مــقــــدمــة
إن الإنسان اجتماعي بطبعه، لا یمكنه أن یعیش بمعزل عن المجتمع، ولكون مجھوداته وقدراته جد محدودة فإنه یلجأ لغیره ھادفا إلى تلبیة حاجاته ومصالحه اللامتناھیة، بالدخول في علاقات قانونیة متشعبة مع عدة أطراف. ولعل العقد یمثل أفضل وأنجع وسیلة لدیه لتحقیق غایاته، وضمان تبادل خدماته ومنتجاته، كما أنه من أبرز التصرفات القانونیة الشائعة والممیزة لسلوكات الإنسان قدیما وحدیثا، لأنه ینظم الحقوق والواجبات بین الأفراد والجماعات بإقرار الحق وفرض الالتزام. ولا ینكر أحد ما للعقد من أھمیة عظمى في حیاتنا الیومیة فھو المرتكز الأساسي للمعاملات المالیة في وسطنا الاجتماعي. ونظرا للدور الھام المناط بالإرادة الحرة في التعاقد فقد تكرس لھا السلطان الأكبر في إنشاء الروابط العقدیة وترتیب آثارھا، إذ ساد مبدأ سلطان الإرادة أغلب العلاقات القانونیة نتیجة لازدھار وانتشار المذھب الفردي وتجسیده لإرادة وحریة الفرد ومصالحه في المجتمع، فكان یكفي لتكوین وإنشاء علاقة عقدیة وتحدید آثارھا أن یتطابق ویتوافق الإیجاب بالقبول، وبذلك صارت الإرادة الحرة المستقلة مصدر أللالتزامات الناشئة عن العلاقات التعاقدیة، ومنه وجب احترام وتقدیس حریة التعاقد والقوة الإلزامیة الناتجة عنھا.
إن مبدأ القوة الملزمة للعقد من المبادئ المستنتجة من مبدإ سلطان الإرادة، وھو بذلك من الآثار المترتبة عن التعاقد، فإذا نشأ العقد صحیحا بأركانه وشروطه ترتبت عنه التزامات وأصبحت واجبة التقدیس والتنفیذ، لا یمكن التنصل منھا أو المساس بھا سواء بالنسبة لأطرافه أو بالنسبة للغیر.
من ھذا المنطلق فإن موضوع بحثنا یتعلق بالقوة الملزمة للعقد كمبدإ وأثر مباشر للالتزامات العقدیة والبحث في أسسھا وحدودھا، وبما أن ذلك من صلب نظریة العقد فإنه لا محال من التطرق الى المواضیع التي اكتست أھمیة بالغة في ھذا المجال، فقد تناولھا شراح وفقھاء القانون بإسھاب، فكانت محل نقاشات فقھیة ونصوص تشریعیة وتطبیقات قضائیة. ومما لا شك فیه أن نظریة الالتزامات ومن ثم نظریة العقد في القانون المدني أخذت مكانة علمیة نظریة وعملیة مرموقة.
و لذلك فقد اعتنى بھا التشریع الوطني والمقارن بتنظیم أحكامھا وجعلھا المصدر الأول للالتزام.
فبعدما تكرست القوة الملزمة للعقد كمبدأ في ظل سیادة المذھب الفردي فإنھا اصطدمت بعالم من الاستثناءات في ظل سیادة المذھب الاجتماعي. فموضوعنا یعالج جزئیة مھمة من نظریة العقد المدني، إذ یتناول تأكید ھذا المبدأ وبیان طبیعته القانونیة من ماھیته وتحدید نطاقه والأسس المختلفة التي یرتكز علیھا وأھم آثاره وجزاءات الإخلال به .كما یتناول أھم القیود والاستثناءات الواردة على ھذا المبدأ كجانب تطبیقي، بدءا بدور الإرادة في إنھاء وتعدیل العلاقات التعاقدیة، وكذا تدخل كلا من المشرع والقاضي لموازنة الالتزامات وحمایة الطرف الضعیف فیھا، ثم التطرق لمبررات الحد من ھذا المبدأ.
غیر أنّ الأمور لا تسیر دائما كما یجب، فالعلاقات التعاقدیة قد تصطدم بعد إبرامھا بظروف مغایرة تحول دون تنفیذھا واستمرار مفعولھا حسب ما اتُفق علیه ووفق ما اتجھت إلیه إرادة المتعاقدین، حینھا یُثار التساؤل حول مدى ملائمة سلطان الإرادة للروابط العقدیة، وإمكانیة التلطیف من حدة مبدإ القوة الملزمة للعقد المتفرع عنه. بمعنى ما ھي الأسس التي یستمد منھا العقد قوته الملزمة؟ وما ھي الحدود التي تتوقف عندھا ھذه القوة الملزمة؟ وبصیغة أخرى، ھل القوة الملزمة للعقد مطلقة وثابتة، أم ھي نسبیة ومحدودة؟.
للإجابة عن ھذه الإشكالیة ارتأینا إعمال واعتماد المنھج المقارن في دراستنا ھاته، مع التركیز على الفقه والتشریع والقضاء، كما حاولنا أن نستعین بقواعد الفقه والشریعة الإسلامیة في بعض مراحل البحث لانسجامھا مع الموضوع وارتباطھا به تاریخیا، ولأنھا نظام متكامل وصالح لكل زمان ومكان . كما اتبعنا المنھج الوصفي والتحلیلي، لأننا بصدد الإحاطة بموضوع یتطلب استقراء بعض النصوص وتصنیفھا للوصول إلى قواعد وأحكام، وعرض الآراء وتحلیلھا وتعلیلھا وتوضیح غامضھا، وبیان المتناقض منھا وترجیح الآراء والتوفیق بینھا.
و لقد ارتأینا تناول ھذا العرض وذلك وفق التصمیم الآتي بیانه على الشكل التالي:
المبحث الأول: أساس القوة الملزمة للعقد.
المبحث الثاني: آثار القوة الملزمة للعقد.
المبحث الأول: أساس القوة الملزمة للعقد وحدودھا
إنه وكما ھو معلوم فإن العقد یعتبر كقاعدة عامة شریعة المتعاقدین أي أن المتعاقدان ھما اللذان یلتزمان بما اتفقا علیه وتسري آثاره علیھما فقط إلا أن ھذه القاعدة ترد علیھا استثناءات كما أنھا تترتب علیھا جزاءات عند الإخلال بھا.
إنه ولدراسة ھذا المبحث سنعمل على تقسیمه إلى مطلبین كالتالي:
المطلب الأول: العقد شریعة المتعاقدین
المطلب الثاني: الاستثناءات الواردة على مبدأ العقد شریعة المتعاقدین
المطلب الأول: العقد شریعة المتعاقدین
إن القوة الملزمة للعقد تجد أساسھا في إرادة المتعاقدین ویشترط في ھذه الإرادة أن تكون خالیة من العیوب التي تضرب بصحة العقد عرض الحائط وللتعمق في ھذا المطلب سنحاول تناوله في فقرتین حیث سنتناول في الفقرة الأولى إلى شروط الإرادة الصالحة للتعاقد على أن نتطرق في الفقرة الثانیة إلى نتائج صحة العقد.
الفقرة الأولى:شروط الإرادة الصالحة للتعاقد
إن الإرادة الصالحة للتعاقد ھي تلك الإرادة التي تخلو من العیوب التي تخل بصحة العقد ومن ھنا فإن الإرادة التي أتت غیر مشوبة بالعیوب الواردة في الفصل 39 من قانون الالتزامات والعقود[1]ھي التي تصلح وحدھا للتعاقد وتكون أساسا ملزما للعقد تجاه الأطراف. وإنه لمن الضروري الإشارة ولو بشكل مقتضب إلى ھذه العیوب التي تجعل الإرادة غیر صالحة في العقد وسنستھل دراسة ھذه العیوب بالغلط ثم التدلیس والإكراه.
أولا: الغلط:
یعتبر الغلط ھو عبارة عن وھم یتولد في دھن المتعاقد یجعله یتصور الأمر على غیر حقیقته فقد یتوھم شخص صحة واقعة ھي في الحقیقة غیر صحیحة، أو عدم صحة واقعیة ھي في الواقع صحیحة [2].
و الغلط الذي یعتبر عیبا ویجعل الإدارة غیر صالحة كأساس ملزم في العقد ھو ذلك الغلط المِؤثر.
و نجد أن المشرع قد تناول الغلط في الفصول من 40 إلى 45 من قانون الالتزامات والعقود وقد حدد حالات الغلط وھي كالتالي:
- الغلط في القانون
- الغلط في الشيء
- الغلط في شخص المتعاقد
- الغلط الواقع من الوسیط
- الغلط في الحساب
و ھنا یمكن القول بأنه إذا ثبت الغلط بالشروط الواردة في قانون الالتزامات والعقود فإن إرادة من وقع في الغلط تكون معیبة غیر صالحة لإنتاج الآثار المقصودة من العقد وبذلك تكون الإرادة أساسا ملزما للعقد.
ثانیا: التدلیس:
ینص الفصل 39 من قانون الالتزامات والعقود “ یكون قابلا للإبطال للرضا الصادر عن غلط، أو الناتج عن التدلیس، أو المنتزع
تم التطرق إلى التدلیس في قانون الالتزامات والعقود وذلك بعد أن تناول المشرع الغلط وھنا نجد المشرع قد حذا حذو القانون المدني الفرنسي حیث تناوله المشرع في فصلین ھما 52 والفصل 53 من القانون المدني المغربي.
و یمكن تعریف التدلیس بأنه “ الالتجاء إلى الحیلة والتضلیل والخداع بقصد إیقاع المتعاقد في غلط یدفعه غلى التعاقد “[3] كما عرفه الأستاذ المرحوم مأمون الكزبري “ التدلیس ھو استعمال خدیعة توقع الشخص في غلط یدفعه إلى التعاقد”.
و لكي یعتد بالتدلیس لا بد من توفر الشروط الآتیة:
- استعمال المدلس وسائل احتیالیة لتضلیل المدلس علیه
- كون ھذه الوسائل الاحتیالیة ھي التي دفعت المدلس علیه إلى التعاقد
- صدور التدلیس أو الوسائل الاحتیالیة عن المتعاقد الآخر أو كون ھذا المتعاقد على علم بھا.
ثالثا: الإكراه:
یعد الإكراه من بین العیوب التي تحول دون لعب الإرادة دور في بناء الأساس الملزم للعقد.
و قد عرفه المشرع في الفصل 46 من قانون الالتزامات والعقود بأن “ الإكراه إجبار یباشر من غیر أن یسمح به القانون یحمل بواسطته شخص شخص آخر أن یعمل عملا بدون رضاه“.
و قد عرفه بعض الفقه [4]“ الإكراه عبارة عن ضغط غیر مشروع یمارس على إرادة الشخص فیولد لدیه حالة من الرھبة والخوف الأمر الذي یحمله على التعاقد“.
و لكي یكون الإكراه عاملا في تعییب الإرادة ویخرجھا من الصحة لابد أن تتوفر فیه مجموعة من الشروط وھي على التوالي:
- التعاقد تحت سلطان الرھبة
- أن تكون الرھبة ھي التي حملت المكره على التعاقد
- اتصال الإكراه بالمتعاقد الآخر.
رابعا: الغبن:
یوجد في قانون الالتزامات والعقود إلى جانب الغلط والتدلیس والإكراه عیب الغبن، والغبن یتجسد في خسارة تلحق بالمتعاقد من جراء العقد وھو عبارة عن عدم التعادل بین ما یعطیه المتعاقد وما یأخذه [5]، وقد عرفه الفقیه مأمون الكزبري بأنه “ ھو التفاوت وانتفاء التوازن بین ما یعطیه العاقد وما یأخذه مقابل ما یعطیه في عقود المعارضة.”
و تنبغي الإشارة إلى أنه بالرجوع إلى مقتضیات الفصلین 55 و56 من قانون الالتزامات والعقود یتجلى لنا أن القاعدة في القانون المغربي أن الغبن المجرد عن التدلیس لا یخول طلب إبطال العقد لكن استثناء قد یعیب الإرادة. وفي ھذا الإطار سنشیر بشكل موجز إلى كل من القاعدة في الغبن وكذا الاستثناء على ھذه القاعدة.
- الغبن المجرد لا یخول طلب إبطال العقد:
المبدأ العام ان الغبن في التشریع المغربي لا یعیب العقود ولا یخول الإبطال لأن الحفاظ على التوازن الاقتصادي لأطراف العلاقة التعاقدیة موكول لمن له مصلحة وكل ما یتكلف به القانون ھو التوازن القانوني وقد حرص المشرع المغربي على التنصیص على ھذا المبدأ في القانون المدني في الفصل 55 والذي جاء فیه “ الغبن لا یخول الإبطال إلا إذا نتج عن تدلیس الطرف الآخر أو نائبه أو الشخص الذي تعامل من أجله وذلك ما عدا الاستثناء الوارد بعده “
- الغبن المقرون بالتدلیس یخول الإبطال
بالرجوع إلى الفصل 56 من قانون الالتزامات والعقود والذي جاء فیه "الغبن یخول الإبطال إذا كان الطرف قاصرا أو ناقص الأھلیة ولو تعاقد بمعونة وصیه أو مساعده القضائي وفقا للأوضاع التي یحددھا القانون ولو لم یكن تدلیس من الطرف الآخر ویعتبر غبنا كل فرق یزید عن الثلث بین الثمن المذكور في العقد والقیمة الحقیقیة للشيء"
انطلاقا من استقراء ھذا النص نجد أن المشرع أجاز إبطال العقد للغبن المجرد عن التدلیس استثناء، وذلك إذا لحق ھذا الغبن بالقاصر أو ناقص الأھلیة ولو تعاقد وفقا للأوضاع القانونیة، لكن یشترط ھنا أن یصل الغبن إلى الحد الذي یقرره المشرع في الفصل أعلاه وذلك بزیادة الثلث بین الثمن المذكور في العقد والقیمة الحقیقیة للشيء
الفقرة الثانیة: الإرادة أساس القوة الملزمة للعقد
إن الإرادة السلیمة التي تتحاشى العیوب التي سبق لنا وأسلفنا ذكرھا ھي التي ینتج عنھا ما یسمى بالعقد شریعة المتعاقدین.
و یقصد بھذا المبدأ ھو أن العقد منذ تمامه تصبح شروطه مقام القانون بالنسبة لعاقدیه فلا یستطیع أحدھما أن یستقل بتعدیل أو إنھاء العقد بإرادته المنفردة ویلزم لإحداث شيء من ذلك أن یتم الاتفاق المتبادل من لدن الطرفین معا إلا إذا جعل القانون لأحد الأطراف في حالات خاصة حقا في ذلك وفي ھذا السیاق نجد الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود المغربي ینص صراحة على “ الالتزامات التعاقدیة المنشأة على وجه صحیح تقوم مقام القانون بالنسبة لمنشئیھا ولا یجوز إلغائھا او تعدیلھا إلا برضاھما معا أو في الحالات المنصوص علیھا في القانون“.
و في نفس الإطار نجد نفس المنحى قد كرسه كل من التشریع الفرنسي في المادة
1134 من القانون المدني الفرنسي أنه "الاتفاقات التي تمت على وجه شرعي تقوم مقام القانون بالنسبة إلى عاقدیھا" وكذلك نجد المشرع المصري قد نص على ھذه القاعدة في المادة 147 من قانونه المدني حیث جاء فیھا "العقد شریعة المتعاقدین فلا یجوز نقضه ولا تعدیله إلا باتفاق الطرفین أو للأسباب التي یقررھا القانون" [6] ومن خلال ھذه النصوص التشریعیة فالمبدأ العام أن العقد ھو شریعة المتعاقدین وھذا یحتم عدم المساس بشروط العقد الذي توافقت إرادة كل من العاقدین على إنشائه بإرادة أحدھما المنفردة إلا أنه في بعض الأحیان یتضمن العقد نفسه شروطا یمنح عاقدیه أو أحدھما الرجوع عنه أو إجراء تعدیل في أحكامه وكمثال على ھذه الحالة سنذكر التعاقد بالعربون والذي خصصله المشرع الفصول من 288 إلى 290 [7].
و كمثال آخر على ذلك: الحالة التي یتضمن فیھا عقد الإیجار شرطا یخول للمستأجر إنھاء العقد قبل انتھاء مدته وفي ھذه الحالة لا توجد أیة صعوبة في الرجوع عن العقد أو إجراء التعدیل في أحكامه ممن یطول له ھذا الحق، إعمالا له فلیس في ذلك أي إخلال به.
و نجد الحالة التي لا یتضمن العقد عند إبرامه ما یخول لأطرافه أو أحدھما نقضه أو تعدیله، ولكن یتفق العاقدان كلاھما على شيء من ذلك في زمن لاحق [8].
و علیه یعتبر مبدأ القوة الملزمة للعقد من أھم النتائج المترتبة على مبدأ سلطان الإرادة فالأفراد لھم مطلق الحریة في إبرام ما شاؤوا من العقود بشرط احترامھم لمقتضیات النظام العام والأخلاق والآداب العامة وإذا حصل مثل ھذا الاتفاق بناء على ھذه الحریة فإن العقد یصبح بمثابة شریعة للمتعاقدین[9].
ومن خلال ما تقدم فالعقد أو الاتفاق طالما تم إبرامه على وجه شرعي،ینشئ بین عاقدیه التزامات تكون أشبه بالالتزامات التي یفرضھا القانون. لأجل ھذا فالمتعاقد لا یستطیع أن یتحلل من التزامه، إلا إذا قام اتفاق على ذلك وبین المتعاقد الآخر. ومن خلال تتبع مبدأ سلطان الإدارة في حقل الالتزامات والعقود المغربي نجد أن المشرع نظرا للانتقادات التي وجھت لمبدأ سلطان الإرادة تفادى عیوب مبدأ سلطان الإدارة وأعاد الأمور إلى نصابھا في مجالات عدة، فأقام نظریة الغبن في الفصلین 55 و56 حد من المبدأ أن العقد شریعة المتعاقدین كما نجد أن المشرع أعطى للمكتري حمایة قویة من تعسف المالك ومنح المحكمة سلطة تقدیریة في ھذا المجال ھدفه ھو تحقیق العدالة الاجتماعیة.
المطلب الثاني: حدود الإرادة كأساس ملزم للعقد
إنه وكما سبق الذكر فإن مبدأ العقد شریعة المتعاقدین یحول دون المراجعة الفردیة لبنود العقد إلا أن ھذا الأخیر یعرف حالات استثنائیة یحق فیھا لأحد المتعاقدین أو القاضي إدخال تعدیلات أو القیام بإلغاء بعض البنود وھناك العدید من الحالات لتدخل القضاء وللحدیث في ھذا الموضوع أكثر سنحاول التعرف على الحد من قاعدة العقد شریعة المتعاقدین بنص القانون (الفقرة الأولى) على أن نبین بعد ذلك الحالات التي یسمح فیه التشریع للقضاء بالتدخل في العقد (الفقرة الثانیة).
الفقرة الأولى: الحد من قاعدة العقد شریعة المتعاقدین بنص القانون
إنه حسب القاعدة العامة فإنه لا یمكن تعدیل العقد أو نقض أحكامه إلا بمقتضى اتفاق الأطراف إذ أنه لا یمكن لأحدھما أن یعدل أو أن ینقض العقد بإرادته المنفردة لأنه في ھذه الحالة یعتبر مخلا بالتزاماته وھنا تثور مسؤولیته العقدیة، إلا أنه استثناء یمكن الخروج عن ھذه القاعدة في مجموعة من الحالات التي یخول فیھا القانون لأحد الأطراف حق العدول عن العقد وھذا ھو الاستثناء الحقیقي لمبدأ العقد شریعة المتعاقدین [10].
ذلك أن تدخل المشرع یكون لوضع ضوابط لحریة التعاقد بحیث لا تمس حریة المتعاقدین في إطار ما یعرف بالنظام العام والآداب العامة من أجل حمایة الطرف الضعیف في العلاقة التعاقدیة الذي یحتاج إلى الحمایة من أجل المحافظة على الفائدة الاقتصادیة من العقد [11].
بالإضافة إلى ما سلف أعلاه یمكن القول على أن تدخل المشرع في بعض العقود بالنص على نظامھما یكون على سبیل الاحتیاط بمعنى أن القواعد التي یسنھا لا تحد من حریة المتعاقدین ولكنھا تكمل ھذه الحریة، فھي قواعد مكملة ولیست آمرة.
فإذا كان المشرع قد فرض القیود على الإرادة في مرحلة تكوین العقد فإنه في المقابل قد فرض قیودا أخرى على المرحلة التي تلي التكوین ألا وھي مرحلة التنفیذ.
إذن فالمشرع لم یكتفي بالتقیید من دور الإرادة في مرحلته تكوین العقد وإنشائه بل تدخلأیضا في العقود بعد إبرامھا وعدل أحیانا من شروطھا على حساب الإرادة.
و ھذا ما یفھم من نص الفصل 230 من قانون الالتزامات والعقود المغربي حیث أدخل القانون في عداد المؤسسات التي یمكن لھا التدخل في تنفیذ العقد عن طریق التعدیل أو الإنھاء إلى جانب مؤسسة الرضى الصادر عن المتعاقدین.
و قد جاء فیه ما یلي: "الالتزامات التعاقدیة المنشأة على وجه صحیح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئیھا ولا یجوز إلغائھا او تعدیلھا إلا برضاھما معا أو في الحالات المنصوص علیھا في القانون".
فنتیجة لعوامل اقتصادیة تدخل المشرع في العقود بعد تمامھا فقد أثرت السیاسة النقدیة في قیمة النقود وأدى التضخم إلى انخفاض القیمة الحقیقیة للنقود والذي أدى بدوره إلى انخفاض القیمة الحقیقیة لمحل الالتزام بدفع مبلغ من النقود. وإثر تأزم الأوضاع من جراء ذلك بدأت الدول بالتدخل لتوجیه سیاساتھا النقدیة من الحرب العالمیة الأولى وأحاطت الالتزامات بشبكة من القیود تحد من دور الإرادة [12].
و كمثال على ما قلناه نجد مجموعة من الحالات التي یخول فیھا القانون لأحد الأطراف أن یصل إلى نقض العقد أو إلى تعدیله برغم إرادة الطرف الآخر.
و في ھذا الإطار نورد ما جاء به المشرع المغربي في الفصل 794 من قانون الالتزامات والعقود حیث نص على “ لا یجوز للمودع عنده أن یجبر المودع على استرداد الودیعة قبل الأجل المتفق علیه، ما لم تدعه إلى ذلك مبررات خطیرة.
و لكن یجب علیه أن یرد الودیعة للمودع بمجرد أن یطلب ھذا منه ردھا ولو كان الاتفاق قد حدد أجلا معینا لرد الودیعة “.
من خلال ھذا الفصل یمكن القول بأن المشرع قد منح الحق للمودع باسترداد الشيء المودع بقوة القانون عند طلبه لھذا الشيء المودع ولو كان العاقدان قد اتفقا على أجل محدد لرد الودیعة وبھذا یكون المودع له الحریة في إنھاء عقد الودیعة وقت ما شاء. ذلك أنه بمجرد رد الشيء المودع من المودع عنده ینتھي العقد الرابط بینھما.
كذلك نجد أن الفصل 931 من قانون الالتزامات والعقود یعطي الإمكانیة للموكل إنھاء عقد الوكالة وقت ما شاء دون اعتبار لشریعة المتعاقدین حیث جاء فیه “ للموكل أن یلغي الوكالة متى شاء وكل شرط مخالف لذلك یكون عدیم الأثر“.
و علیه فإنه في حالة نقض العقد بالإرادة المنفردة لأحد المتعاقدین لابد من أن یكون نص صریح یخول ھذه الإمكانیة للمتعاقد، أما في حالة عدم وجود ھذا النص یرجع إلى المبدأ السابق الذكر ألا وھو العقد شریعة المتعاقدین.
الفقرة الثالثة: التدخل القضائي في الحد من مبدأ العقد شریعة المتعاقدین
إذا كان مبدأ العقد شریعة المتعاقدین كما سبق القول أنه یحول دون المراجعة الفردیة لبنود العقد ورأینا بأنه في حالات معینة یمكن للمشرع التدخل للحد من ھذا المبدأ فإنه كما یمكن أن یكون القانون كحد لمبدأ العقد شریعة المتعاقدین فإن القضاء بدوره ومن خلال عمله یمكن أن یكون حدا لھذا المبدأ وھنا نورد حالتین یمكن فیھما للقضاء لعب دور في تنفیذ العقود والأمر یتعلق ھنا بحالة تدخل القضاء لتمتیع المدین بمھلة المیسرة (أولا) وحالة تدخله للتخفیف من الشروط التعسفیة (ثانیا)
أولا: تدخل القضاء لتمتیع المدین بمھلة المیسرة:
ھنالك بعض الحالات التي یكون فیھا سند الدین محددا من حیث تاریخ الأداء والاستحقاق وھذا الوضع یمكن الدائن من سلوك المسطرة الاستعجالیة لاستصدار الأمر بالأداء في إطار مقتضیات الفصول 155 إلى [13]165، إلا أن الأمر لیس كما ھو علیه دائما فإنه یمكن للمحاكم الابتدائیة أن تقوم بإعطاء أجل قصد وفاء المدین بالدین العالق في ذمته وذلك بعد مراعاتھا لمركز المدین وظروفه،و ھذا ما یفھم من نص الفصل 243 من قانون الالتزامات والعقود المغربي الذي جاء فیه “ إذا لم یكن ھناك مدین واحد، لم یجبر الدائن على أن یستوفي الالتزام على أجزاء، ولو كان ھذا الالتزام قابلا للتجزئة، وذلك ما لم یتفق على خلافه إلا إذا تعلق الأمر بالكمبیالات.
و مع ذلك یسوغ للقضاة، مراعاة منھم لمركز المدین، ومع استعمال ھذه السلطة في نطاقضیق، أن یمنحوه آجالا معتدلة للوفاء ...”
و ھنا یمكن القول أن المشرع أعطى للقضاء السلطة التقدیریة للعمل على التخفیف من عبء المدین لكنه لم یفتح له الباب على مصراعیه بل حد من سلطته التقدیریة ولم یجعلھا ھذه المرة سلطة واسعة بل قیدھا في حدود ضیقة حسب ما ھو منصوص علیه في الفصل المذكور أعلاه.
إذن فإن مھلة المیسرة یمكن منحھا من طرف قاضي الموضوع بطلب من المدین ویمكن أن یمنحھا القضاء من تلقاء نفسه متى اتضح له ذلك من ظروف النزاع، وھي مھلة یمكن أن تمنح في أي درجة من درجات التقاضي [14].
و في نفس السیاق أوردت أستاذتنا أمینة آیت حسین في مؤلفھا قول الأستاذ عبد الرزاق السنھوري حیث یقول “ إن العناصر الرئیسیة التي یقدر القاضي بمقتضاھا حالة المدین لیعترف ھل تستدعي ھذه الحالة نظرة میسرة، ھي حسن نیة المدین ورغبته في الوفاء بدینه،و أن الضیق الذي أحاط به أمر مؤقت وأن موارده كافیة في النھایة للوفاء بدینه، وأنه یتخذ من التدابیر ما ییسر له ھذا الوفاء وأنه فعل ما أمكنه الوفاء به وأن الوفاء فورا بكل الدین یلحق به ضررا جسیما وأنه قدم للدائن الضمان الكافي للحصول على حقه “.
من خلال ما تقدم فالقاضي ملزم بمراعاة ظروف المدین حسب الفقرة الثانیة من الفصل أعلاه من قانون الالتزامات والعقود المغربي، وذلك لمنحه أجلا للوفاء بما في ذمته تجاه الدائن لكن علیه كذلك التأكد مدى توفر الشروط في المدین للوفاء أي كونه حسن النیة وأنه یرغب في الوفاء وغیرھا من الشروط وھذا لكي لا یتعسف في حق الدائن الذي یطلب الوفاء بدینه الذي في ذمة المدین.
ثانیا: تدخل القضاء للتخفیف من الشروط التعسفیة
بما أن المشرع المغربي لم یتطرق إلى نظریة الظروف الطارئة وعلیه لم یمنح القاضي حق التدخل في تعدیل العقد فإنه في المقابل قد منحه إمكانیة أخرى للتدخل فیه وذلك عن طریق التدخل من أجل الحد من الشروط التعسفیة بالإضافة إلى الإمكانیة الأخرى التي منحھا إیاه والتي سبق لنا تناولھا والأمر یتعلق بالتدخل لمنح مھلة المیسرة.
و ما قلناه أعلاه ھو ما سارت علیه مجموعة من التشریعات حیث أن مجلس أوربا قد أصدر مذكرة توجیھیة إلى الدول الأعضاء بتاریخ 5 نیسان 1993 تتعلق البنود التعسفیة الواردة في العقود المجراة مع المستھلكین یدعوھا موجھا إلى سن قوانین أو إصدار مراسیم أو قرارات تتوافق مع مضمونھا، وقد حددت المذكرة العقود التي یمكن النظر في بنودھا التعسفیة التي لم تكن موضوع مفاوضات شخصیة أي الموضوعة من قبل أحد أطرافھا، كما حددت مفھوم البند التعسفي بأنه “ البند الذي یحدث وضعا غیر متوازن بصورة بینة في الحقوق والالتزامات الناتجة عن عقد خلافا لمصلحة المستھلك “ [15].
و كما ھو معلوم فالقانون یسایر التطورات التي یعرفھا المجتمع إذ أن قاعدته لیست جامدة بل ھي ذات طابع مرن وھذا ما أكده المشرع المغربي الذي سایر التطورات التي عرفتھا نظریة العقد حیث أصدر قانون 08-31 المتعلق بحمایة المستھلك الذي اتخذ فیه جملة من التدابیر اللازمة لحمایة المستھلك ضد تجاوزات المھنیین.
و من ھذا المنطلق فإنه یمكن القول أن المشرع المغربي قد خطى خطوة إیجابیة إلى الأمام وذلك بتمكینه لجھاز القضاء من التدخل في المنازعات الاستھلاكیة بھدف خلق توازن لھذه العلاقة الغیر متوازنة في أصلھا، إنه وحسب ھذا القانون نجده قد مكن المحكمة من تأویل الشك لصالح المستھلك.
و في نفس الإطار یمكننا أن نورد ما نص علیه المشرع في الفصل 264 الذي أعطى الحق للقضاء للتحقیق من شروط التعویض المتعسف فیھا والمدرجة في العقد حیث جاء فیه ما یلي “ یمكن للمحكمة تخفیض التعویض المتفق علیه إذا كان مبالغا فیه أو الرفع من قیمته إذا كان زھیدا، ولھا أیضا أن تخفض من التعویض المتفق علیه بنسبة النفع الذي عاد على الدائن من جراء التنفیذ الجزئي.”
من خلال ھذا الفصل یمكن القول بأن المشرع قد أعطى للمحكمة سلطة تقدیریة في التخفیف من الشرط الذي قد یورده الدائن لصالحه على حساب المدین، وقد حسن صنیع المشرع في ھذا الصدد ذلك أن مثل ھذه الشروط التعسفیة ھي التي تكون السبب في اختلال التوازن في شتى العقود.
ثالثا: تدخل القضاء في إطار الظروف الطارئة
و قد ارتأینا تناول ھذه النظریة كآخر استثناء یرد على الإرادة كأساس للقوة الملزمة للعقد وذلك بالنسبة للتشریعات التي أخذت بھذه النظریة حیث یتمكن القاضي من مراجعة بنود العقد عندما یثبت لدیه بأن للاسثمرار في تنفیذ الالتزامات الملقاة على عاتق المدین أصبح مرھقا لھذا الأخیر [16].
و ما تجدر الإشارة إلیه في ھذا الصدد أن المشرع المغربي لم یأخذ بھذه النظریة عكس ما علیه بعض التشریعات التي أخذت بھا ومن ھذه التشریعات نقف عند التشریع المدني الإیطالي والذي أخذ بھا في الفصل 1467 الذي جاء فیه ما یلي “ في العقود المستمرة أو الدوریة أو المؤجلة التنفیذ، إذا أضحى التزام أحد المتعاقدین مرھقا إرھاقا فاحشا بسب حوادث استثنائیة جاز للمتعاقد المدین بھذا الالتزام أن یطلب فسخ العقد وللمتعاقد الآخر أن یدرأ طلب الفسخ بأن یعرض تعدیلا لشروط العقد بما یتعلق مع العدالة”.
كذلك نجد من التشریعات العربیة من أخذ بھذه النظریة حیث أعملھا المشرع المصري في الفصل 147 من قانونه المدني.
لكن رغم ذلك فإن الاعتقاد الرائج في ھذا السیاق بخصوص ھذه النظریة ھو أن ھذه الأخیرة تتقاطع مع مبدأ سلطان الإرادة والتي یؤدي إعمالھا إلى ھدم ھذا المبدأ.
المبحث الثاني: آثار القوة الملزمة للعقد
إن انعقاد العقد صحیحا مستوفیا لكل أركانه وشروطه یجعل منه شریعة في مواجھة طرفیه حیث تنصرف إلیھما آثاره دون أن تتعداھما - كقاعدة عامة – إلى الغیر وھذا ما یعرف بمبدأ نسبیة آثار العقد.
أي أن آثار العقد تقتصر على طرفیه وعدم انصرافھا إلى الغیر إلا في حالات معینة وضمن حدود محددة، ومن جھة ثانیة عدم إمكانیة إلزام الأطراف المتعاقدة إلا بما تضمنه العقد أو تفرضه طبیعة المعاملة أي بعبارة أخرى فإن القوة الملزمة للعقد لیس لھا أثر إلا على المتعاقدین ومن في حكمھم ولما كان الأمر كذلك فإن تناول موضوع نسبیة آثار العقد له أھمیة بالغة تتجلى بالأساس في تحدید مدى نسبیة آثار العقد سواء بالنسبة للأشخاص أو الموضوع إذ أن المبدأ ھو " العقد شریعة المتعاقدین " فلا یستطیع أحدھما بحسب الأصل أن ینقضه أو یعدل في أحكامه، ما لم یسمح له به القانون كما لا یمكن أن تنصرف آثاره إلى غیره.
لكن تطور المعاملات وما یفرضه ذلك من ضرورة الحفاظ على استقرارھا أفرز مظاھر جدیدة لتصرفات عقدیة تعتبرعلى أنھا خروج عما كرسه ھذا المبدأ.
و أمام كل ھذا وذاك. یحق لنا أن نتساءل عن: ما ھي تجلیات مبدأ نسبیة آثار العقد من حیث الأشخاص؟ وما ھي مظاھر ھذا المبدأ من حیث موضوع العقد؟
المطلب الأول: آثار العقد من حیث الأشخاص والموضوع.
عندما یكون العقد صحیحا ومستوفیا لشروطه فإنه ینتج آثاره في مواجھة أطرافه وھذا ما یعرف بمبدأ ھام یسمى " مبدأ نسبیة أثر العقد Principe de la relativité (الفقرة الأولى) وطبقا لمبدأ سلطان الإرادة تنشأ العقود، وعملا بمبدأ المتعاقدین تحدد التزامات المتعاقدین ویلتزم الأطراف بكل ما جاء في موضوع العقد الذي تم إبرامه (الفقرة الثانیة)
الفقرة الأولى: آثار العقد من حیث الأشخاص.
من القواعد الكلیة أن العقد ینتج آثاره بین المتعاقدین وأنه لا ینتج آثاره بالنسبة للغیر إلا على وجه استثنائي. ویقصد بالمتعاقدین الأشخاص الذین كانوا طرفا في العقد بأشخاصھم أو بمن یمثلونھم [17].
یتبین من الفصل 230 من ق ل ع على أن “ الالتزامات التعاقدیة المنشأة على وجه صحیح تقوم مقام القانون بالنسبة إلى منشئیھا ولا یجوز إلغائھا إلا برضاھما معا أو في الحالات المنصوص علیھا في القانون“.
أي أن العقد نسبي في آثاره حیث أن قوته الملزمة لا تتعدى المتعاقدین إذ لا یتلقى الغیر حقوقا ولا یتحمل التزامات بمقتضى عقد لم یكن طرفا فیه، لأن الأصل أن ھذه الحقوق والالتزامات تتصرف إلى ذمة المتعاقدین دون سواھما، كما أن العقد لا یفید ولا یضر غیر طرفیه [18].
و على ھذا الأساس فإن القوة الملزمة للعقد من حیث الأشخاص لا تنحصر بین طرفي العلاقة العقدیة فحسب، بل تمتد إلى خلفھما [19] من جھة، وإلى الغیر [20] من جھة أخرى.
أولا: الخلف العام:Successeur à Titre Universelle
یقصد بالخلف العام بأنه من یخلف سلفه في كامل ذمة ذلك السلف أو في جزء شائع منھا أي في حصة نسبیة منھا [21]، وقد قرر المشرع المغربي ھذه القاعدة وذلك من خلال الفصل 229 من ق.ل.ع حیث جاء في مضمونه على أن آثار العقد ینسحب إلى المتعاقدین والخلف العام دون المساس بالقواعد المتعلقة بالمیراث.
و مفاد ذلك أن الحقوق التي ینشئھا العقد تنتقل إلى الوارث بعد موت الموروث المتعاقد،أما الالتزامات فتقرر بشأنھا الشریعة الإسلامیة أنه " لا تركة إلا بعد سداد الدین " أي أن الالتزام یبقى في التركة ولا تنتقل ھذه الأخیرة إلى ذمة الوارث حتى ینقضي ھذا الالتزام وتكون التركة طاھرة من أي التزام [22].
غیر أن ھناك حالات استثنائیة لا یسري فھا أثر العقد على الخلف العام وھي:
إرادة المتعاقدین.
طبقا لمبدأ العقد شریعة المتعاقدین فإنه یمكن للمتعاقدین وقت إبرام العقد الاشتراط في صلبه على آثار العقد لا ینتقل من العاقد إلى خلفه ما دام ذلك الشرط غیر مخالف للنظام العام.
حالة طبیعة العقد.
قد تكون كذلك طبیعة العقد ألا تنصرف آثره إلى الخلف العام ومثال على ذلك الإیراد المرتب لمدى الحیاة وأن لا ینتقل بالتالي إلى الخلف العام لھذا الدائن.
بنص القانون.
یمكن كذلك أن یتدخل المشرع بنص صریح یقضي بعدم انتقال آثار العقد إلى الخلف وبالتالي فإنه لا یمكن للأطراف الاتفاق على خلاف ذلك وإلا سوف یكون ھذا الاتفاق مخالف للنظام العام. ومن ذلك ما نص علیه الفصل229 من ق.ل.ع.
ثانیا: الخلف الخاص.
یقصد بالخلف الخاص من یتلقى من سلفه حقا معینا كان قائما في ذمة ھذا السلف.
سواء كان ھذا الحق عینیا كما في الحق الذي ینتقل إلى المشتري أو الموھوب له أو الموصى له بعین معینة أو حقا شخصیا كما في الحق الذي ینتقل إلى المحیل إلى المحال إلیه [23].
و من أھم المبادئ التي تحكم أثر العقد بالنسبة للخلف الخاص، ھي أن الشخص لا یستطیع أن ینقل لغیره أكثر مما یملك، أي أن الشيء أو الحق ینتقل إلى الخلف الخاص وفقا للحالة التي كان علیھا في ذمة سلفه [24].
ثم من المبادئ كذلك أن الشيء أو الحق إذا انتقل من سلف إلى خلف فھو ینتقل بسائر ما یتمتع به من ممیزات وضمانات.
ثالثا: الدائنین.
لقد نصت المادة 1241 من ق.ل.ع على ان اموال المدین ضمان عام لدائنیه فقررت أن “ أموال المدین ضمان عام لدائنیه ویوزع ثمنھا علیھم بنسبة دین كل واحد منھم...”، أي أن التصرفات التي قد جریھا المدین تكون ساریة في وجه دائنه إذ أن ھذه التصرفات ینعكس على ھذا الأخیر سلبا وإیجابا حسب ما إذا كان من شأنه الانتقاص أو الزیادة في ذمة المالیة للمدین.
و القاعدة أن للمدین كافة الحریة في التصرف في ماله على الصورة التي یریدھا وأن الدائن لیس له أن یناقش أو یعارض ھذا التصرف حتى لو أنقص من ضمانه العام [25].
و في المقابل منح المشرع المغربي الدائن مجموعة من الوسائل القانونیة لحمایته من التصرفات الضارة به والتي قد تصدر من المدین قصد الإضرار بدائنه ومن بین ھذه الوسائل نذكر دعوى الصوریة ودعوى توقیع الحجز التحفظي.
1) الصوریة .Simulation
الصوریة ھي توافق إرادتین على إخفاء ما اتفقا علیه سرا تحت ستار عقد ظاھر لا ترتضیان حكمه [26]، وقد نص المشرع المغربي على ھذه الوسیلة القانونیة في الفصل 22 من ق.ل.ع، فالدعوى الصوریة تخول للدائن حق الطعن في العقد الذي أبرمه مدینه بشكل صوري للإضرار بدائنه فقط ینقص الذمة المالیة له. فالدائن بواسطة ھذه الدعوى یعمل على الكشف على الحقیقة التي أراد المدین إخفائھا[27].
2) دعوى توقیع الحجز التحفظي
من الوسائل التي منحھا القانون كذلك للدائن حق إلقاء الحجز التحفظي على أموال مدینه وقد نص علیھا المشرع من خلال الفصل 138 من ق.ل.ع حیث أعطى للدائن إقامة الحجز التحفظي وذلك من أجل منع المدین من التصرف في الأموال المراد الحجز علیھا.
3) حق الحبس
لقد عرف المشرع حق الحبس في الفصل 291 من ق.ل.ع بأنه “ حق حیازة الشيء المملوك للمدین وعدم التخلي عنه إلا بعد وفاء ما ھو مستحق للدائن ولا یمكن أن یباشر إلا في الأحوال الخاصة التي یقررھا القانون “.
فبالرجوع إلى ھذا التعریف یمكن القول بأن للدائن حق حبس أموال المدین إذا كانت بحوزته إلى أن یتمكن من استیفاء حقه.
رابعا: آثار العقد بالنسبة إلى الغیر
المقصود بالغیر ھو كل شخص أجنبي عن حلقة المتعاقدین ولا تربطه بھما أي رابطة إلزامیة، أي أن الغیر لا یصبح دائنا ولا مدینا بعقد یبرمه متعاقدان آخران.
غیر أن ھناك حالات یمكن فیھا على وجه استثنائي جعل الغیر یكسب حقوقا بعقد لم یكن فیھا طرفا:
1) الالتزام عن الغیر على شرط إقراره.
لقد نص المشرع على أحكام ھذا الالتزام من خلال الفصول من 36 إلى 38 من ق.ل.ع: ویقصد به أن یلتزم شخص باسم غیره شرط أن یقر ھذا الغیر الالتزام.
و تتحقق ھذه الصورة عندما یتصرف شخص عن شخص آخر دون أن یكون وكیلا إما لأنه وكیل وتجاوز حدود وكالته وإما لأنه غیر وكیل أصلا ولكن تربطه بمن یتصرف عنه صلة خاصة تجعله موقن بأنه سیقر تصرفه [28].
2) التعھد عن الغیر.
یقصد بالتعھد عن الغیر ذلك العقد الذي بین شخصین بمقتضاه یلتزم أحدھما وھو " المتعاقد " بأن یجعل شخصا ثالثا یلتزم في مواجھة المتعاقد معه [29].
و إذا كان المشرع المغربي قد أقر صراحة الالتزام عن الغیر شرط إقراره إیاه فإنه وبخلاف جل التشریعات المقارنة كالتشریع المصري الجدید في مادته [30]153 لم یقر صراحة " التعھد عن الغیر " لكن ورغم ذلك فإن الفقه القانوني قد أجمع على إمكانیة الأخذ به طالما لیس فیه ما یخالف النظام العام .
الفقرة الثانیة: آثار العقد من حیث الموضوع.
لكي یلتزم المتعاقدان ینبغي تحدید نطاق العقد المبرم بینھما ومادام أن العقد نسبي من حیث المضمون فلا یلزم إلا بما ورد فیه، وبیان نطاق العقد ومداه یستلزم تفسیره إذا كان في حاجة إلى ذلك وقد تطرق المشرع المغربي إلى تفسیر العقود في الفرع الأول من الباب الثاني من القسم السابع من الكتاب الأول من ق.ل.ع تحت عنوان تأویلات الاتفاقات:
و یقصد بتفسیر العقود Interprétation des Contrats أو بتأویلھا حسب التعبیر الذي اعتقده المشرع المغربي التعرف غلى مراد المتعاقدین المشترك ومقصدھم من خلال العبارة التي استعملوھا في التعبیر عن الإرادة [31] أي تفسیر إرادة المتعاقدین من خلال نصوص وشروط العقد القائم بینھما، وھذا التفسیر له قواعد یجب إتباعھا من قبل القاضي وذلك من أجل الوقوف على حقیقة ما قصد إلیه المتعاقدان.
و بالرجوع إلى المقتضیات المنظمة في ھذا الفرع نجد المشرع قد تطرق لثلاث حالات في تفسیر العقود:
1) عبارة العقد الواضحة:
إن وضوح عبارة العقد لا یعني عدم جواز تفسیرھا إذ أن المطلوب ھو الوصول إلى وضوح نیة المتعاقدین في العقد ولیس وضوح العبارة في ذاتھا حیث یمكن أن تكون العبارة في ذاتھا واضحة لكن الظروف تدل على أن المتعاقدین أساءا استعمال ھذا التعبیر الواضح [32].
و حسب الفصل 461 من ق.ل.ع ادا كانت ألفاظ العقد صریحة، امتنع البحث عن قصد صاحبھا.
2) عبارة العقد الغامضة:
لقد تعرض المشرع المغربي لحالات غموض عبارة العقد في الفصل 462 من ق.ل.ع حیث یكون العقد في ھذه الحالة في حاجة إلى التفسیر ومن ھذه الحالات:
إذا كانت الألفاظ المستعملة لا یتأتى التوفیق بینھا وبین الغرض الواضح الذي قصده المتعاقدین عند تحریر العقد. ففي ھذه الحالة یتحرر القاضي من الألفاظ المستعملة ویقرر العمل بنیتھما الحقیقیة [33].
إذا كانت الألفاظ المستعملة غیر واضحة بنفسھا أو كانت لا تعبر تعبیرا كاملا عن قصد صاحبھا.
إذا كان الغموض ناشئا عن مقارنة بنود العقد المختلفة بحیث تثیر الشك حول مدلول تلك البنود.
و تطبیقا لقاعدة العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، فإن القاضي إذا وجد في العقد ما یستلزم تفسیره التزم بالتحري عن إرادة المتعاقدین الحقیقیة وفي ھذا الصدد قرر المجلس الأعلى " أن لمحكمة الموضوع الحق في أن لا تعتد في العقود إلا معناھا لا مبناھا وأنھا حینما تقرر أن العقد المبرم بین الطرفین عقد كراء لا عقد شركة تصحح الوضع بالنسبة للتعبیر الفاسد [34].
و من أجل تسھیل مھمة القاضي في ھذا المضمار وضع المشرع مجموعة من القواعد لتفسیر العقد الغامض العبارة حددھا في الفصول من 463 إلى 473 من ق.ل.ع. ویتولى القاضي بعد انتھائه من عملیة التفسیر إذا كان ھناك ما یستلزمھا تحدید نطاق العقد ولتحدد نطاق العقد یقتضي أولا معرفة ماھیة العقد أي إعطائه الوصف القانوني الذي یتفق وما انصرفت إلیه الإرادة المشتركة للمتعاقدین وھذه العملیة (تكیف العقد) تعتبر مسألة قانونیة یقوم بھا القاضي دون التقید بالوصف الذي أعطاه له المتعاقدین...و قاضي الموضوع یقوم بھذه العملیة من تلقاء نفسه حتى ولو لم یطلب منه ذلك.
3) حالة الشك.
في بعض الحالات قد یتعذر ترجیح أحد المعاني التي تحملھا العبارة، وفي ھذه الحالة فإن الفصل 473 من ق.ل.ع جاء بجواب لھذه الحالة حیث ینص على أنه “عند الشك یؤول الالتزام بالمعنى الأكثر فائدة للملتزم“ وفي ھذا الصدد قال الفقیه أحمد حسن البرعي: “ أن الأصل ھو براءة الذمة والاستثناء أن یكون الشخص ملتزما. والقاعدة أن الاستثناء لا یتوسع فیه “[35].
المطلب الثاني: جزاءات الإخلال بالقوة الملزمة للعقد.
في حالة إخلال المدین بالتزاماته اتجاه الدائن فإن لھذا الأخیر الحق في نھج عدة خیارات لاستیفاء حقوقه، ومن بینھا المطالبة بالتنفیذ العیني وما قد یعقب ذلك من تنفیذ جبري وترتیب المسؤولیة العقدیة التي تخضع لقواعد خاصة، ناھیك عن حق الدائن في الرجوع على المدین بدعوى التعویض بسبب خطئه.
كما یمكنه أیضا المطالبة بفسخ العقد أو الدفع بعدم التنفیذ في العقود الملزمة للجانبین كلھا سبل من شأنھا أن تسھل للدائن الحق في استفاء دینه وتجعل المدین یوفي بالتزاماته وفي ھذا السیاق سوف نتعرض لھذه الحالات كجزاءات مقررة للإخلال بالقوة الملزمة للعقد الملزم للجانبین في الفقرتین الآتیتین:
الفقرة الأولى: حل الرابطة العقدیة بالفسخ.
إن طلب الفسخ حق لأحد المتعاقدین في العقد الملزم للجانبین كجزاء، عن عدم تنفیذ أحد الطرفین لإلتزاماته ومساسه بحرمة الرابطة العقدیة. ویعرف الفسخ لغة: بأنه فسخ الأمر أو العقد أي نقضه، أما الفسخ قانونا فیتمثل في الجزاء المترتب نتیجة عدم قیام أحد طرفي العقد بتنفیذ التزاماته مع استعداد طالب الفسخ لتنفیذ ذلك الالتزام [36].
و في ھذا الصدد جاء الفصل 259 من قانون الالتزامات والعقود “ إذا كان المدین في حالة مطل كان للدائن الحق في إجباره على الالتزام مادام تنفیذه ممكنا فإن لم یكن ممكنا جاز للدائن أن یطلب فسخ العقد وله الحق في التعویض في الحالتین...”
و في نفس الإطار نجد أن المشرع المصري یسیر في نھج مشرعنا المغربي حیث أن بالرجوع إلى المادة 157 من القانون المدني المصري التي نصت على أنه “ في العقود الملزمة للجانبین إذا لم یوفي أحد المتعاقدین بالتزامه جاز للمتعاقد الآخر بعد إعذاره المدین، أن یطالب بتنفیذ العقد أو بفسخه، مع التعویض في الحالتین إذا كان له مقتض
ویجوز للقاضي أن یمنح المدین أجلا إذا اقتضت الظروف ذلك كما یجوز له أن یرفض الفسخ إذا ما لم یوف به المدین قلیل الأھمیة بالنسبة للالتزام في جملته.”
ومن خلال ما سلف یستنتج على أن الفسخ لا یكون إلا في العقود الملزمة للجانبین وأن یكون أحد المتعاقدین قد أخل فعلا بالتزاماته وأن یكون المتعاقد الآخر قد نفذ التزاماته.
أولا: الفسخ القضائي.
یملك القاضي سلطة تقدیریة واسعة وھو یفصل في دعوى الفسخ التي تستھدف حل القوة الملزمة للعقد، ویعتبر الفسخ القضائي (Résolution Judiciaire) من أبرز صور أنظمة الفسخ المتعارف علیھا فھو بمثابة القاعدة العامة في میدان انحلال العقود وزوالھا، إذ أن معظم حالات إقرار الفسخ تتم عن طریق القضاء [37] ولا یقع الفسخ القضائي إلا بتوفر شروطه ذلك لكي تصدر المحكمة قرار الفسخ فإنه یتعین في العقد موضوع النزاع أن یكون ملزما للجانبین وھذا ھو(الشرط الأول) وأن یحصل الإخلال في تنفیذ الالتزام الملقى على عاتق أحد الطرفین وھذا ھو(الشرط الثاني) أما (الشرط لثالث) والأخیر فھو ضرورة أن یكون ھناك إخطار قانوني موجه إلى الطرف الذيتماطل في تنفیذ التزامه.
الشرط الأول: تعلق الأمر بعقد ملزم لجانبین:
و كما سبقت الإشارة إلى ھذا الشرط فإن مؤسسة الفسخ ترتبط في الأصل بالعقود الملزمة للجانبین وبمفھوم المخالفة فإن العقود التي لا تلزم إلا طرفا واحدا وكذا تصرفات الإرادة المنفردة لا تكون قابلة للفسخ، وذلك راجع إلى أن الدائن في مثل ھاته العقود لا یتحمل بأي التزام مقابل عكس ما علیه الأمر في العقود الملزمة للجانبین.
الشرط الثاني: أن یحصل الإخلال أو التماطل في تنفیذ الالتزامات المتقابلة:
و یعني ھذا الشرط أن یتعلق الأمر بالالتزامات المتقابلة وأبسط مثال على ذلك ھو عقد البیع حیث نجد كل من البائع والمشتري تقع على عاتقھما التزامات متقابلة فالبائع ملزم بنقل الملكیة أو التسلیم وعلى المشتري آداء الثمن.
الشرط الثالث: ضرورة وضع المدین في حالة مطل:
حیث أنه لكي تكون دعوى المطالبة بالفسخ مقبولة فإنه یتعین إخطار المدین أو الدائن في حالة مطل على أن ھذا الالتزام (الإخطار) لا یقع على المدین وحده بل یشمل حتى الدائن وھذا ما یستنتج من الفصل 270 [38] من قانون الالتزامات والعقود.
و من خلال ما تقدم فإنه لكي تصدر المحكمة قرار الفسخ فإنه لابد من توفر ھذه الشروط الثلاثة كما أسلفنا ذكرھا أعلاه.
ثانیا: الفسخ الاتفاقي:
قد یتفق المتعاقدان على أن یعتبر العقد مفسوخا إذا لم ینفذ أحد المتعاقدین التزامه وذلك إعمالا للقواعد العامة للفسخ لعدم التنفیذ.
و ھذا النوع من الفسخ لا یتحقق أو لا یتقرر إلا بناء على اتفاق الأطراف على إدراج شرط فاسخ صریح في العقد وقد أشار قانون الالتزامات والعقود إلى جواز مثل ھذا
الاتفاق في الفصل 260 والذي جاء فیھ: “ إذا اتفق المتعاقدان على أن العقد یفسخ عند عدم وفاء أحدھما بالتزاماته وقع الفسخ بقوة القانون بمجرد عدم الوفاء “ [39].
و من تطبیقات ھذه القاعدة في میدان عقد البیع نجد حالة الفصل 581 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء فیھ: “ أنه إذا اشترط بمقتضى العقد أو العرف المحلي أن البیع یفسخ إذا لم یؤدى الثمن فإن العقد ینفسخ بقوة القانون بمجرد عدم أداء الثمن في الآجال المتفق علیه “.
الفقرة الثانیة: الدفع بعدم التنفیذ
تكون ھذه الحالة كما ھو الحال مع ما سبق ذكره في الفسخ على ید القضاء في العقود الملزمة للجانبین، ومعناه أن للمتعاقد حق الامتناع عن تنفیذ التزاماته إذا أخل المتعاقد معه في ذات العلاقة العقدیة بتنفیذ تعھداته أي أن الدائن یمكنه الامتناع عن تنفیذ التزاماته تجاه الطرف الآخر حتى یقوم ھذا الأخیر بتنفیذ ما علیه من التزامات إزاء الطرف الأول وذلك كالبیع والمعاوضة [40]. ویتجلى الغرض من ھذا الإجراء، ھو الضغط على الممتنع قصد التنفیذ كھدف أساسي قبل طلب الفسخ وقد عرف الدفع بعدم التنفیذ منذ عھد القانون الكنسي على أساس المبدأ الشائع أنذاك.
أولا: الخصائص والشروط.
و یتمیز نظام الدفع بعدم التنفیذ بمجموعة من الخصائص وھي كالتالي:
أن الدفع بعدم التنفیذ یتم بطریقة تلقائیة دون الحاجة إلى اللجوء إلى الإجراءات القضائیة كرفع الدعوى والاستماع إلى الشھود إلى غیر ذلك من الإجراءات.
إذا كان الدفع بعدم التنفیذ كما قلنا سابقا یتم بطریقة تلقائیة دون حاجة إلى اللجوء إلى القضاء فإن ھذا لا یتعارض مع المبدأ القائل بأن الفرد لا یحق له أن یحصل على حقه بنفسه.
إن الھدف الذي یھدف إلیه الدفع بعدم التنفیذ ھو وقف تنفیذ العقد ولیس إنھاء ھذا العقد كما رأینا في مؤسسة الفسخ سابقا.
إن الدفع بعدم التنفیذ یعد في الواقع تطبیقا من تطبیقات الحبس الذي تمت الإشارة إلیھسابقا في معرض بحث آثار القوة الملزمة للعقد.
و الدفع بعدم التنفیذ كمؤسسة قانونیة فلكي تنتج آثارھا وتكون مقبولة من الناحیة القانونیة فإنه یتعین توفر شرطین أساسین یكمن أولھما في أن یكون العقد من صنف العقود الملزمة للجانبین وثانیھما أن تكون الالتزامات المتولدة عن ھذا العقد ثابتة ومستحقة الأداء وسنقوم بالتفصیل في ھاذین الشرطین على النحو الآتي:
الشرط الأول: أن یكون العقد من صنف العقود الملزمة للجانبین.
و معنى ھذا الشرط أن قاعدة التمسك بالدفع بعدم التنفیذ ترتبط ارتباطا وثیقا بھذا النوع من العقود أي العقود الملزمة للجانبین والتي تكون مبنیة في الأصل على تقابل الالتزامات بین طرفي العقد المدین والدائن وھنا یطرح إشكال یتعلق بالعقود الملزمة لجانب واحد حیث لا یسوغ لأحد طرفي العقد التمسك بمؤسسة الدفع بعدم التنفیذ ریثما یقوم المتعاقد الآخر بتنفیذ الالتزامات الملقاة على عاتقه.
الشرط الثاني: أن تكون الالتزامات المتولدة عن ھذا العقد ثابتة ومستحقة الآداء
و معنى ھذا الشرط أن الدفع بعدم التنفیذ یستوجب أن یكون العقد ثابتا ومستحق الآداء وھذا یعني بمفھوم المخالفة أن العقد إذا كان مشوبا بعیب في صحته فإن ھنا لا مجال لإعمال القاعدة السابقة.
و ما قیل عن الالتزام غیر المستحق الأداء یقال أیضا عن الالتزامات التي سقطت بالتقادم وتحولت إلى التزامات طبیعیة والحال أن ھذا النوع من الالتزامات لا تسري علیھا معظم الأحكام التي تسري على الالتزامات المدنیة بما في ذلك الدفع بعدم التنفیذ ومن ناحیة أخرى لا یجوز للمتعاقد استعمال حقه [41].
ثانیا: آثار التمسك بدفع بعدم التنفیذ.
إنه وبعد استجماع الدفع بعم التنفیذ لشروطه التي أسلفنا ذكرھا أعلاه فإنه یرتب آثارا في مواجھة العاقدین وكذلك الغیر وھو ما سنحاول تناوله في ھذه النقطة.
1) آثار الدفع بعدم التنفیذ بالنسبة للعاقدین:
إن أول ما یرمي إلیه الدافع بعدم التنفیذ ھو وقف مفعول العقد الرابط بینھما كإجراء مؤقت ومستعجل حیث أنه لا یِؤدي إلى إنھاء العلاقة العقدیة ما ھو علیه بالنسبة لنظام الفسخ وإنما یعتبر بمثابة وسیلة لدفع المتعاقد الممتنع عن تنفیذ إلزامه إلى القیام بتنفیذھا وكمثال على ذلك قد یلجأ الدائن إلى حبس الشيء أو المال إلى غایة تنفیذ المدین ما یقع علیه.
2) آثار الدفع بعدم التنفیذ بالنسبة للغیر:
عندما یتم التمسك بالدفع بعدم التنفیذ فإن لھذا الأخیر آثار تمتد إلى كل من تربطه بالعاقدین علاقات قانونیة سابقة كما ھو الشأن بالنسبة للخلف العام والخلف الخاص وكذا الدائنین والغیر.
ذلك لأن الدفع بعدم التنفیذ إذا كانت تتمحور آثاره بالنسبة للعاقدین فقط بصورة أولیة فإن الغایة التي تم تقریر ھذا النظام سیكون عدیم الأثر وعدیم الجدوى إذا لم تسري آثاره تجاه الغیر الذي یرتبط بالعاقدین بعلاقات قانونیة رغم كونھا خارجة عن دائرة التعاقد بین الطرفین.
و لسریان آثار الدفع تجاه الغیر فإنه یتعین أن یكون حق ھذا الغیر ناشئا في الفترة اللاحقة لإثارة الدفع بعدم التنفیذ أما إذا كان حق الغیر سابقا على واقعة التمسك بالدفع فإن مفعول ھذا الأخیر لا یمسه في شيء إعمالا لمبدأ احترام الحقوق المكتسبة للغیر عن حسن النیة [42].
خـــــاتـــمـــة
لقد تطرقنا في ھذه الدراسة لأساس مبدأ القوة الملزمة للعقد وحدوده، وحاولنا البحث في ماھیة ھذا المبدأ الذي یعتبر من المبادئ القانونیة الشھیرة في تحدید الالتزامات وفي نظریة العقد، وركزنا على مدى ثباته وتكریسه في ظل تطور قانون العقود وتشعب العلاقات التعاقدیة وتغیر ظروف إبرامھا وتنفیذھا والقیود الواردة علیه. ومن أھم النتائج التي أمكن لنا التوصل إلیھا وإقرارھا إجابة عن الإشكالیة المطروحة نلخصھا إجمالا على النحو الموالي. حقیقة أن مبدأ القوة الملزمة للعقد ھو نتیجة لسیادة سلطان الإرادة وانتعاش المذھب الفردي منذ ما یقارب قرنین كاملین، فقد تمیزت العلاقات التعاقدیة آنذاك بستاتیكیة مستمیتة، إذ لم یكن ممكنا المساس بقداستھا تحت أي مبرر كان، فإذا أنشأت الإرادة الحرة عقدا وحددت مضمونه اكتسب الإلزامیة وصار ثابتا ومستقرا وواجب التقدیس والتنفیذ.
و تبین بأنه في عقود القانون الخاص كونھا عقودا تخضع بالأساس لإرادة الأطراف وفقا لقاعدة العقد شریعة المتعاقدین، لیس لأي من المتعاقدین أن یتحلل من التزاماته بإرادته المنفردة، ولا یجوز نقض العقد وتعدیله بالزیادة أو النقصان، إلا برضاء الطرف الآخر أو وفقا لما ینص علیه القانون، إذ ما تعقده إرادتان لا تحله إرادة واحدة.
لذلك تكرس ھذا المبدأ في العلاقات التعاقدیة وصار قاعدة لا یجوز نقضھا ولا تعدیلھا سواء بالنسبة للمتعاقدین أو الغیر، فلم یكن بوسعھم الرجوع عما اتفقوا بشأنه، ولم یُسمح للتشریع ولا للقضاء بالتدخل في ھذه العلاقات التعاقدیة والمساس بحرمتھا، بل ألزمھم ھذا المبدأ باحترام الروابط والعمل على مد ید المساعدة لتنفیذھا حسب ما اشتملت علیه، وما تستلزمه خاتمة أساس القوة الملزمة للعقد وحدودھا أیضا وبحسن نیة وبأمانة وإخلاص، وقد أنزل الفقھاء الرابطة العقدیة منزلة القانون للدلالة على قوتھا وقداستھا ووجوب تنفیذھا.
كما اتضح لنا أن مبدأ القوة الملزمة للعقد یستند على جملة من الأسس والاعتبارات، بدءا بإرادة أطراف العلاقة العقدیة التي لھا الدور الھام في إنشائھا وتنفیذھا والتي تستمد أصولھا من حریة الإنسان الطبیعیة والنظام الاقتصادي الرأسمالي وآثارھا على نظام العقد، إلى جانب القواعد الدینیة والمبادئ الخلقیة التي أكدت الوفاء بالعھود والعقود قبل القواعد الوضعیة، ناھیك عن الاعتبارات الاقتصادیة والاجتماعیة التي تستوجب الثقة والائتمان واستقرار معاملات الأفراد والجماعات ضمانا لتحقیق مصالحھم التي تنظمھا العقود، إضافة إلى القانون والقضاء اللذان كرسا ھذا المبدأ نظریا وعملیا من خلال النص علیه بقواعد آمرة في مختلف التشریعات المقارنة القدیمة والحدیثة وكذا الاجتھادات القضائیة.
-------------------------------------
هوامش:
هوامش:
[1] بإكراه«.
[2] الأستاذ محمد الربیعي: "نظریة العقد " الطبعة-2011 - المطبعة غیر مذكورة. الصفحة 38.
[3] الدكتور إدریس العلوي العبدلاوي" نظریة العقد " الطبعة 1996 مطبعة النجاح الجدیدة الدر البیضاء، الصفحة 361.
[4] الدكتور عبد القادر العرعاري: نظریة العقد الطبعة 2016، مطبعة الأمنیة- الرباط، الصفحة-159 -
[5]الدكتور المختار بن أحمد عطار: النظریة العامة للالتزامات في ضوء القانون المغربي، الطبعة 2011ن مطبعة النجاح الجدیدة – الدار البیضاء، الصفحة -169 -
[6] الدكتور إدریس العلوي العبدلاوي م.س. الصفحة 612.
[7] الالتزام.
[8] الدكتور عبد القادر العرعاري م.س الصفحة: 338
[9] الدكتور عبد القادر العرعاري م.س الصفحة: 338
[10] الدكتور إدریس العبدلاوي: م.س الصفحة 613.
الدكتورة أمینة أیت حسین: " القانون المدني " دراسة حدیثة للنظریة العامة للالتزام – مصادر الإلتزام – الطبعة الأولى 2017
[11] مطبعة فور إفنت- الرباط، الصفحة 201.
[12] الدكتورة أمینة آیت حسین: م.س الصفحة - 201-
[13] الدكتور عبد القادر العرعاري: م.س الصفحة 341
[14] الدكتورة أمینة آیت حسین: م.س الصفحة 204.
[15] الدكتورة أمینة آیت حسین: م.س. الصفحة 203.
[16] الدكتور عبد القادر العرعاري: م.س. الصفحة 341.
[17] د: مأمون الكزبري: م.س.ص 245.
ذ: فاضلي إدریس: الوجیز في النظریة العامة للالتزام، العقد، الإرادة المنفردة، الفعل الملتحق للتعویض، الإثراء بلا سبب القانون،
[18] قصر الكتاب ص 11. ط 2006.
[19] الخلف: ھو من تربطه صلة معینة بالمتعاقد ویكون خلفا عاما أو خاصا أو دائنا.
[20] الغیر: ھو الشخص الأجنبي بالنسبة للعقد ولا تربطه صلة بالمتعاقدین.
[21] مأمون الكزبري: م.س ص 253.
[22] د. مأمون الكزبري: م.س ص 254 .
[23] د مأمون الكزبري: م.س.ص 258.
[24] ذ. محمد الشرقاوي: م.س. ص 248.
[25] د.مأمون الكزبري: م.س.ص 263.
[26] ذ. مأمون الكزبري: م.س.ص 294.
[27] عاطف النقبیب " نظریة العقد " منشورات عویدات بیروت- باریس. ص 401.
[28] ذ محمد الشرقاوي: " نظریة العقد، دراسة في قانون الالتزامات والعقود المغربي الجزء الأول مصادر الالتزام.
[29] للطباعة والنشر - بیروت – لبنانن ص 264.
[30] ذ عبد الرزاق السنھوري: " الوسیط في شرح القانون المدني الجزء الأول مصادر الالتزام ص 453.
[31] مأمون الكزبریم س ص 237.
[32] د. عبد الرزاق أحمد السنھوري: م.س ص 490.
[33] د. مأمون الكزبري: م.س.ص 238.
قرار المجلس الأعلى في الحكم عدد 308 صادر بتاریخ 20 أبریل 1966 منشور بمجلة القضاء والقانون العدد 87/85 ینایر
[34] مارس 1968 ص 289.
[35] . أحمد حسن البرعي: م.س.ص 217.
[36]ذ.أمینة آیت احساین " االقانون المدني دراسة حدیثة للنظریة العامة للالتزام مصادر الالتزام الجزء الأول " العقد " الطبعة الأولى الصفحة – 234.
[37] الدكتور عبد القادر العرعاري: م.س الصفحة 380.
[38] المدین أو من شخص آخر یعمل باسمھ..."جاء في الفصل 270 من ق.ل.ع: “ یكون الدائن في حالة مطل إذا رفض دون سبب معتبر قانونا استفاء الأداء المعروض علیه ..."
[39] الدكتورة أمینة آیت حسین م.س صفحة -236-
[40] الدكتور عبد القادر العرعاري- م.س. الصفحة 367.
[41] الدكتورة أمینة آیت حسین: مرجع سابق الصفحة- 231 -
[42] الدكتورة أمینة آیت حسین: مرجع سابق الصفحة 233.