السياسة العقابية و الوقائية للدولة

عرض بعنوان:السياسة العقابية و الوقائية للدولة PDF

السياسة العقابية و الوقائية للدولة PDF

مقدمة :
 إن الجريمة ظاهرة اجتماعية ارتبطت بالإنسان وعرفت منذ وجوده، وتطورت وتعقدت أشكالها وتنوعت مناهجها ووسائلها مع تقدم المجتمعات وتطورها، ونظرا لما تخلفه هذه الظاهرة من أضرار على الدول بصفة عامة كانت ولا تزال محل اهتمام العديد من الباحثين والدارسين ورجال القانون سعيا منهم في معالجتها والقضاء عليها.
فوضعت لها في بداية الأمر عقوبات كان هدفها الانتقام للجماعة من المجرم فاختلفت اساليب هذا الانتقام بين القتل والتعذيب والنفي، بل تعدت حتى إلى أهل المذنب وقبيلته فكانت تقام الحروب بين القبائل وتباد عن آخرها بسبب ذنب ارتكبه أحد أفرادها، ومع تطور المجتمعات بدأت تتغير النظرة للجريمة وتحولت إلى الاهتمام بالجاني وطرق المعاملة معه، فظهرت أفكار جديدة لعل أهمها كان تفريد العقوبة وشخصية العقوبة وكذا المسؤولية الجنائية... مشكلة فيما بينها ما يعرف بالسياسة الجنائية[1].
بالرغم من أن مدلول السياسة الجنائية ليس من الوضوح الكافي حتى نتبين أبعاده لأول وهلة إلا أنه يمكن القول بأنه لا يكفي لمعالجة مشكلة الجريمة تحديد ماهيتها ورد الفعل المترتب عليها وبيان وسائل منعها ما لم تعرف بادئ الأمر ما هي الخطة التي تعالج على أساسها هذه المشكلة، وبدون معرفة الخطة سوف تتم معالجة مشكلة الجريمة في صورة ارتجالية ووفقا لحلول متنافرة لا ترتبط ببعضها بوثاق متينيوحدها جميعا نحو أصل واحد[2][3].
وقد أثار تحديد السياسة الجنائية العديد من المشكلات التي تحيط عادة بكل عمل علمي يهدف إلى البحث عن الحقيقة، حيث ظهر مفهومها لأول مرة في أواخر القرن 17 على يد الفقيه الألماني فيورباخ والذي عرفها: '' مجموع الوسائل التي يمكن اتخاذها في وقت محدد في بلد معين من أجل مكافحة الإجرام فيه''؛ في حين اعتبر مارك آنسل أن الهدف من السياسة الجنائية هو الوصول إلى أفضل صياغة لقواعد القانون الجنائي الوضعي وتوجيه كل من المشرع الذي يسن القانون والقاضي الذي يقوم بتطبيقه والمؤسسات العقابية المكلفة بتنفيذ ما يقضي به القاضي.
وتعتبر السياسة العقابية بالإضافة إلى السياسة الوقائية فرع من فروع السياسة الجنائية[4]، حيث تهتم الأولى بتنفيذ جزء محدد من السياسة الجنائية والمرتبط أساسا بالقانون الجنائي والمسطرة الجنائية باعتبارهما آليتين محوريتين في تحديد ردود الفعل اتجاه الجريمة، وهي أيضا- السياسة العقابية- التتمة المنطقية لدراسة النظرية العامة للجريمة ،إذ بدون جريمة لا مجال للحديث عن الجزاء الجنائي[5]؛ وهي أيضا مجموعة من التصورات والتوجهات العقابية التي تراها الدولة مناسبة في فترة زمنية محددة لمكافحة الجريمة ومعاقبة مرتكبيها، حيث يتم تحديدها وصياغتها في نصوص وقواعد قانونية من طرف السلطة التشريعية على أن يتم تطبيقها وتنفيذها من طرف المؤسساتالقضائية والإدارية المختصة بذلك[6].
وقد مرت السياسة العقابية بالمغرب بمجموعة من الأحداث والوقائع، فالمغرب قبل 1913 لم يكن يعرف تقنينا جنائيا بالمفهوم الوضعي وإنما كانت أحكام الشريعة الإسلامية في الحدود التعازير والقصاص هي القائمة آنذاك. لكن بعد فرض الحماية على المغرب بدأت موجات التغيير تلامس النظام الجنائي القائم حيث صدر ظهير 12 غشت 1913 يأمر بتطبيق القانون الجنائي والمسطرة الجنائية الفرنسيين أمام المحاكم التي أقامتها فرنسا بالمغرب على الأشخاص الخاضعين إلى اختصاص هذه المحاكم. وبعد حصول المغرب على الاستقلال، انطلقت المجهودات لتوحيد التشريع المغربي، فتم إصدار القانون الجنائي في 26 نونبر 1962 والذي تأثر فيه المشرع المغربي بمحت ويات النصوص الجنائية المقارنة وخاصة القانون الجنائي الفرنسي، والذي تضمن مجموعة من الآليات العقابية الجديدة، كما استفاد واضعو القانون الجنائي من الدراسات الحديثة في مجال العدالة الجنائية وعلوم الإجرام والعقاب في نهج سياسة عقابية حديثة تتلاءم مع خصوصيات المجتمع المعاصر.
في حين تعتبر السياسة الوقائية مجموعة من الطرق والوسائل والبرامج والاستراتيجيات التي تضعها الدولة للحيلولة دون وقوع الفعل الإجرامي بمشاركة الأفراد والخواص والجمعيات[7]. وقد ظهرت السياسة الوقائية تقريبا في منتصف القرن الثامن عشر مع ظهور أفكار المد رسة التقليدية على يد مؤسسيها بيكاريا وبينتام واللذين طالبا بأن تكون للعقوبة أهداف محددة وصفات معينة حتى تحقق العدلوالمساواة، حيث يتضح الفكر الوقائي في أفكارهما في محاولة الإقناع بأهمية الأهداف الوقائية المسبقة المترتبة من العقوبة إذا اتصفت بالعدل والمساواة.
ثم جاءت المدرسة الوضعية التي تعد بمثابة بداية علم الإجرام الحديث التي اعتمدت المنهج الوضعي في دراسة المجرم دراسة علمية منظمة، حيث توصلت إلى نتيجة مفادها أن الجريمة ظاهرة حتمية وهذه النتيجة تتضمن في طياتها جوانب وقائية من حيث محاولة اكتشاف ومعرفة هؤلاء الأفراد اللذين يتميزون بصفات الاستعداد الإجرامي حتى يتم التعامل معهم وقائيا وعلاجيا وليس عقابيا صرفا. ويلاحظ من خلال أفكار فيري )أحد أقطاب هذه المدرسة( أنه وضع الأسس التي تقوم عليها الوقاية من الجريمة في العصر الحالي ألا وهي معالجة المصدر أو المنبع الذي له دور في بروز شخصية المجرم )الوقاية القبلية( وذلك من قبيل مكافحة ظواهر المخدرات والتشرد...
ثم جاءت مدرسة الدفاع الاجتماعي وطالبت أن يكون هناك تحرك اجتماعي جاد لوقاية المجتمع من الجريمة والأفراد أنفسهم من الوقوع في الجريمة وذلك من خلال التدخل لأجل إصلاح أنظمة المجتمع لأنه يعتبر أفضل وسيلة لمكافحة الظاهرة الإجرامية.
إن الأفكار التي جاءت بها هذه المدارس قد أثمرت جهودها وذلك بتكوين توجه يؤمن بأهمية العمل الوقائي في مواجهة الجريمة، وبدأت هذه المرحلة منذ بداية القرن العشرين تقريبا بحيث أصبحت معظم التشريعات الحديثة تركز على الجانبالوقائي أكثر من الجانب العقابي[8].
ولعل أهمية الموضوع تكمن في أنها تبين الجهود المبذولة من طرف الباحثين والدولة على حد سواء في إصلاح المجرم والبحث عن العقوبة الأنجع والأصلح لمنعه من العودة إلى إجرامه وجعله بذلك فردا صالحا في المجتمع. كذلك ي برز هذا الموضوع دور السياسة الجنائية سواء العقابية أو الوقائية في معالجة الجرم والبحث عن أنجع الطرق والسبل والوسائل والعقوبات لمنع الظاهرة الإجرامية.
هذا يدفعنا إلى طرح إشكالية محورية وهي كالتالي:
 إلى أي حد استطاعت الدولة المغربية في ظل السياسة الجنائية الحديثة نهج سياسة عقابية ووقائية فاعلة للحد من ظاهرة الجريمة ؟ 
والتي تحيلنا على إشكاليات فرعية من قبيل: 
ما هي معيقات السياسة العقابية بالمغرب ؟ وما هي ت وجهاتها الجديدة ؟ وما دور القانون الجنائي في الوقاية من الجريمة ؟ وأي دور للمجتمع في الحد منها ؟ أسئلة ضمن أخرى سنحاول مقاربتها من خلال هذا الموضوع عبر مبحثين: 

المبحث الأول: السياسة العقابية بالمغرب واقع وآفاق
المبحث الثاني: السياسة العامة للدولة في الوقاية والمنع من الجريمة 


المبحث الأول: السياسة العقابية بالمغرب واقع وآفاق 

لقد أبان الواقع العملي عن مجموعة من الإشكاليات المتعلقة ببعض العقوبات في أداء وظيفتها ودورها، بل وساهم في تكريس أزمة السياسة الجنائية بشأن مكافحة الظاهرة الإجرامية ما يستتبع ذلك من تمظهرات سلبية موازية .
وأمام هذا الوضع لم يعد من مناص من تجريب خيارات جديدية لمعالجة أزمة السياسة الجنائية بالمغرب عن طريق تطوير سبل التصدي لها، فالتركيز على العقوبة وحدها غير كافي للوصول إلى الإصلاح المنشود بل لا بد من البحث في المصدر الذي هو المجرم، لأن الحد من الإجرام والعود للجريمة غير ممكن إلا بتبني منظور حديث لمفهوم العقوبة بشكل يضمن أنسنتها.

المطلب الأول: واقع السياسة العقابية بالمغرب 

يتضح من خلال الفصل 14 من القانون الجنائي أن العقوبات إما أن تكون أصلية أو إضافية، والفيصل بينهما هو أن الأولى يجوز الحكم بها وحدها دون أن تتوقف على الحكم بعقوبة أخرى ونحو ذلك عقوبة الإعدام والسجن المؤبد أو المؤقت والحبس والاعتقال والغرام، أما العقوبة الإضافية لا يمكن الحكم بها وحدها وإنما تضاف لزوما إلى عقوبة أصلية من ذلك عقوبة الحجر القانوني والتجريد من الحقوق الوطنية والحرمان النهائي من المعاشات التي تصرفها الدولة ونشر الحكم الصادر بالإدانة8.
وتجدر الإشارة إلى أنه رغم تنوع العقوبات في القانون الجنائي المغربي وكثرتهايلاحظ ارتفاع متزايد في معدل الجريمة، وهو ما يدل على أن العقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي المغربي لا تحقق غرضها في الردع والحد من الجرائم، خاصة عقوبة الإعدام والعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة باعتبارهما يطرحان مجموعة من الإشكاليات على جميع الأصعدة .

الفقرة الأولى: إشكالية عقوبة الإعدام 

إن النقاش والجدل العالمي بخصوص الإعدام يتمخض عن اتجاهات متعارضة ومواقف متباينة؛ الأولى تتمسك بالعقوبة والثانية تدعو إلى إلغائها وثالثة بين المنزلتين.
أولا: الاتجاه المؤيد لعقوبة الإعدام
يعتبر المؤيدون لعقوبة الإعدام بأنها عقوبة تبنى على مبررات مقنعة وتقوم على أسس أصلية تؤكد جدواها وضرورتها، كوسيلة فعالة ضمن السياسة العقابية حيث لا مجال للاستغناء عنها .
ويمكن تلخيص المبررات والأسانيد التي تقوم عليه وجهة النظر هذه في كونها وسيلة فعالة للردع العام والخاص، وبأنها تسهم في انخفاض معدل الجريمة وبأنها عقوبة عادلة تحد من حالات العود للجريمة وتحقق المصلحة العليا للمجتمع وتحافظ على استقراره وأمنه.
ويخلص المؤيدون إلى أن الحفاظ على هذه العقوبة تمليه الضرورة السياسية ،المتمثلة في توفير حماية النظام العام والتصدي لكل ما يشكل خطرا على الأمن والاستقرار، ناهيك على أن الكتب السماوية تقر هذه العقوبة بما لا يدع المجالللتشكك في جدواها وفعاليتها[9].
ثانيا: الاتجاه المعارض لعقوبة الإعدام
يعتبر المفكر الإطالي باكاريا أول من أشعل وقود الثورة المذهبية والتشريعية ضد عقوبة الإعدام رغم أنه كان يساند العمل بها في الجرائم السياسية لأنه كان يرى فيها أخطر انواع الجرائم، وقد أثرت فلسفته في العديد من التشريعات التي استجابت لنداء إلغاء العقوبة، وهكذا تبين من الإحصائيات التي كشفتها الأمم المتحدة بأن عدد الدول التي ألغت العقوبة قد وصل إلى 80 دولة آخرها تركيا سنة 2005.
ومن الأسباب التي اعتمدتها الدول وتمسكت بها الجهات المعنية بالإلغاء أن عقوبة الإعدام ليست النموذج المثالي في السياسة العقابية حيث أنها لا تفيد في الردع العام أو الخاص كما أن استبدالها بالسجن لا يؤدي بالضرورة إلى العود إلى الجريمة ،والكثير من الجرائم المعاقب عليها بالإعدام يرتكبها المختلون، علاوة على انطوائها على مفارقات غريبة تتمثل في عدم المساواة بين المحكوم عليهم سواء من حيث شدة الإجراءات أو اختلاف منظور القضاة وطبيعة تكوينهم، كما أنها كثيرا ما تلحق المجرمين غير القادرين ماليا على الاستعانة بذوي الكفاءة من المحامين، وهي عقوبة غير عادلة وغير منطقية، بل هي أقرب إلى الانتقام، كما أنها قاسية وتتنافى مع الإنسانية ولا تناسب إلا الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، حيث يلاحظ سوء استخدامها في الجرائم السياسية وجرائم الرأي، ويكون الإعدام بالنسبة لبعض الخصومالسياسيين بمثابة قدرهم المحتوم[10].
ثالثا: الاتجاه الوسط
يكتسي موقف هذا الاتجاه مظهرين:
المظهر الأول: يتمثل في تعطيل النص الذي يعاقب بالإعدام، وذلك بعدم تطبيقه بحيث لا تصدر المحاكم أي عقوبة من هذا القبيل، بما لها من سلطة في مجال تحديد وتفريد الجزاء فيصبح هذا التوجه نوعا من الاجتهاد القضائي القار.
المظهر الثاني: يتجلي في الحد من حالات التجريم التي تطالها عقوبة الإعدام وحالات الحكم والتنفيذ، مع الإبقاء على العقوبة في حدود الج رائم المتسمة بنوع من الخطورة، ويعتبر هذا الاتجاه أن الحد من العقوبة يشكل سياسة عقابية مرنة تحاول التوفيق بين الاستجابة للمتطلبات، والإكراهات التي تفرضها عولمة المعايير الدولية لحقوق الإنسان وبين الخصوصية الوطنية.
وتجدر الإشارة إلى أن المغرب لا يزال يحتفظ في إطاره التشريعي بعقوبة الإعدام إلا أن الملاحظون يرون أن المغرب يسير في اتجاه إلغاء عقوبة الإعدام لأنه جمد العمل بها منذ سنة 1993، كما أنه خفض في إطار المشروع الجديد للقانون الجنائي الحالات التي يعاقب عليها بعقوبة الإعدام من 33 حالة إلى 11.
وفي هذا السياق يقول ''ميشال طوب'' الكاتب التنفيذي للتحالف الدولي لمناهضة عقوبة الإعدام '' إن المغرب من أكثر الدول السائرة في اتجاه إلغاء عقوبة الإعدام، فعمليا لم تنفيذ عقوبة الإعدام منذ 14 سنة، كما ان الساحة الحقوقيةوالسياسية والثقافية المغربية تشهد حركة نشيطة من أجل إلغاء العقوبة، كما عبر عن تفاؤله فيما يتعلق بإلغاء العقوبة في المغرب، فالعاهل المغربي لم يعطي أوامره لتطبيق العقوبة منذ وصوله إلى الحكم 1999 بالرغم من صدور أحكام الإعدام خاصة بعد تفجيرات الدار البيضاء سنة [11]2003، كما تجدر الإشارة إلى أن هيئة الإنصاف والمصالحة قد أوصت بإلغاء عقوبة الإعدام.

الفقرة الثانية: أزمة العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة 

مما لا يدع مجال للشك أن أهداف السياسة العقابية الحديثة باتت ترى في السجن مؤسسة إصلاحية واجتماعية في الدرجة الأولى وليس أداة لتنفيذ العقوبة ووسيلة للزجر فحسب، لكن عملية الإصلاح والتأهيل يقتضي وقت كافي لتطبيقها وتنفيذها داخل المؤسسات السجنية، ومن ثم كانت العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة لا تتوافق مع برامج الإصلاح نظرا لقصر مدتها التي لا تكفي لإعطاء أي تكوين، كما أن السجين يمضي قسطا كبيرا من تلك المدة رهن الاعتقال الاحتياطي وما يواكبه من ظروف المحاكمة ومتاعبها النفسية، فالتجربة الميدانية أثبتت فشل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة[12] في تحقيق أهداف الإصلاح وإعادة إدماج الجاني في المجتمع كفرد سوي، بل ساهمت في إفساده بدلا من إصلاحه، وهذه من بين الآثار السلبية التي تنتج عن هذه العقوبة. بالإضافة إلى كون هذه العقوبة بعيدة عن تحقيق الإصلاح المنشود لنجاح فلسفة إعادة الإدماج، فإنها تؤدي بالسجين إلى الاحتكاك بالوسط السجني والاختلاط بمن تعود على هذا الوسط، مع ما يتيح ذلكإمكانية اكتساب سلوكات انحرافية أكثر خطورة، فضلا عن أنها تؤدي إلى تفكيك الروابط المهنية والأسرية والاجتماعية للسجين، فالزج بالشخص في السجن لمدة قصيرة يعرضه للوصم الاجتماعي[13]، يفصله عن النسيج الاجتماعي للمجتمع الذي يعيش فيه أو حمله على التشبع بقيم وثقافة ونمط مجتمعي مختلف، كما أن العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة تفقد المحكوم عليه مورد رزقه إن كان عاملا أو موظفا لعدم ضمان رجوعه إلى عمله وضياع فرص إيجاد شغل جديد باعتباره صاحب سوابق قضائية ،فضلا عن ذلك يفقد السجين إحساسه بالمسؤولية، هذا دون إغفال ما تكلفه هذه العقوبة من تكاليف باهضة لخزينة الدولة من أجل توفير التغذية والرعاية الصحية ومختلف التجهيزات لضمان سلامة وصحة السجناء.
وعلى الرغم من هذه العيوب فالمشرع المغربي لا يزال يعمل بهذه العقوبات شأنه في ذلك شأن الكثير من التشريعات، وإن كانت التجربة الميدانية قد أثبتت عجزها وقصورها في أداء وظيفتها ومحدودية نتائجها، لا سيما أمام ارتفاع مؤشرات الجريمة بل على النقيض من ذلك ساهم هذا الوضع في تكريس عجز آليات مكافحتها أو الوقاية منها عن مسايرة المد الإجرامي، الأمر الذي فسح المجال أمام الاستنجاد بالطرق الكلاسيكية المعتمدة في محاربة الجريمة وعلى رأسها تكثيف وثيرةالاعتقالات لردع المجرم وللحيلولة دون اقترافه لأفعال جرمية مستقبلية[14].

المطلب الثاني: التوجهات الحديثة للسياسة العقابية بالمغرب 

في إطار الاتجاهات التشريعية الحديثة الرامية إلى تبني سياسة عقابية بديلة للعقوبة الحبسية والجهود الهادفة للحد من الاكتظاظ في المؤسسات السجنية عمل المشرع المغربي أسوة بالعديد من التشريعات المقارنة على اعتماد آليات حديثة لمكافحة ظاهرة الجنوح، وذلك عبر مجموعة من التدابير تستبعد الحبس كجزاء سالب للحرية سواء من خلال مشروع القانون الجنائي رقم 10-16 أو قانون المسطرة الجنائية رقم .01-22

الفقرة الأولى: على مستوى القانون الجنائي 

اتجهت العديد من التشريعات إلى إقرار بدائل جديدة للعقوبات السالبة للحرية قص يرة المدة كخيار استراتيجي يعول عليه لتجاوز الفشل الذي برهنت عنه سياسة العقاب، وللتخفيف من حدة الآثارالسلبية لسياسة الزجر والردع. وفي هذا الإطار عمل المشرع المغربي على إقرار مجموعة من البدائل العقابية من خلال مشروع القانون الجنائي رقم 10-16 حيث عرفها من خلال المادة 1-35 بأنها تلك العقوبات التي يحكم بها في غير حالات العود كبديل للعقوبات السالبة للحرية في الجنح التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم بها سنتين حبسا، وتحول العقوبة البديلة دون تنفيذ العقوبة السالبة للحرية على المحكوم عليه في حالة تنفيذه للإلتزامات المفروضة عليه بمقتضاهاوفقا لشروط معينة، وتتمثل هذه العقوبات البديلة في:
أولا: العمل لفائدة المنفعة العامة
عرف بعض الفقه عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة بأنها '' الحكم على الجاني عند ارتكابه لجنحة معاقب عليها بعقوبة حبسية، بأن يمارس عملا لصالح المجتمع بدل الحبس ويؤدي هذا العمل لفائدة الشخص المعنوي –من القانون العام- أو لفائدة جمعية ذات النفع العام دون مقابل''[15].
وتعتبر الخدمة لأجل المنفعة العامة من المستجدات التي جاء بها مشروع القانون الجنائي سالف الذكر من خلال مقتضيات المادة 635 حيث أن تطبيقها رهين بتوفر بعض الشروط المحددة قانونا والتي تساعد القاضي على انتقاء الأشخاص المستفيدين من هذا البديل بكل عناية ودقة وتتحدد هذه الشروط فيما يلي:
1- أن تكون الجريمة موضوع تطبيق العمل من أجل المنفعة العامة معاقب عليها بعقوبة حبسية لا تتجاوز مدتها سنتين، وبالرجوع إلى القانون المقارن نجد أن العديد من التشريعات تستلزم توفر هذا الشرط لتطبيق هذا البديل ،من بينها المشرع الفرنسي الذي أجاز للقضاء الزجري الحكم بعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة بدل العقوبة الحبسية في جميع الجنح والمعاقب عليها بعقوبة سالبة للحرية التي تتراوح مدتها بين 6 أشهر و10 سنوات، كما أن المشرع الانجليزي قيد نطاق تطبيق هذا البديل في الجرائم المعاقب عليهابعقوبة حبسية لا يتجاوز حدها الأقصى 5 سنوات[16].
2- أن يكون المحكوم عليه عديم السوابق القضائية، بمعنى أنه مجرم مبتدئ ،فجل القوانين المقارنة استلزمت توفر هذا الشرط، إلا أن بعض التشريعات تراجعت عن هذا الموقف ومنها المشرع الفرنسي الذي أجاز للقضاء الحكم بعقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة على المجرمين ذوي السوابق شريطة ألا يشكل هؤلاء خطرا على الغير.
3- ضرورة التوفر على الموافقة الصريحة للجاني على الخضوع لعقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة، وقد أكدت جل التشريعات على هذا الشرط كالمشرع الفرنسي بحيث نصت المادة 8-182 من قانون العقوبات الفرنسي على أنه لايمكن تطبيق هذه العقوبة البديلة على المتهم في حالة رفضه أوغيابه عن جلسة الحكم، وهذه المادة تستمد مرجعيتها من المبدأ الذي أكدته الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية في مادتها الرابعة التي تقضي بأنه '' لا يجوز فرض عمل على شخص عن طريق القوة والإلزام.''
كما تتجلى أهمية عقوبة العمل لفائدة المنفعة العامة باعتبارها أحد أهم آليات الردع والزجر الحديثة لتجاوز إشكالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة الأمد، الذي أبان الواقع العملي عن فشلها في أخذ دورها الإصلاحي والتربوي بالشكل المرغوب فيه ،كما تلعب دورا أساسيا في الحفاظ على شخصية المحكوم عليه والتأثير الإيجابي على سلوكه لاعتمادها مقاربة تهدف إلى الإصلاح وإعادة الإدماج والـتأهيل وتراعي شخصية الجاني وظروفه الاجتماعية، كما أنها تمتاز بالطابع الاجتماعي بحيث يمكن بفضل فعاليتها إدماج المحكوم عليه بها داخل المجتمع ومعاقبته بطريقة أكثر إنتاجيةوإصلاحية تستهدف أساسا الوصول إلى اقتناع الجاني بالذنب واستعداده للمشاركة في تنفيذ العقوبة[17].
إلا أن هذه العقوبة التي جاءت بها المادة 6-35 تطرح عدة إشكالات من قبيل أنها لم تحدد نوعية وطبيعة الخدمة، في هذا يرى أحد الباحثين أنه يستحسن مراعاة لمبدأ الشرعية تدقيق المقصود بهذه العقوبة حتى لا تتأسس إلا على نص القانون وعدم ترك ذلك للقاضي، وحتى لا تنقلب إلى عقوبات مهينة وقاسية أو ماسة بالكرامة أو أشغال شاقة أو شيء من هذا القبيل، أو تأخذ مسارا متهاونا يفرغها من غايتها القانونية والاجتماعية. كما يعول على قاضي تطبيق العقوبة مراقبة تنفيذها[18].
ثانيا: الغرامة اليومية
تعد الغرامة اليومية الصورة الحديثة للغرامة والي استعانت بها جل التشريعات المعاصرة قصد تفادي مساوئ الغرامة صورتها العادية، من خلال جعلها أكثر توافقا مع ظروف المحكوم عليه، حتى لا تتحول إلى عقوبة سالبة للحرية في حالة عجزه عن أدائها، وذلك خدمة للمؤسسة السجنية.
كما أنها تشكل إحدى أهم العقوبات البديلة الرامية إلى تجاوز إشكاليةالعقوبات السالبة الحرية قصيرة المدة والحد من ظاهرة الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية باعتبارها خيارا استرتيجيا لمكفاحة ظاهرة الجنوح البسيط[19].
وقد عرف المشرع المغربي في مشروع القانون الجنائي السالف الذكر الغرامة اليومية في الفقرة الأولى من المادة 10-35 حيث اعتبرها عقوبة يمكن للمحكمة أن تحكم بها بدلا من العقوبة الحبسية وهي مبلغ مالي تحدده المحكمة عن كل يوم من المدة الحبسية المحكوم بها والتي لا تتجاوز منطوقها في المقرر القضائي سنتين حبسا[20]، وقد تم تحديد قيمة هذه الغرامة في مبلغ يتراوح ما بين 100 و 2000 درهم عن كل يوم من العقوبة الحبسية المحكوم بها، كما أن المحكمة تراعي عند تحديدها للغرامة اليومية الإمكانيات المادية للمحكوم عليه وخطورة الجريمة المرتكبة )المادة 9-35(، وتجدر الإشارة إلى أن هذه العقوبة لا تطبق عندما يكون المحكوم عليه من الأحداث وذلك لعدة اعتبارات أهمها أن الأحداث لا يستطيعون دفع المبالغ المالية التي تقررها المحكمة، وبالتالي قد يتكلف بها أولياؤهم وهذا يتنافى مع مبدأ شخصية العقوبة إضافة إلى ذلك فقد شدد المشرع على إلزامية أداء المبلغ الذي حكمت به المحكمة داخل أجل لا يتجاوز ثلاث أشهر من تاريخ صدور المقرر التنفيذي المشار إليه في المادة
2-647 من قانون المسطرة الجنائية، ويمكن تمديد هذا الأجل لمدة مماثلة مرة واحدة بقرار صادر عن قاضي تطبيق العقوبة بناء على طلب من المحكوم عليه إذا اقتضىالأمر ذلك.
أما عن أهمية هذه العقوبة فهي تتلاءم بشكل كبير مع أهداف السياسة الجنائية الحديثة لاسيما أنها تجنب الجاني مساوئ العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة ،وتحافظ أيضا على متانة الر وابط الأسرية والمهنية...وبالتالي إبعاده عن خطورة الوصم الاجتماعي، فهي بذلك تعد أفضل وسيلة لوقاية الجاني من القطيعة التي تتولد عن العقوبة الحبسية، كما أنها تمتاز بقيمة عقابية وإصلاحية فعالة تتيح للجاني السبل الكفيلة للاندماج داخل المجتمع كفرد صالح ومتنج.
ثالثا: تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية
يمكن تعريف العقوبات المقيدة لبعض الحقوق بأنها نوع من المعاملة العقابية للمحكوم عليه قضائيا بارتكابه فعلا جرميا، وإذا كان يحتفظ بحقه في الحرية، فإنه يفقد أو يقيد صلاحيته في التمتع بحق من الحقوق أو ميزة من المزايا القانونية ذات الطبيعة المدنية أو السياسية أو المهنية محددة على النحو الذي يسبب له إيلاما يحمله على الإصلاح والتهذيب والانخراط في المجتمع من جديد[21].
وقد نص المشرع المغربي عن هذه التدابير من خلال مشروع القانون الجنائي الذي سبقت الإشارة إليه في المادة 35-15 وذلك على سبيل الحصر وتتمثل هذه التدابير فيما يلي:
- مزاولة المحكوم عليه نشاطا معينا محددا أو تتبعه لدراسة أو تأهيلا مهنيا محددا ،فالهدف من هذا الإجراء هو توجيه المحكوم عليه نحو التأهيل والتكوين على مستوى الحرف والمهن التي تتلاءم مع إمكانياته المعرفية؛
- الاعتقال في محل السكنى، هذا الإجراء يشمل على الخصوص المرضى المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية، وذلك تماشيا مع بعض التشريعات المقارنة ،وعلى رأسها المشرع الفرنسي حيث تم سن قانون بتاريخ 4 مارس 2002 المتعلق بحقوق المرضى المحكوم عليهم، كما أخذت إيطاليا بهذا النظام في حق المدمنين على المخدرات؛
- إلزام المحكوم عليهم المدمنين بالخضوع إلى العلاج النفسي أو العلاج ضد الإدمان؛
- فرض الرقابة الاكترونية[22] على المحكوم عليه أو ما يسمى بالسوار الإلكتروني ،وهو من أبرز التطبيقات في مجال التطور العلمي المتعلق بتنفيذ العقوبات حيث ينفذ الجاني العقوبة خارج أسوار السجن وتبقى تحركاته مراقبة بواسطة جاهز إلكتروني. وجدير بالذكر أن نظام المراقبة الإلكترونية أصبح يلجأ إليه في جل الدول التي تأخذ به للحد من حالة العود إلى الإجرام، وخصوصا في الجرائم الأخلاقية والجنسية التي أصبحت متفشية بشكل كبير في هذه الدول، ويضاف إلى ذلك أن أغلب التشريعات أصبحت مقتنعة بكون هذا البديل يشكل أهم الأنظمة العقابية الحديثة التي تتلاءم مع الأهداف الحديثة للعقوبة المتمثلة في مبدأ تحقيق الإصلاح وإعادة التأهيل بشكل فعال والاندماج في المجتمع؛ ومن مزايا المراقبة الإلكترونية أنها تساهم في تخفيف الضغط عن المؤسسات العقابيةوأيضا مساهمتها في إقرار السلم الاجتماعي إضافة إلى تقليص حجم التكاليف والنفقات التي تتحملها خزينة الدولة في سبيل الإنفاق على المؤسسات العقابية.
إضافة إلى إقرار المشرع في المشروع الجديد لعقوبات بديلة للعقوبات السالبة للحرية، نجده كذلك، في إطار السياسة العقابية الحديثة، نص على بعض المقتضيات التي يتبين من خلالها أنه يتوجه إلى تخفيف العقوبات البدنية وخاصة عقوبة الإعدام ،حيث تم تقليص عدد المواد التي تعاقب على هذه العقوبة من 31 إلى 11 من بينها 3 مواد جديدة متعلقة بجرائم القانون الدولي الإنساني بشكل يبرز أن المشرع المغربي قد سلك منهج التدرج في إلغاء هذه العقوبة تطبيقا لتوصيات مناظرة مكناس علما أن مجموع عدد المحكومين بالإعدام إلى غاية 17-09-2012 يصل إلى 111 من بينهم سيدتان وأن آخر تنفيذ لعقوبة الإعدام كان بتاريخ 09-08-[23]1993.

الفقرة الثانية: على مستوى قانون المسطرة الجنائية 

في إطار التوجهات التشريعية الحديثة الرامية إلى تبني سياسة عقابية بديلة للعقوبات السالبة للحرية، والجهود الهادفة للحد من الاكتظاظ في المؤسسات السجنية، لا سيما في ظل عجز الآليات المعتمدة لمحاربة الظاهرة الإجرامية والوقاية منها عن مسايرة المد الإجرامي، عمل المشرع المغربي على تبني مساطر جديدة بديلة وذلك للحد من العقاب وهي كالتالي:
أولا: الصلح الجنائي
عرف بعض الفقه الصلح الجنائي بأنه '' أسلوب قانوني غير قضائي لإدارة الدعوى الجنائية يتمثل في دفع مبلغ من المال للدولة أو تعويض المجني عليه أو قبول تدابير أخرى مقابل انقضاء الدعوى الجنائية''[24].
وأسوة بالعديد من القوانين المقارنة واستجابة إلى الم واثيق والمؤتمرات الداعية إقرار عدالة تصالحية، عمد المشرع المغربي في قانون المسطرة الجنائية إلى تبني مبدأ الصلح ضمن المادة 41 كآلية حديثة وحضارية تساهم في عملية إعادة إدماج وتأهيل الجاني وفق منظور السياسة العقابية الحديثة.
وقد حدد المشرع الجرائم التي يجوز فيها سلوك مسطرة الصلح بشأنها وذلك في كل جريمة يعاقب عليها بسنتين حبسا أو أقل أو بغرامة لا يتجاوز حدها الأقصى 5000 درهم، وعلى وكيل الملك تضمين الصلح الحاصل بين المتضرر والمشتكى به في محضر .
أما بخصوص مزايا هذه المسطرة فهي تخفض الضغط على المؤسسات العقابية كما أنها تكفل حق الضحايا في التعويض وتساهم في القضاء الفوري على آثار الجريمة مع الحفاظ على الوضعيات التي كانت قائمة قبل ارتكابها وأيضا تفادي خضوع الجاني للجزاء الجنائي.
فالصلح الجنائي كآلية حضارية تسعى إلى تربية النفس على التسامح ودفع الانتقام ،ولا شك أن تفعيلها بشكل سديد سوف يكون له الأثر الإيجابي تجاه المجتمع والجاني والضحية.
أما الآثار السلبية لهذه الآلية فتبدو شبه منعدمة مقارنة مع نجاعتها في رأب الصدع الاجتماعي من خلال الحفاظ على الروابط الاجتماعية وتزكية فضائل التعايش والتسامح داخل المجتمع وجبر الضرر الحاصل للضحية عن طريق فتح الحوار مع الجاني قصد تحويل علاقة التصادم بين الجاني والضحية إلى أسلوب تعاقدي يلتزم خلاله الجاني بتعويض الضحية.
ثانيا: التخفيف التلقائي للعقوبة
خول المشرع المغربي من خلال الفصل 596 من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية عناية خاصة لموضوع تنفيذ العقوبات وفق مقاربة شاملة تتوخى التقليص من العقوبة السالبة للحرية، وذلك من خلال تخويل قاضي تنفيذ العقوبة إمكانية التخفيض التلقائي للعقوبة كآلية جديدة تتوخى القضاء على ظاهرة اكتظاظ المؤسسات السجنية وأيضا تحفيز السجناء على الانخراط بشكل إيجابي في برامج الإصلاح وإعادة التأهيل، حيث يتم التخفيض، من طرف لجنة بالسجن، بعد قضاء السجين ربع المدة وذلك 4 أيام من كل شهر لغاية سنة وشهر عن كل سنة أو جزء من السنة إذا كانت العقوبة أكثر من سنة.
هذا الإجراء سيكون له تأثير إيجابي على المؤسسات السجنية والسجناء علىحد سواء، حيث سيساهم في التقليل من عدد المعتقلين وتحفيز المسجونين وتهيئهم نفسيا للانخراط في برامج الإصلاح التي تسطرها المؤسسات العقابية[25].
ثالثا: عقلنة الاعتقال الاحتياطي
يعرف الاعتقال الاحتياطي بأنه الحبس الذي يسبق الحكم النهائي بالإدانة ،فهو حبس مؤقت طيلة إجراءات المحاكمة التي قد تنتهي بالبراءة أو الإعفاء، مما يؤدي إلى تقييم هذا الإجراء بشكل سلبي، وقد يسفر الأمر في النهاية على عقوبة غير سالبة للحرية مما يجعل الحبس الاحتياطي غير مبرر.
في المغرب يشكل المعتقلون احتياطيا حوالي 42 في المئة من نزلاء المؤسسات السجنية، مما يظهر معه بوضوح مدى مساهمة هذه الآلية في تأزيم السياسة العقابية بالمغرب. وفي هذا الإطار عمل المشرع المغربي على إحداث آليات جديدة تقوم مقام الاعتقال الاحتياطي من قبيل نظام الكفالة المالية حيث يضع المتهم كفالة مالية بصندوق المحكمة مقابل عدم اعتقاله مؤقتا؛ القيد الإلكتروني رصد تحركاته أو حصرها في مكان محدد؛ الوضع تحت الرقابة القضائية...
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي اعتبر في المادة 1-175 من مسودة قانون المسطرة الجنائية أن الاعتقال الاحتياطي هو تدبير استثنائي لا يمكن اللجوء إليه إلا إذا تعذر اللج وء إلى بديل، كما حدد الحالات الحصرية الموجبة للاعتقال الاحتياطي من خلال المادة 2-172 من نفس القانون.
وفي إطار السعي إلى ترشيد وعقلنة الاعتقال الاحتياطي اصدرت رئاسة النيابةالعامة دورية في 7-6-2018 تؤكد فيها أن نسبة الاعتقال الاحتياطي قد نزلتنهاية شهر أبريل من سنة 2018 إلى حوالي 40 في المئة من مجموع الساكنة السجنية ،كما أكدت أن الموضوع يتطلب الاستمرار في الحرص واليقضة بالنظر من جهة إلى إمكانية ارتفاع الاحصائيات بسرعة عند تأخر البت في هذا الصنف من القضايا ،ومن جهة أخرى لكون الهدف المقرر بلوغه في إطار برنامج النجاعة القضائية هو معدل 35 في المئة.

المبحث الثاني: السياسة العامة للدولة في الوقاية والمنع من الجريمة


 رغم التقدم الهائل الذي شهدته الإنسانية خلال القرن الماضي في مختلف الميادين العلمية والدراسات الاجتماعية والأبحاث خاصة فيما يتعلق منها بعوامل الإجرام والسياسة العقابية، فإن حجم الجرائم قد ازداد وتشعبت صورها، وأصبحت تهدد كيان المجتمعات الحديثة، وهذا يعكس عجز العقوبات التقليدية عن منعها، مما يستوجب إعادة النظر ليس فقط بالبحث عن بدائل لها وإنما برسم سياسة وقائية تكتشف عن هذا الداء الخطير للعمل على الوقاية منه ومن ثم تجنب آثاره على الفرد والمجتمع. 

المطلب الأول: دور الأجهزة التشريعية والتنظيمية في الوقاية من الجريمة 

يلعب كل من الجهاز التشريعي والتنظيمي دورا هاما في الوقاية والمنع من الجريمة الذي يعد أحد محاور السياسة الجنائية المعاصرة، حيث يبرز هذا الدور أولا من خلال النصوص القانونية والتشريعية وما لها من قدرة على تحقيق الوقاية من الجريمة وثانيا في قدرة الجهات المختصة والأجهزة التابعة للسلطة التنظيمية في الدولة على تنفيذسياستها العامة فيما يخص مكافحة الظاهرة الإجرامية والحد منها.

الفقرة الأولى: الآليات الوقائية من الجريمة في القانون الجنائي 

اعتمد المشرع المغربي من خلال مجموعة القانون الجنائي آليات وقائية تستهدف الوقاية والحد من الجريمة وتتمثل في التدابير الوقائية التي عالجها في الجزء الثاني من الكتاب الأول في بابين، الأول خصصه لمختلف التدابير الوقائية الشخصية والعينية (الفصول من 61 إلى 92) والثاني خصصه لأسباب انقضاء التدابير الوقائية والإعفاء منها أو إيقافها ( الفصول من 93 إلى 104).
ويمكن تعريف التدابير الوقائية أو الاحترازية أو تدابير الأمن بأنها نظام قانوني يرمي أساسا إلى حماية المجتمع من الخطر الكامن في بعض الأفراد الذين أصبحوا بحكم استعدادهم الإجرامي مهيئين أكثر من غيرهم لارتكاب ما من شأنه أن يؤدي إلى الاضطراب الاجتماعي كالمجانين والعائدين والأحداث ومدمني المخدرات، يكون ذلك إما بالتحفظ عليهم وإما بعلاجهم وإما بتهذيبهم وإصلاحهم بقصد إعانتهم على استرداد مكانتهم ودورهم في المجتمع[26].
ويرجع الفضل في تأصيل النظرية العامة للتدابير الوقائية إلى المدرسة الوضعية والتي اعتمدت عليها كصورة وحيدة للجزاء الجنائي تحل محل العقوبة؛ ولكن ظهور التدابير الوقائية أسبق من ظهور المدرسة الوضعية، إذ كانت تعرف كتدابير إدارية تتخذ قبل أشخاص كإيداع المجرم المجنون مستشفى الأمراض العقلية، وكعقوبات تكميلية أو تبعية كالحرمان من بعض الحقوق أو التقييد من بعض الأنشطة أو الحدمن حرية التنقل أو مصادرة الأدوات الناتجة عن الجريمة أو التي استخدمت فيارتكابها[27].
ومن بعد ذلك تطورت التدابير الوقائية حتى تم استقلالها عن فكرة العقوبة بظهور المبادئ التي أرستها مدرسة الدفاع الاجتماعي[28] وهكذا أصبحت التشريعات الحديثة بصفة عامة تأخذ التدابير الوقائية بصفتها هذه وليس بإلباسها قناع العقوبات ،حيث أنه بات واضحا في السياسة الجنائية الحديثة أن الالتجاء إلى العقوبة وحدها كصورة للجزاء الجنائي لا تكفي لتحقيق أهدافها في الوقاية من الجريمة[29] ومن ثم أصبحت التدابير الوقائية هدفها الأساسي هو إصلاح الجاني ووقايته من الالتجاء إلى الجريمة وذلك بتحديد نوع التدبير الذي سيخضع له هذا الأخير.
ويذهب معظم الباحثين إلى أن التدبير الوقائي لا يجوز توقيعه على شخص ما لم يرتكب بالفعل جريمة سابقة عليه، والحجة الرئيسية التي استند إليها هذا الاتجاه الراجح مستمدة من ضرورة حماية الحريات الفردية وفقا للقاعدة الشرعية[30] وقد تعرض هذا الشرط للنقد من بعض الفقهاء وذلك بقولهم أن التدابير الوقائية هي إجراءات تواجه خطورة مستقبلية ولا تهتم بواقعة سابقة بحيث تتنافى وطبيعتها.
كذلك يلزم بفرض التدابير الوقائية توافر الخطورة الإجرامية التي تعرف بأنها '' حالة نفسية يحتمل من صاحبها أن يكون مصدر لجريمة مستقبلية''[31][32]، وهي أساس ومعيار فرض التدابير الوقائية، ومن تم كان توافر الخطورة الإجرامية هي شرط وأساس تطبيق التدبير يدور معها وجودا وعدما، ومن هذا المنطلق لا يستطيع القاضي عند النطق بالتدبير المعين أن يحدد له مدة معينة لأنه لايستطيع أن يتنبأ بانقضاء حالة الخطورة هذه.

الفقرة الثانية: دور المؤسسات العقابية في الوقاية من الجريمة 

حرصت الدولة المغربية منذ إحداث المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج في 29-04-2008 على تخليق الفضاء السجني وتكريس البعد الإنساني في دور المؤسسات السجنية وتحسين مختلف جوانب الحياة داخل السجن، سواء تعلق الأمر بالمعاملة الإنسانية للسجناء أو بتحسين ظروف الإيواء والإقامة والرفع من جودة التغذية وتحسين مستوى الرعاية الصحية والاجتماعية للسجناء، وذلك من منطق إيمان المندوبية العامة العميق بكون السجين لا تفقده العقوبة السالبة للحرية مواطنته وكرامته الإنسانية، عبر استهداف برامجها تطوير طرق العمل وتأهيل الموارد البشرية[33]. ويبرز دور المؤسسات العقابية في الوقاية من الجريمة عن طريق اعتماد مجموعة منالبرامج الـتأهيلية والإصلاحية والتي تهدف إلى إعادة إدماج السجناء داخل المجتمعواستئصال خطورتهم الإجرامية ويتأتى ذلك ب[34]:
- الرفع من الطاقة الاستعابية وتأهيل البنية التحتية للسجون؛
- مواصلة تحسين التغذية؛
- محاربة الإدمان على المخدرات والأمراض المعدية خاصة داء السل وفقدان المناعة المكتسبة بالوسط السجني؛
- تحسين الرعاية الصحية؛
- الوقاية من التعذيب وسوء المعاملة؛
- تعزيز الدور الإصلاحي والتربوي للمؤسسات السجنية؛
- تصنيف المسجونين من حيث نوع الجريمة والحالة الصحية ونوع الجنس؛
- توفير الملبس وأدوات النظافة؛
- دعم الأنشطة الرياضية؛
- دعم السجين على الاتصال الدائم بالعالم الخارجي ) الزيارات، المراسلات ،الهاتف الثابت(؛
- تدعيم الرخص الاستثنائية؛ برامج المصالحة )المصالحة مع الذات مع المجتمع مع النص الديني(؛
- تخفيف العقوبات ) الفصل 596 من قانون المسطرة الجنائية(؛
- مراقبة شرعية الاعتقال ومسطرة الإكراه البدني؛
- العفو؛
- الإفراج المقيد بشروط.
ويبقى دور هذه الآليات الإصلاحية في تعزيز قدرة السجين على الانخراط الإيجابيفيها بما يحقق له نوعا من الردع الخاص وبالتالي وقاية المجتمع من الجريمة في المستقبل ،لكن ذلك لن يتأتى إلا من خلال تتبع حالة السجين حتى بعد خروجه من المؤسسة العقابية من أجل القضاء على ظاهرة العود بشكل نهائي، وفي هذا الإطار تعمل مؤسسة محمد السادس لإعادة السجناء على رعاية السجناء بعد خروجهم من السجن من خلال وضع برامج دعم المشاريع الصغرى والتشغيل الذاتي لفائدة السجناء السابقين وذلك تكريسا للتوجه الملكي نحو نهج سياسة وقائية وذلك بإشراك السجناء في العملية التنموية.

الفقرة الثالثة: تطوير الأنظمة الوقائية والرقابية 

بما أن الوقاية خير من العلاج لا بد من بسط الرقابة على جميع الهيآت العامة والموظفين، ومراقبة النشاطات التي يقوم بها الأفراد والهيآت المعنية الخاصة مثل الجمعيات والشركات الخاصة، وذلك بخلق أجهزة حكومية وخاصة مستقلة تقوم بمهمة الوقاية مع مراعاة جانب التخصص في القيام بهذه المهمة، مع اتخاذ الإجراءات لمواجهة الحالات التي تمثل خطورة من الناحية الاجتماعية قبل أن تتطور لتصبح تشكل خطورة إجرامية من شأن ذلك الحد من كثير من الجرائم خاصة جرائم الرشوة والفساد والاختلاس واستغلال النفوذ والمنصب والصفة لأغراض شخصية[35].
يجب تدعيم الأجهزة التي تتولى الرقابة بالمال الأجهزة والتقنية المتطورة وتوفيرالحماية القانونية للمنتسبين إلى أجهزتها لكي تؤدي مهامها على أكمل وجه، فهذامن شأنه أن يمكن الدولة من إحكام قبضتها على الجرائم التي تهدد المصلحة العامة والخطة الاقتصادية والاجتماعية التي تنهجها لضمان الاستقرار داخل المجتمع، ومن الأفضل أن تتولى مهمة الرقابة جهات ذات طابع إداري تابعة للدولة تضم موظفين متخصصين ومحلفين يتمتعون بالكفاءة والنزاهة والأمانة.
وفي إطار التوجهات الحديثة للسياسة الجنائية تعمل الدولة المغربية على نشر آلات التصوير في الأماكن العامة والطرقات بغرض تسجيل وإثبات الحوادث الإجرامية التي قد تقع والكشف عنها ومرتكبيها في حالة وقوعها، وذلك يؤكد أنه في ظل الخطر المتنامي في ثقافة الجريمة أصبحت ثقافة الوقاية تعلو على ثقافة الخصوصية للأفراد.

المطلب الثاني: دور المجتمع في الوقاية من الجريمة ومكافحتها 

لم يعد خافيا على المجتمعات المعاصرة إدراك أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه المجتمع في سبيل تحقيق الأمن والاستقرار من خلال التعاون البناء بينه وبين السلطات العمومية بحيث أن الجهود في الوقاية من الج ريمة من طرف جهة واحدة تظل محدودة الإمكانية وغير متكاملة. وقد يتساءل المرء عن كيفية تحرك المجتمع لمواجهة الجريمة؟ فخير من يقوم بتعميق صور التعاون هي تلك المؤسسات بما تمتلك من تأثير وقدرة على تنمية الوعي الاجتماعي وتوطيد الانسجام الداخلي لضمان الأمن والرخاء.

الفقرة الأولى: توجيه المجتمع والاعتماد على ثقافته كأساس للوقاية من الجريمة


 ينبغي الإشارة إلى أنه مهما بلغت إجراءات تحقيق الجنائي والمحاكمة من درجةمن حيث الضبط والدقة والموضوعية فوقوع الجريمة يعبر عن خلل يسود النظامالاجتماعي، ولهذا من الأفضل اتخاذ الإجراءات الوقائية التي تحول دون الوقوع في الجريمة، وتتمثل في:
أولا: تنمية النزعة القانونية لدى الأفراد
تعني هذه العملية تحويل الإنسان من كائن بيولوجي يتميز بالبدائية إلى كائن إنساني اجتماعي يؤمن بالقيم والمثل ويتمسك بالقانون، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال إحكام نظام يوجه عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية والروحية والأخلاقية للمواطن منذ الصغر، فالإيمان بالقانون واحترامه عملية نفسية وتربوية في المقام الأول، وهذه العملية يجب أن تكون مستمرة تصاحب الفرد من المهد إلى اللحد[36].
يتم تفعيل هذه العملية المعقدة التي تتسم بالتفاعل والأخذ والعطاء والتأثير والتأثر أو التأثير المتبادل بين الفرد والمؤثرات التي تؤثر في ذهنه وحسه ووجدانه عن طريق مؤسسات متخصصة، تتمثل في المسجد والمدرسة والمكتبة والجامعة والملتقيات ،كما أن الأجهزة الأمنية خاصة جهاز الشرطة والسلطة القضائية بحكم تخصصها تلعب دور مهم في هذه العملية التي تستهدف تنمية الوعي القانوني والإحساس أو الشعور بالعدالة.
ذلك بحد ذاته يفعل عملية التضامن والتفاعل الإيجابي بين أفراد المجتمع ويفتح مجالا واسعا أمام تطور الفكر القانوني باعتبار أن القانون يعتبر أساس التنظيم الاجتماعي وهذا ما يفعل ايضا عملية التفاعل بين النظام القانوني وأفراد المجتمع ،فالفكر القانوني يتأثر بالثقافة السائدة داخل الجماعة[37].
يقابل النزعة القانونية لدى الفرد تأهيله لكي يقوم بتأدية دور الوقاية الخاصة بما يساهم في الحفاظ على التنظيم الاجتماعي ويقلل من خطر تعرضه لارتكاب الجريمة تستهدف نفسه أو ماله، وذلك بالعمل على تجنب الأسباب التي يمكن أن تعرضه للاعتداء. فأمام زيادة معدل الجريمة وفساد الأخلاق الفردية والجماعية أصبح لزاما أن يتحمل الأفراد جزء من مسؤولية الحفاظ على الأمن والنظام العام في حالة غياب السلطات العامة أو تعذر الاتصال برجال الأمن، فذلك يعتبر ضروريا وأسلوبا غير مباشر يستهدف استفحال الجريمة، فلا بد من تأهيل الأفراد وتربيتهم وتوعيتهم كي لا يصبحوا في وضع الضحية أو الجني عليهم وذلك بتجنب العوامل والأسباب المؤدية لذلك[38].
ثانيا: الاعتماد على ثقافة المجتمع كأساس لاعتماد وسائل وقائية
لا يمكن لسياسة الوقاية من الجريمة أن تنجح ما لم يتم تحديد المصالح الأولى للمجتمع تحديدا دقيقا، ويضاف إلى ذلك أنه يجب ربط السياسة الجنائية بالمنظومات الثقافية السائدة في المجتمع والتي تختلف من مجتمع إلى آخر، فالوقاية من الجريمة لا تقوم على اعتبارات نظرية فحسب، فالدقة في صياغة نصوص التجريم التي يفترض أنها تعبر عن ثقافة وقيم المجتمع يمهد الطريق لإيضاح المجال الذي تتحرك ضمنه سياسة الوقاية من الجريمة انطلاقا من الواقع الاجتماعي وشعور الأفراد بعدالة النصوصالجنائية التي تخاطبهم بالنهي أو الأمر، والتي تنمي روح التضامن لديهم من خلال ربطها بالثقافة والواقع الاجتماعي.
كما أن ضرورة حماية المصالح قد يدفع الشارع إلى تبني سياسة التجريم الوقائي ،ويقصد به أنه لتفادي المساس بالمصالح الضرورية يقوم المشرع بتجريم الأفعال ليس لذاتها وإنما لما قد يفضي إليه من اعتداء على مصلحة معينة بسبب التمادي في القيام بفعل ينطوي على خطورة نظرا لأنه يؤدي إلى تفجير الطاقة والميول الغريزي للأفراد الذين لا تتوافر لديهم قدرة السيطرة على أنفسهم، وهو ما يعرف في الشريعة الإسلامية بنظام سد الذرائع مثل نهي الشريعة الإسلامية على التبرج الذي قد يؤدي إلى ارتكاب جريمة الزنا، وشرب الخمر الذي قد يفضي إلى جريمة القتل أو القذف ،فثقافة المجتمع قد تساعد في الوقاية من الجريمة.
يمكن أن يعتمد القانون الوضعي على الشريعة الإسلامية لوضع نظام متناسق ومتكامل يهدف، بسياسة التجريم، إلى تنظيم المجتمع وتفادي وقوع جرائم خطيرة ،لأن الواقع أثبت ولا يزال يثبت أن شرب الخمر يتسبب في كثير من جرائم الاعتداء على حياة الأفراد وسلامتهم الجسدية، كما أن اللباس الفاضح يتسبب في وقوع جرائم الاعتداء على الأعراض وتفشي الجرائم الأخلاقية[39].
لا ينفي ذلك أن القانون الوضعي لم ينتبه إلى الدور الذي تلعبه سياسة التجريم في الوقاية من وقوع جرائم خطيرة، مثل تجريم بعض السلوكات الخطيرة كحمل السلاح دون الحصول على رخصة أو التسول والتشرد والتجمهر وتكوين عصابات، ولكن ينبغي مضاعفة الجهود التشريعية في هذا المجال وضرورة الانطلاق من أسس اجتماعية واقعية لتفعيل النظام الذي يستهدف الوقاية من أخطار الجريمة والحفاظ على النظام العام والأمن الاجتماعي من خلال على الحفاظ التنظيم الاجتماعي، باعتبار أن هناك سلوكات أشد خطرا على التنظيم الاجتماعي لم يتم بعد حضرها. 

الفقرة الثانية: دور المجتمع المدني في الوقاية من الجريمة 

تقوم مؤسسات المجتمع المدني بدور مهم في ترسيخ وتنمية الوعي الأمني لدى المواطنين والتعريف بالآثار السلبية للجريمة وتحفيزهم على المشاركة في تنمية المجتمع ومواجهة التحديات الطارئة وتعميق الولاء والانتماء للوطن وبالتالي القيام بدورهم في مساندة معظم الإجراءات التي تستهدف مواجهة الجريمة والوقاية منها. وفي هذا الإطار سنعرج على الدور الذي تقوم به بعض مؤسسات المجتمع المدني في الحد من مخاطر الجريمة.
أولا: الأسرة
تعتبر الأسرة وحدة اجتماعية تسهم في الوقاية من الجريمة، فبقدر ما تكون العناية بالأسرة تكون قدرتها على مواجهة الأعباء التي تتحملها في سبيل تربية أبنائها وحمايتهم من الانحراف.
فالأسرة أقوى سلاح يستخدمه المجتمع في عملية الوقاية من الجريمة، فدورها مهم في حماية أفرادها من الأمراض الاجتماعية، باعتبارها اللبنة التي ينصهر فيها شخصيات أفرادها وتكتسب فيها القيم البناءة وحب الوطن والانتماء إليه، حيث ثبت علميا أن التفكك الأسري يعطي الفرصة للأبناء للخروج على المألوف وعلىالسلوك المجتمعي القويم[40].
كما أن دور الأسرة في توعية أبنائها لا يمكن إنكاره في بناء أخلاقهم وتوجيه سلوكهم توجيها يتفق ومبادئ المجتمع، وتحمل المسؤولية وتبعاتها، وذلك من مرحلة التنشئة إلى مرحلة النضج، فلكل مرحلة سنية خصائصها وملامحها التربوية الخاصة ،فالمنزل هو المؤسسة الأولى التي يتلقى فيها الحدث على يد رب الأسرة علومه ومعارفه الأولية، فالطفل الذي يتربى في جو يسوده الود والتفاهم والثقة والاحترام والتقدير والتوازن بين التقييد والتحرر يصبح قادرا على وقاية نفسه ومجتمعه من الجريمة.
ثانيا: دور المؤسسات الثقافية والرياضية
يعتمد تقدم المجتمعات على توعية الشباب والاهتمام بارتقاء مستوى تعليمهم وتدريبهم والتزامهم بقيم المجتمع باعتبارهم يمثلون عماد وهدف المجتمع، وأكثر الفئات تأثرا بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها المجتمعات، وأكثر تأثرا بالإغراءات التي يمكن أن تدعوهم إلى جماعات ذات اتجاهات عقائدية متطرفة فضلا عن أنها الفئة المستهدفة بعمليات الهدم والتدمير.
ويتمثل دور المؤسسات الثقافية والرياضية في مكافحة الجريمة والوقاية منها في استيعاب طاقة الشباب وشغل أوقات فراغهم من خلال ما يلي:
- تنشيط حركة قصور الثقافة ومراكز الإعلام والعمل على إنشاء العديد منها فيالمناطق النائية لتشجيع الأطفال والشباب على التردد عليها لإظهار إبداعاتهم الفكرية والأدبية والفنية...
- عقد ندوات ومحاضرات عامة يحضرها جمهور شبابي من مختلف المستويات المهنية والاجتماعية والثقافية وفتح مجال المناقشة والحوار؛
- إجراء مسابقات فكرية وأدبية للشباب وتشجيعهم على الإبداع في كل المجالات؛
- إنشاء المكتبات العامة في الأحياء المختلفة حصوصا في أطراف المدن الكبرى والقرى البعيدة وتدعيم وتنشيط البرامج الموجهة للشباب؛
وتجدر الإشارة إلى أن هيئات المجتمع المدني كث يرة ومتنوعة (المؤسسات التعليمية ،الجمعيات، المؤسسات الدينية...) كلها تلعب دورا هاما في الوقاية من الجريمة.

خاتمة
لقد عرف العصر الحديث تطورات في شتى المجالات بما فيها المجال القانوني من أجل القضاء على الجريمة، فاجتمعت جميع المجهودات والاجتهادات مشكلة فيما بينها ما يعرف بالسياسة الجنائية. لكن بالرغم من كل هذه الجهود المبذولة للقضاء الفعلي على الجريمة، إلا أن ما يأرق العديد من الباحثين هو مشكل العود إلى الجريمة والأسباب الحقيقية التي تدفع المفرج عنه حديثا على العودة إلى إجرامه خاصة بالنسبة لفئة الشباب في جرائم المخدرات والآداب العامة. ففي ظل هذه الحقيقة المرة سعت معظم الدول بما فيها المغرب إلى الاعتماد على مجموعة من أساليب الوقاية والبدائل العقابية هدفها مكافحة الجريمة أو على الأقل التقليل منها، وذلك من خلال اختيار العقوبة أو التدبير الأنسب من أجل إصلاح الجناة وإعادة إدماجهم وجعلهم أفرادا صالحين في المجتمع .
_________________________
الهوامش:

[1] - قطاف تمام عمر، دور السياسة الجنائية في معالجة العود إلى الجريمة، مذكرة مكملة من متطلباتنيل شهادة الماستر في الحقوق، السنة الجامعية 2013-2014، ص ،1.
[2] ، ص ،137.
[3] - خليل رضوان، سياسة التجريم والعقاب، مجلة قرارات محكمة النقض، الغرفة الجنائية، العدد 20،
[4] - بالإضافة إلى سياسة التجريم.
[5] - سكري يوسف محمد، بدائل العقوبات السالبة للحرية في ضوء الاتجاهات الجنائية، مجلة الشريعةوالقانون، عدد 31، المجلد الأول ،2016، ص ،6.
[6] - محمد الإدريسي العلمي المشيشي، سياسة التجريم الواقع والآفاق، مجلة الحقوق، قراءات في المادة الجنائية ،2013، ص 10.
[7] - وهي أيضا كل إجراء أو تدابير من شأنها أن تؤدي إلى تغيير في أحد شروط حدوث الجريمة بحيثيحول دون حدوثها (تعريف فيلسون وكلارك.)
[8] - محمد ابن براهيم بن عبد العزيز الربدي، الوقاية من الجريمة بين الوقاية الموقفية والاجتماعية ،أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، الرياض ،2011، ص ،30.
[9] - محمد الإدريسي العلمي المشيشي، دراسة حول ملاءمة مشروع القانون الجنائي مع القواعد والمبادئالمعتمدة في منظومة حقوق الإنسان ،CNDH، طبعة 2012، ص ،60.
[10] - نفس المرجع، ص ،61.
[11] - إدريس الساحي، السياسة الجنائية في التشريع الجنائي المغربي،- دراسة تأصيلية تحليلية-، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص، السنة الجامعية 2016-2017، ص ،405.
[12] - لقد لاقت العقوبة الحبسية منذ القدم معارضة دائمة من طرف المفكرين منذ القرن السابع عشر لمايشوبها من مساوئ (بيكاريا، سالاي، جيزو.)...
[13] - يعد أحد أنواع العقوبات التي يصدرها المجتمع اتجاه من يقوم بالأفعال المخالفة لقواعده، وهو لا يقل أهمية عن العقوبات التي يفرضها القانون، وفي بعض الأحيان يصدر معها ويلازمها ويستمر حتى بعد تنفيذ العقوبة القانونية، بل قد يستمر حتى بعد وفاة من قام بالجريمة وينتقل إلى عائلته ويستمر معهم لأجيال (يعتبر كل من تاتينبوم، هوارد بيكير، أدوين ليموث، جورج هربرت ميد من أهم المنظرينلنظرية الوصم الاجتماعي.)
[14] - جمال المجاطي، بدائل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة في ضوء التشريع المغربي والمقارن –دراسة تحليلية وعملية- مكتبة الرشاد سطات، الطبعة الأولى ،2015، ص ،17. [15] - Jean christophe crocq, la guide des infractions, Huitième édition 2007, Dolloz, p, 353.
[16] - جمال المجاطي، مرجع سابق، ص ،185.
[17] - يعد اقتناع الجاني بالأفعال التي ارتكبها والندم على ما فعله وكذا استعداده لتنفيذ عقوبة العمل لفائدةالمنفعة العامة نوعا من الإصلاح يساعده بشكل كبير على الاندماج داخل المجتمع كشخص سوي.
[18] - محمد الإدريسي العلمي المشيشي، مرجع سابق، ص ،69.
[19] - جمال المجاطي، مرجع سابق، ص ،51.
[20] - بقراءة متأنية لمختلف القضايا المحالة على جميع محاكم المملكة نجد أن أغلب الأشخاص المتابعين فيها ارتكبوا جرائم بسيطة، مثلا إهمال الأسرة، السب والشتم، جرائم حوادث السير وبالتالي ما يمكن استنتاجه من خلال الواقع العملي أن الإجرام البسيط يشكل السواد الأعظم من الظاهرة الإجرامية بالمغرب مما يتطلب مع الأمد إعادة النظر في السياسة الجنائية المتبعة، واعتماد مقاربة جديدة للحد من الإجرامالبسيط خدمة لأهداف السياسة العقابية الحديثة وذلك على ضوء التوجهات الحديثة للعدالة الجنائيةالهادفة إلى إيجاد بدائل حديثة وتأهيل العقوبات الحبسية.
[21] - عرض مقدم من طرف طلبة الفوج العاشر، ماستر العدالة الجنائية والعلوم الجنائية، مادة علمالعقاب، تحت عنوان ''السياسة العقابية بالغرب واقع وآفاق''، السنة الجامعية 2018-2019، ص ،20.
[22] - لقد نصت المادة 1-174 من المشروع الحالي لقانون المسطرة الجنائية على أن ''المراقبةالإلكترونية تتم بواسطة جهاز إلكتروني يوضع بمعصم المعني بالأمر أو على جزء آخر بجسمه بشكليسمح برصد تحركاته داخل الحدود الترابية التي يحددها قاضي التحقيق.''
[23] - الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة الجنائية بالمغرب: أرقام ومعطيات، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، مديرية الشؤون الجنائية والعفو، مركز الدراسات والأبحاث الجنائية ،مجلة الشؤون الجنائية، العدد الثاني، أكتوبر 2012.
[24] - محمد حكيم حسين الحكيم، النظرية العامة للصلح وتطبيقاتها في المواد الجنائية، دار النهضةالعربية، القاهرة ،2002، ص ،44.
[25] - كريمة هرهار، تطور السياسة العقابية على ضوء مشروع القانون الجنائي، رسالة لنية شهادةالماستر في القانون الخاص، السنة الجامعية 2016-2017، طنجة، ص ،106.
[26] - عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص ،463.
[27] - أحمد عوض بلال، علم العقاب، دار الثقافة العربية القاهرة، الطبعة الأولى 1983 ص ،203.
[28] - محمد نيازي حتاتة، الدفاع الاجتماعي، السياسة الجنائية المعاصرة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة، الطبعة الثانية، ص 340.
[29] - أحمد عوض بلال، مرجع سابق، ص ،204.
[30] - محمد هشام أبو الفتوح، علم العقاب، دراسة تطبيقية، المكتب الجامعي الحديث بالإسكندرية مصر، ص 41-43.
[31] - 1961، الجزء الثالث، ص ،277.
[32] - بهنام رمسيس، علم الإجرام، علم طبائع المجرم، علم الاجتماع الجنائي، المعارف الاسكندرية، طبعة
[33] - عرض ألقي على طلبة الفوج العاشر من ماستر العدالة الجنائية والعلوم الجنائية في مادة علم العقاب المعمق تحت عنوان المؤسسات العقابية، السنة الجامعية 2018-2019.
[34] www.dgapr.ma -
[35] - سيدي محمد حمليلي، السياسة الجنائية بين الاعتبارات التقليدية للتجريم والبحث العملي في مادة الجريمة، أطروحة لنيل شهادة الدكتراه، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة أبو بكر بالقايد ،تلمسان الجزائر، السنة الجامعية 2011-2012، ص ،402.
[36] - سيدي محمد حمليلي، المرجع السابق، ص ،397.
[37] - عبد الرحمان محمد العيسوي، دوافع الجريمة، منشورات المجلة القانونية، بيروت لبنان، الطبعة الأولى ،2004، ص ،196.
[38] - علي محمد جعفر، داء الجريمة ''سياسة الوقاية والعلاج''، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، الطبعة الأولى ،2003، ص ،222.
[39] - سيدي محمد حمليلي، مرجع سابق، ص ،401.
[40] - أحمد مصطفى إبراهيم سليمان، دور مؤسسات المجتمع المدني في منع الجريمة، مركز الإعلام الأمني، ص ،8.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -