة طلب البت في المشروع بتصويت واحد أو التصويت المغلق"Le VoteBloqué " لتضمن إخراج مشروعها بدون تعديلات من قبل البرلمان11، والاقتصار على التعديلات المقترحة أو المقبولة من طرفها.

3- حدود سلطات البرلمان في التصويت وفي قانون المالية 

يتضمن الدستور مقتضيات تحد من سلطة البرلمان في التصويت وتكرس ضعف دوره في قانون المالية، فتمكن الحكومة من تجاوز سلطته بعدم التصويت على قانون المالية في نهاية السنة، أو في حالة عدم صدور الأمر بتنفيذه بسبب إحالته على المحكمة الدستورية، حيث تستخلص المداخيل باستثناء المقترح إلغاؤها، وتفتح بمرسوم الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية والقيام بالمهام المنوطة بها على أساس ما هو مقترح بالميزانية المعروضة بقصد الموافقة. 
كما يصوت البرلمان مرة واحدة على نفقات التجهيز(الاستثمار) بالنسبة للمخططات التنموية الاستراتيجية والبرامج متعددة السنوات، فيستمر مفعول التصويت طيلة مدة تنفيذها، بينما تبقى للحكومة صلاحية تقديم مشاريع قوانين لتعديلها12. 
ويضاف إلى ما سبق الإيداع المتأخر لمشروع القانون المالي وضيق الحيز الزمني المخصص للبرلمان من أجل الموافقة على قانون المالية13، وغياب الجدوى في التصويت على قانون التصفية باعتباره قانون يحصر حسابات نتيجة سنة فارطة، وحصيلة تنفيذ ميزانية تحكم فترة سابقة، وغياب الاهتمام البرلماني به على الرغم من التصرف الواسع للحكومة في بنوده مما قد يجعله يختلف عن الترخيص البرلماني، وبالتالي عدم تقييم أوجه القصور والخلل في الأداء المالي للحكومة. 
لكن حدود سلطات البرلمان لا تقف عند مسطرة اعتماد قوانين المالية بل تتعداه إلى مضامينها، فتتضمن مواضيع ومجالات خارجة عن تلك المحددة بمقتضى المادة 6 من القانون التنظيمي للمالية 130.13، والتي يجب أن تنحصر في الأحكام المتعلقة بالموارد والتكاليف أو تهدف إلى تحسين شروط التحصيل ومراقبة استعمال الأموال العمومية، وتدخل ضمن قوانين إجرائية أو موضوعية أخرى ليس لها طابع مالي. وبذلك تخلق الحكومة ضمن قانون المالية مقتضيات تشريعية جديدة تمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور، وتدخل ضمن ما يسمى "بالفرسان الموازنية"، توسع بموجبها مجالات تدخل قانون المالية من أجل تمرير برامجها، باعتبار أن قانون المالية وثيقة ذات طبيعة سياسية تعكس طبيعة العلاقة وموازين القوى بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. 
وهكذا، فقد تضمنت المادة 7(ب) من قانون مالية 2018، إقحام مقتضيات تتعلق بتضريب القطاع التعاوني، وتضمنت المادة 9 من قانون مالية 2020، عدم إلزام تنفيذ الأحكام القضائية على أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها إلا في حدود الاعتمادات المتوفرة في ميزانياتها دون إخضاعها للحجز... وغيرها من النصوص، حيث تتحول الحكومة إلى المشرع الأصلي وتحد من الصلاحيات التشريعية للبرلمان الذي يصبح مشرعا ثانويا.

4- الحدود المتعلقة بالإكراهات الذاتية للسلطة التشريعية 

وتتعلق هذه الإكراهات بتركيبة البرلمان، حيث أن العديد من النواب والمستشارين ليس لديهم مستوى تعليمي أو تكوين أو خبرة، ولا يتوفرون على الكفاءات والمؤهلات الضرورية لإنتاج القواعد القانونية والتقصي والبحث ومراقبة عمل الحكومة، وبالتالي ليست لديهم إمكانيات المساهمة بفعالية في الإنتاج التشريعي وخاصة المالي. وهذه النسبة من البنية الفكرية الضعيفة أو الهشة تجعل من السهل التأثير على العديد من أعضاء المجلسين من طرف الحكومة. 
إضافة إلى أن الجهاز التنفيذي يتحكم في مصادر المعلومة والمعرفة (الإحصائيات، المعطيات، الدلائل، الحقائق، الأرقام، الملفات...) مما يبقي الرقابة البرلمانية حبيسة الشكليات دون إمكانية النفاذ إلى جوهر وعمق الأشياء، وفي المقابل إمساك الإدارة بسلطة مقتنعة وحاسمة في العديد من الأمور14. 
كما أن وجود أغلبية مساندة للحكومة تفوق عدديا أصوات المعارضة يضمن لها تمرير مشاريع القوانين، وتوفر لمقتضياتها الحصانة من التعديل أو الإلغاء. 
ويمكن تجاوزها عبر اجتهاد المؤسسات الحزبية في تزكية الكفاءات والأطر ذات التكوين في ميادين القانون والاقتصاد، حتى تتمكن المجالس التشريعية من تقديم مقترحات قوانين في مستوى الاستجابة لمختلف الأولويات التشريعية، وكذا تمكن الأعضاء من المناقشة الدقيقة والوافية والعميقة لمشاريع القوانين المقدمة من قبل الحكومة بالتنقيح والتعديل والإضافات داخل اللجان والجلسات العامة. 
فالخلاصة الأساسية لسلطات واختصاصات المؤسسة التشريعية، هي هيمنة السلطة التنفيذية على سيرها وممارستها يكرسها النص الدستوري حيث " تتدخل الحكومة في كل مراحل المسطرة التشريعية ابتداء من جدول الأعمال"15، للتحكم في جدولة أعمال مجلسي البرلمان بخصوص أسبقية برمجة مشاريع ومقترحات القوانين وفق الترتيب الذي تحدده الحكومة.

ثانيا- هيمنة المجال التنظيمي للحكومة على المجال التشريعي 

يشمل مجال التنظيم ما لا يدخل ضمن اختصاص القانون، ويدخل ضمن صلاحيات السلطة التنفيذية باعتبارها هي الهيئة الرئيسية ضمن مكونات النظام السياسي المغربي المكلفة مباشرة بتدبير شؤون الدولة والمسؤولة عن تنفيذ البرامج والمشاريع16، وتنزيل السياسات العمومية في مختلف المجالات. ولا يجب أن يتدخل مجال التنظيم في مجال التشريع إلا بعد حصوله على الموافقة البرلمانية17، وتحديد وتوضيح التدخلات التنظيمية للحكومة ضمانا لمبدأ فصل السلط.

1- ما لا يدخل ضمن مجال القانون يمارسه التنظيم 

إذا كان القانون هو مختلف القواعد ذات القيمة التشريعية التي تصدر عن البرلمان كاختصاص أصلي طبقا لأحكام الدستور؛ فإن الغرض من إصدار النصوص التنظيمية هو تنزيل القانون إلى الواقع وتطبيق تلك القواعد العامة التي تحتاج غالبا إلى قرارات تبين كيفية تنفيذها، باعتبار السلطة التنفيذية هي الأقدر على معرفة التفصيلات اللازمة لتنفيذ القوانين، فيختص المجال التنظيمي بالمواد التي لا يشملها اختصاص القانون18. 
وقد استلهم المشرع الدستوري المغربي هذه الصيغة "لضمان توازن السلط" و توزيع الاختصاص بين القانون والتنظيم من دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية لسنة 1958 19، حيث تم النص على تحديد مجال القانون وإعادة تنظيم الاختصاص التشريعي من أجل تقييد اختصاصات السلطة التشريعية ومنح السلطة التنفيذية مجالا تنظيميا إلى جانب اختصاصاتها التقليدية. 
ولابد من الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى المقررات التنظيمية الصادرة عن أعضاء الحكومة20، تتوفر الجماعات الترابية أيضا في مجالات اختصاصاتها وداخل دائرتها الترابية على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها21.

2- التشريع الحكومي بواسطة قانون الإذن 

قانون الإذن هو ترخيص يمنح بموجبه البرلمان للحكومة الأهلية القانونية لممارسة الوظيفة التشريعية لمدة معينة ولهدف محدد استثناء من اختصاصه التشريعي. 
فطبقا للفصل 70 من دستور 2011 في فقرته الثالثة "للقانون أن يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدد، ولغاية معينة، بمقتضى مراسيم، تدابير يختص القانون عادة باتخاذها، ويجري العمل بهذه المراسيم بمجرد نشرها، غير أنه يجب عرضها على البرلمان بقصد المصادقة عند انتهاء الأجل الذي حدده قانون الإذن بإصدارها". 
فبموجب تشريع الإذن من البرلمان22، يمكن للحكومة أن تصدر نصوصا قانونية وكذا فتح الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية واستخلاص المداخيل بمقتضى مرسوم: 
1ـ فتح اعتمادات إضافية خلال السنة في حالة الضرورة الملحة وغير المتوقعة وذات مصلحة وطنية بعد إخبار لجنتي المالية بالبرلمان (المادة 60 من القانون التنظيمي130.13)؛ 
2ـ إحداث حسابات خصوصية للخزينة (المادة 26 من القانون التنظيمي130.13)، وإحداث مرافق الدولة المسيرة بصورة مستقلة (المادة 21 من القانون التنظيمي130.13)؛ 
3ـ فتح الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية واستخلاص المداخيل، في حالة عدم التصويت على قانون مالية السنة أو لم يصدر الأمر بتنفيذه بسبب إحالته على المحكمة الدستورية في 31 دجنبر (الفصل 75 من دستور2011) ؛ 
4ـ وقف تنفيذ بعض نفقات الاستثمار23.

3- إصدار مراسيم قوانين بين الدورات 

تمارس الحكومة عدة صلاحيات تشريعية عبر مراسيم قوانين لغاية معينة ذات مصلحة وطنية وذلك "خلال الفترة الفاصلة بين دورات البرلمان، باتفاق مع اللجان التي يعنيها الأمر في كلا المجلسين"24، وتعرف "بمراسيم الضرورة"أو "المراسيم التشريعية" أو "مراسيم التسبيق"، حيث يتم عرضها على البرلمان للمصادقة عليها خلال دورته العادية الموالية. 
ويودع مشروع المرسوم بقانون لدى مكتب مجلس النواب فتناقشه اللجان المعنية بالمجلسين بالتتابع من أجل التوصل إلى قرار مشترك في شأنه وإلا فتحسم فيه اللجنة المختصة بمجلس النواب. 
وقد اعتبر المجلس الدستوري المغربي في قرار له أن المقصود في هذا النص هو تلك الفترة التي تفصل بين دورتين نيابيتين عاديتين خلال نفس الولاية التشريعية25. 
وإذا كانت الحكومة هي صاحبة المبادرة بإصدار مرسوم قانون حسب تقديرها لوجود حالة الضرورة، حيث يعرف اللجوء إلى إصدارها غلوا كبيرا دون الرجوع للبرلمان، فإن هذه السلطة التقديرية تخضع لرقابة البرلمان26. 
وجدير بالذكر أن هذه المراسيم التي تصدر في "الغيبة المؤقتة" للبرلمان لا نجد لها مقابلا في الدستور الفرنسي، الذي جعل مسطرة التفويض مقتصرة في شكلها على اتخاذ أوامر رئاسية بناء على قانون الإذن27.

4- تغيير النصوص التشريعية من حيث الشكل بمرسوم 

للحكومة أن تدفع بعدم قبول كل مقترح أو تعديل لا يدخل في مجال القانون28. ويمكن تغيير النصوص التشريعية من حيث الشكل بمرسوم، بعد موافقة المحكمة الدستورية إذا كان مضمونها يدخل ضمن المجال التنظيمي29. والمحكمة الدستورية أثناء نظرها في هذه النصوص إما تقرر بأن النص ذي طبيعة تنظيمية وبالتالي يمكن لرئيس الحكومة أن يغيره من حيث الشكل بمرسوم، أو أن تقرر بان النص ذي طبيعة تشريعية وبالتالي يبقى النص المحال من حيز مجال القانون ولا يحق لها أن تغيره من حيث الشكل. 
هذا، إضافة إلى إمكانية حل مجلس النواب من طرف رئيس الحكومة طبقا للفصل104 من الدستور، بعد استشارة الملك ورئيس المجلس ورئيس المحكمة الدستورية بمرسوم يتخذ في مجلس وزاري، بعد تقديم تصريح يتضمن دوافع قرار الحل وأهدافه أمام مجلس النواب... 

خلاصة : 
الدستور المغربي ضيق إلى حد كبير من اختصاص البرلمان في المجال التشريعي، بتوسيعه من نطاق المجال التنظيمي على حساب مجال القانون، وتخويله الحكومة الدور الأساسي في المسطرة التشريعية، الأمر الذي أضحى معه البرلمان مشرعاً استثنائيا في ظل هذا التحديد، وهو ما يتم تكريسه أيضا بتخويل الدستور للبرلمان أن يفوض للحكومة جانبا من سلطته التشريعية. 
لذلك؛ يجب التأكيد على ضرورة احترام مبدأ فصل السلط والوقوف عند حدود اختصاصات المؤسسة البرلمانية ذات المشروعية التمثيلية ضمانا لسمو النص الدستوري.
______________________
الهوامش: 
[1]ـ رقية المصدق، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، الجزء الأول، دار توبقال للنشر، 1986، الدار البيضاء، مطبعة فضالة، ص.136. 
2ـ دستور المملكة المغربية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.11.91، بتاريخ 29 يوليوز 2011، الجريدة الرسمية عدد 5964 المكررة بتاريخ 30 يوليوز 2011. 
3ـ عمر بندورو، الدستور الجديد ووهم التغيير: العلاقة بين السلط فصل أم خلط في السلط؟ دفاتر وجهات نظر، العدد 24، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، 2011، ص.107. 
4ـ الفصل الأول من دستور 2011. 
5ـ الفصل 70 من دستور 2011. 
6ـ الفقرة الأولى من الفصل 78 من الدستور. 
7ـ الفصل 77 من دستور 2011. 
8ـ عسو منصور، قانون الميزانية العامة ورهان الحكامة المالية الجيدة، مطبعة المعارف الجديدة الرباط، الطبعة الأولى 2017، ص. 136. 
9ـ الهيري الهيري، الاختصاصات المالية للبرلمان المغربي، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس، السنة الجامعية 2005-2006، ص. 303. 
10ـ المادة 56 من القانون التنظيمي رقم 130.13 المتعلق بقانون المالية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.15.62 بتاريخ 2 يونيو 2015 الجريدة الرسمية عدد 6370 بتاريخ 18 يونيو 2015، ص. 5810. 
11ـ عبد الالاه فرحات، العلاقة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية على ضوء دستور 2011، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس، السنة الجامعية 2015ـ2016، ص. 62. 
12ـ الفصل 75 من دستور 2011. 
13ـ المدة الزمنية المخولة لمجلسي البرلمان من أجل دراسة مشروع قانون مالية السنة والتصويت عليه لا تتعدى 52 يوم " 30 يوما لمجلس النواب و 22 يوما لمجلس المستشارين"، بينما تصل المدة الزمنية الممنوحة للبرلمان الفرنسي إلى 60 يوما، وتقدر هذه المدة بالنسبة للبرلمان المصري في 3 أشهر على الأقل. 
14- عسو منصور، مرجع سابق، ص.147. 
15ـ رقية المصدق، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية - النظام السياسي المغربي وأنظمة أخرى معاصرة، الجزء الثاني، دار توبقال للنشر، 1987، الدار البيضاء، مطبعة فضالة، ص.74. 
16ـ حماد صابر، محاضرات في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، مكتبة المعارف الجامعية، بفاس، السنة الجامعية 1995ـ1996، ص.1. 
17ـ يحي حلوي، المجلس الدستوري المغربي: دراسات وتعاليق(1994-2017)، مطبعة المعارف الجديدة الرباط، الطبعة الأولى 2017، ص.556. 
18ـ الفصل 72 من دستور 2011. 
19ـ عبد الاله فونتير، العمل التشريعي بالمغرب، أصوله التاريخية ومرجعياته الدستورية، دراسة تأصيلية وتطبيقية، الجزء الثالث، “تطبيقات العمل التشريعي وقواعد المسطرة التشريعية”، سلسلة أبحاث ودراسات جامعية، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الأولى، 2002، ص.91. 
20ـ الفصل 90 من دستور 2011. 
21ـ الفقرة الثانية من الفصل 140 من الدستور. 
22ـ وهو الإذن الذي تستطيع بموجبه الحكومة إصدار مقتضيات خطيرة قد تكبح الحقوق أو ترهن الوضع الاقتصادي للبلاد. 
23ـ كمثال على ذلك ما فعلته حكومة السيد عبد الإلاه بنكيران عندما أوقفت تنفيذ 16 مليار درهم من نفقات الاستثمار سنة 2014. 
24ـ الفقرة الثانية من الفصل 81 من دستور2011. 
25ـ قرار المجلس الدستوري المغربي رقم 37.94 الصادر في 16غشت 1994 بمناسبة نظره في القانون رقم 93.33 المتعلق بالصحون المقعرة. 
26ـ عبد الالاه فرحات، مرجع سابق، ص. 61. 
27ـ هشام المقدم، الحكومة والبرلمان أي توازن في المجال المالي، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس، السنة الجامعية 2010ـ2011، ص. 114. 
28ـ الفصل 79 من دستور 2011. 
29ـ الفصل 73 من الدستور. 
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -