دور العرف في تحديد نطاق نصوص التجريم

مقال خاص بعنوان: دور العرف في تحديد نطاق نصوص التجريم 

مقال خاص بعنوان: دور العرف في تحديد نطاق نصوص التجريم

بقلم: الدكتور مازن خلف ناصر
أستاذ القانون الجنائي المساعد – قسم القانون العام
الجامعة المستنصرية – كلية القانون - العراق

المقدمة 
كما هو معلوم أن مبدا شرعية الجرائم والعقوبات يأبى أن يكون العرف مصدرا للتجريم والعقاب ولكن صيغة هذا المبدأ دفعت الى دخول العرف بطريقة مباشرة تارة وبطريقة غير مباشرة تارة أخرى في التجريم والعقاب فقول المشرع العراق في المادة (19/ثانيا) من دستور جمهورية العراق بانه " لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة أشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة "، كما ونصت المادة (1) من قانون العقوبات العراقي بأنه "لا عقاب على فعل أو امتناع إلا بناء على قانون ينص على تجريمه وقت اقترافه ولا يجوز توقيع عقوبات أو تدابير احترازية لم ينص عليها القانون"[1].
ومعنى ذلك أن التشريع يبقى هو المصدر الوحيد للقانون الجنائي، بينما ينعدم دور العرف تماما بالنسبة لهذا القانون، فلا يمكن مثلا للقاضي - عند عدم وجود نص تشريعي يجرم فعلا معيناً - أن يلجأ إلى العرف لسد النقص التشريعي وإدانة مرتكب الفعل استناداً إلى العرف[2].
ولكن على الرغم من إجماع الفقه على هذا الرأي، إلا أن البعض يؤكد وبحق على أهمية دور العرف في مجال التجريم، إذ يجوز الالتجاء إليه لتحديد أسباب الإباحة في بعض الجرائم، مثل إباحة الضرب في بعض الألعاب الرياضية العنيفة مثل الملاكمة والمصارعة وإباحة العمليات الجراحية والعلاج وحق تأديب الزوج لزوجته وتأديب الآباء ومن في حكمهم للأولاد القصر[3].
فضلا عن الدور التكميلي الذي يلعبه العرف كمصدر للقانون يأتي بعد التشريع في المرتبة، حيث يؤدي العرف وظيفة أخرى وهي معاونة التشريع في الأحوال التي يحيل فيها المشرع إلى العرف إما لتحديد مضمون نص معين أو لاستيفاء ما يوجد من نقص في اتفاق المتعاقدين أو كذلك للكشف عن النية المشتركة المتعاقدين.
ولا ينكر القانون الدولي الجنائي مبدأ الشرعية ولكنه يقره بطريقة مختلفة تبعًا لاختلف طبيعة قواعد القانون الدولي عن طبيعة قواعد القانون الداخلي، ومن ثم فإن مبدأ الشرعية في إطار القانون الدولي إنما يوجد بصورة تتفق مع طبيعة قواعد هذا القانون، وهذه الصورة تعني أن الفعل لا يشكل جريمة إلا إذا ثبت خضوعه لقاعدة من قواعد القانون الدولي تقرر له هذه الصفة، ولا يتطلب أن تأخذ هذه القاعدة شكلا معينًا، بل يكفي مجرد التحقق من وجودها، ولذلك يمكن التعبير عن مبدأ الشرعية في القانون الدولي بالإشارة إلى أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قاعدة قانونية[4].
وعلى ضوء المعنى المتقدم، سنلاحظ أن العرف المعاون للتشريع لا ينفصل عن القواعد التشريعية وإنما يأتي تابعاً لها، وهو بذلك يؤدي دوراً قريباً من الدور الذي تقوم به اللائحة التنفيذية للقانون، ولعل هذا هو ما دفع البعض إلى تسمية العرف المعاون للتشريع ب "العرف التنفيذي".
ومن هذا المنطلق يتدخل العرف بطريقة أو بأخرى في نطاق التجريم والعقاب، طالما أن قانون العقوبات يتجه الى كفالة الحماية للحقوق والمصالح المنصوص عليها في قوانين أخرى والتي تجعل من العرف مصدرا لها، كما هو الحال في القانون المدني والتجاري حيث ترتب عليه تسرب العرف في تحديد نطاق التجريم والعقاب[5].
وفي ضوء ذلك فإننا سوف نقسم هذا الموضوع الى ثلاثة مباحث، نخصص الأول الى بيان الدور المباشر للعرف في تحديد نطاق التجريم، والثاني الدور غير المباشر للعرف في تحديد نطاق التجريم وفي المبحث الثالث نبين دور العرف الدولي في توصيف أركان الجرائم الدولية وعلى النحو الاتي:

المبحث الأول
 الدور المباشر للعرف في تحديد نطاق التجريم في القانون الجنائي الوطني 

إن النص صراحة أو ضمنا على اللجوء الى العرف في تحديد نطاق التجريم نجده دائما في نطاق القوانين الجنائية الخاصة أو التكميلية، وهذا ما فعله المشرع الإماراتي والمشرع المصري، إذ نص قانون العقوبات الإماراتي في المادة (3) منه على أنه " تسري أحكام الكتاب الأول من هذا القانون على الجرائم المنصوص عليها في القوانين العقابية الأخرى مالم يرد نص فيها على خلاف ذلك، كما ونصت المادة (223) من القانون ذاته على انه " لا تسري احكام هذا الفرع عل أحوال التزوير المنصوص عليها في قوانين عقابية خاصة ".
وفي ذات الاتجاه سار المشرع المصري ونص في المادة (8) من قانون العقوبات واستخدم مفهوم القوانين واللوائح الخصوصية، فالمقصود مجموعة القوانين التي تواجه ظواهر إجرامية معينة لم يجابهها المشرع في قانون العقوبات مثل قانون الأسلحة وقانون مكافحة الإرهاب وقانون المرور العامة وقانون تعاطي المخدرات وغيرها من القوانين التي تشكل جزءا من ترسانة قانونية كبيرة نصت عليها التشريعات كافة.
بخلاف ذلك قانون العقوبات العراقي لم نجد فيه مثل هكذا مصطلح قد نُص عليه في ثنايا هذا القانون، ولكن هناك جملة من القوانين ذات الطابع العقابي وجدت الى جانب قانون العقوبات وهي قوانين خاصة أو مكملة له كقانون مكافحة الإرهاب وقانون مكافحة الاتجار بالبشر وقانون المرور العامة وقانون مكافحة تعاطي المخدرات، والتي استعانت ضمناً بالعرف لتحديد نطاق قواعد التجريم.
فمثلا نصت المواد (17 و 18 و 19 و 20 و 21 و 22 و 23 و 24 و 25) من قانون ضريبة الدخل العراقي على جملة من الواجبات المكلفون بها شريحة معينة ممن يلزمون بدفع الضريبة قررت على ضوء العرف وطبيعة كل صناعة أو تجارة أو عمل، ولا شك أن اللجوء الى العرف لتحديد نطاق الضريبة يؤدي بشكل غير مباشر الى تحديد نطاق التجريم، ففي جريمة الامتناع عن أداء الضريبة ينبغي أولا معرفة مقدار الضريبة وهو ما يتوقف في جانب منه على ما يسير عليه العرف.
ولعل من الأمثلة البارزة على اعتماد العرف ضمناً في تحديد نطاق التجريم ما نصت عليه المادتين (7 و8 و9) من قانون حماية المستهلك العراقي من التزامات للمجهز والمعلن والتي ينبغي تنفيذها، وقد عاقب المشرع العراقي على مخالفة هذه الالتزامات فنصت المادة (10) على أنه " أولا: يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن (3) ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تقل عن (1.000.000) مليون دينار أو بهما معاً كل من خالف أحكام المادة (9) من هذا القانون. ثانياً: يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد على (3) ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تزيد على (1.000.000) مليون دينار أو بهما معاً كل من خالف أحكام المادتين (7و8) من هذا القانون......".
وعلى الرغم من أن المشرع في قانون حماية المستهلك العراقي كما فعل المشرع في قانون حماية المستهلك المصري لم ينص صراحة على العرف، إلا انه حدد شروط قانونية أو ضمانات اتفاقية لتحديد نطاق التجريم، وكل ذلك يدخل العرف في تكوينه وأوضح الأمثلة على ذلك ما نصت عليه المادة (7) من القانون المذكور يلزم المجهز والمعلن بما يأتي:
أولاً: التأكد من تثبيت البيانات والمواصفات والمكونات الكاملة للمنتج وخاصة بدء وانتهاء الصلاحية وبلد المنشأ قبل طرحها في السوق أو قبل إجراء عملية البيع أو الشراء أو الإعلان عنها.
ثانياً: الالتزام بالمواصفات القياسية العراقية أو العالمية لتحديد جودة السلع المستوردة أو المُصنعة محلياً ويكون الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية هو المرجع لهذا الغرض وله الاستعانة بالجهات ذوات العلاقة.
ثالثاً: اتخاذ أسم وعنوان تجاري وقيدهما في السجلات الأصولية لدى الجهات المختصة ومسك السجلات المعتمدة لنشاطهِ.
رابعاً: الاحتفاظ بوصولات البيع والشراء أو نسخها وعرضها أو تقديمها إلى الجهات الرسمية المختصة عند طلبها أو تمكينها من الاطلاع عليها في محله دون أية معارضة.
خامساً: عدم الترويج بأية وسيلة من وسائل الإعلام والنشر والدعاية للسلعة أو الخدمة التي لا تتوفر فيها المواصفات القياسية المحلية أو الدولية المعتمدة.
سادساً: أن يدون على جميع مراسلاته ومطبوعاته وإعلاناته اسمه التجاري وعنوانه وأية علامة يعتمدها قانوناً أن وجدت.
سابعاً: الحضور بنفسه أو بمن يمثله قانوناً أمام الجهات المختصة أو ذوات العلاقة بعمله خلال (7) سبعة أيام من تاريخ تبلغه للإجابة عن أية مخالفة لأحكام هذا القانون أو لإعطاء أية معلومات بشأن السلعة أو الخدمة التي يقوم بتجهيزها أو الإعلان عنها.
ثامناً: السماح للجهات الرسمية ذوات العلاقة بإجراء الكشف والتفتيش في مكان عمله للحصول على عينات من مخزونه ومعروضه بغية إجراء الفحوصات عليها لدى الجهات المعتمدة رسمياً لتقرير صلاحيتها للاستهلاك البشري.
وكذلك نصت المادة (8) على أنه " مع عدم الإخلال بحكم البند (ثانياً) من المادة (6) من هذا القانون، يكون المُجهز مسؤولاً مسؤولية كاملة عن حقوق المستهلكين لبضاعته أو سلعته أو خدماته وتبقى مسؤوليته قائمة طيلة فترة الضمان المُتفق عليها في الفقرة (جـ) من البند (أولاً) من المادة (6) من هذا القانون ".
أيضا نصت المادة (9) على أنه " يحظر على المُجهز والمعلن ما يأتي:
أولاً: ممارسة الغش والتضليل والتدليس وإخفاء حقيقة المواد المكونة المواصفات المعتمدة في السلع والخدمات كافة.
ثانياً: استعمال القوة أو الممانعة مع لجان التفتيش وممثلي الجهات الرسمية ذوات العلاقة ومنعهم من القيام بواجباتهم المناطة بهم أو عرقلتها بأية وسيلة كانت.
ثالثاً: إنتاج أو بيع أو عرض أو الإعلان عن:-
أ‌- سلع وخدمات مخالفة للنظام العام أو الآداب العامة.
ب‌- أي سلع لم يدون على أغلفتها أو علبها وبصورة واضحة المكونات الكاملة لها، أو التحذيرات (إن وجدت) وتاريخ بدء وانتهاء الصلاحية.
رابعاً: إخفاء أو تغيير أو إزالة أو تحريف تاريخ الصلاحية.
خامساً: عادة تغليف المنتجات التالفة أو المنتهية الصلاحية بعبوات وأغلفة تحمل صلاحية مغايرة للحقيقة ومضللة للمستهلك.
وقد عاقب المشرع العراقي على مخالفة هذه الالتزامات في المادة (10) من قانون حماية المستهلك بأنه: 
أولاً: يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن (3) ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تقل عن (1.000.000) مليون دينار أو بهما معاً كل من خالف أحكام المادة (9) من هذا القانون.
ثانياً: يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد على (3) ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تزيد على (1.000.000) مليون دينار أو بهما معاً كل من خالف أحكام المادتين (7و8) من هذا القانون.
ثالثاً: يُمنح المُخبر عن أي جريمة يعاقب عليها هذا القانون مكافأة مالية لا تقل عن (100000) مئة ألف دينار ولا تزيد على (1.000.000) مليون دينار تسدد من الجهة ذات العلاقة التي يتم الإخبار أمامها إذا أدى الإخبار إلى إدانة الفاعل واكتساب القرار درجة البتات.

المبحث الثاني
الدور غير المباشر للعرف في تحديد نطاق التجريم في القانون الجنائي الوطني

يتمثل الدور غير المباشر للعرف في مجال التجريم في ثلاثة مظاهر، يتمثل الأول في الرجوع الى قواعد غير جنائية لتحديد عناصر بعض الجرائم أو شرطها المفترض، أو الرجوع الى العرف ذاته لتحديد اركان بعض الجرائم أو الرجوع الى العرف القضائي لتحديد بعض المفاهيم.
فالنسبة للمظهر الأول نرى بأن قانون العقوبات يمارس في بعض الأحيان دورا حمائيا يتمثل في حماية بعض المصالح المنتمية الى قوانين أخرى مثل حق الملكية في القانون المدني وحماية الأسرة في قانون الأحوال الشخصية[6]، ولا شك أن هذه المفاهيم يرجع في تحديدها الى القانون الذي ينتمي اليه، مثل القانون المدني والتجاري والإداري وقانون الأحوال الشخصية، وممارسة هذا الدور لا تعني دخول هذه العناصر برمتها في قانون العقوبات وسريان ذات قواعدها عليها، إذ تبقى دوما محتفظة بالنظام القانوني الذي ينتمي اليه حتى ولو أضفى عليها قانون العقوبات بعض ملامحه[7].
فمثلا نجد في جريمة السرقة انه يشترط في موضوعها أن يكون المال مملوكا لغير الجاني ولا شك ان تحديد هذا الشرط يستوجب الرجوع الى احكام قانون المدني وهذه الاحكام تختلف تبعا لما إذا كان المنقول موضوع السرقة معينا بالذات او محددا بالنوع.
أما بالنسبة للمظهر الثاني يكون الرجوع في تحديد اركان بعض الجرائم للعرف بطريقة مباشرة أو على الأقل الرجوع الى ضوابط مستمدة من العرف، والفارق بين الحالة الأولى والثانية، أنه في الأخيرة يكون الرجوع فيه للعرف بطريقة غير مباشرة عن طريق القواعد القانونية التي يكون العرف من بين مصادرها، بينما في الحالة الأولى فيتم الرجوع الى العرف مباشرة لتحديد اركان بعض الجرائم[8].
ولعل أوضح الأمثلة على ذلك تحديد المقصود بالعورة في جريمة هتك العرض، حيث يلجأ القضاء عادة الى العرف لتحديد مضمون هذا الاصطلاح القانوني وكذلك تحديد صفة الإخلال بالحياء في جريمة الفعل الفاضح بالحياء[9].
ويبدو ذلك في قانون العقوبات الفرنسي حيث تنص المادة (624/2) بأنه " يعاقب بالغرامة المقررة للمخالفات من الفئة الرابعة كل من يتواجد في طريق عام أو شك أن تحديد مفهوم هذا الاصطلاح الأخير يستوجب الرجوع الى الأخلاق العامة في الوقت الذي نشرت فيه هذه الرسائل، وقد طبق القضاء الفرنسي ذات الحكم عند تعريف المقصود بالتدليس في المادة (213) من قانون حماية المستهلك.
أما المظهر الثالث فإنه يتمثل في الرجوع الى العرف القضائي لتفسير بعض المصطلحات القانونية على نحو أصبح عرفا مستقرا لا خروج عليه وتتابع القضاء على الأخذ بهذا التفسير يمكن اعتباره من قبيل العرف القضائي وذلك في الحالات التي يكون فيها المفهوم غير واضح ويترك للقضاء والفقه تحديده[10].
ويبدوا واضحا في تحديد مضمون العورة في جريمة الاعتداء على العرض فالمشرع المصري يتحدث عن هتك العرض، وللوصول الى مفهوم هتك العرض استقر القضاء في مصر على اللجوء الى فكرة العورة وفي تفسير العورة المقصود بالعورة استقر القضاء المصري على انها تلك التي لا يجوز ا[11]لعبث بحرمتها والتي لا يدخر أي أمرئ وسعا في صونها عمل قل أو جل من الأفعال التي تمسها أو هي جزء داخل في خلقة كل انسان وكيانه الفطرين[12]، وقد استقر القضاء على تحديد مفهوم هذه العورة بالرجوع الى العرف ، وفي ذلك تقول محكمة النقض المصرية " إن المرجع في تحديد ما يعد عورة وما لا يعد إنما يكون بالرجوع الى العرف الجاري وأحوال البيئات الاجتماعية "[13].
ولعل من أوضح صور العرف القضائي والذي أصبح ملزما على الرغم من عدم توافقه مع ظاهر نصوص قانون العقوبات ما استقر عليه القضاء بخصوص المسؤولية الجنائية للفاعل عن النتيجة المحتملة، فوفقا لنص المادة (53) عقوبات عراقي من أنه " يعاقب المساهم في جريمة فاعلاً او شريكاً – بعقوبة الجريمة التي وقعت فعلاً ولو كانت غير التي قصد ارتكابها متى كانت الجريمة التي وقعت نتيجة محتملة للمساهمة التي حصلت".
من الواضح أن هذا النص يقرر مسؤولية جنائية للشريك عن جريمة غير التي تعمد ارتكابها متى كانت هذه الجريمة نتيجة محتملة لأفعال الاشتراك واستنادا لألفاظ النص، فإن هذه المسؤولية مقصورة على الشريك دون الفاعل.
ولا شك أن هذا النص يجعل الشريك في مركز أسوء من الفاعل مع غيره، مع أن هذا الأخير أشد إجراما من الأول، على أساس أن الشريك يسأل عن الجريمة المحتملة دون الفاعل مع غيره.

المبحث الثالث
دور العرف في تحديد نطاق التجريم في القانون الجنائي الدولي

يعود الاعتماد على العرف كمصدر من مصادر القانون الجنائي الدولي إلى عام 1948 وذلك في مشروع الاتفاقية المنشئة لمحكمة جنائية دولية، حيث وضعت هذه الاتفاقية العرف على رأس قواعد القانون التي يمكن أن يطبقها القضاء الجنائي الدولي إلى أن يعتمد في حينها اتفاقية تحدد المبادئ الكبرى للقانون الجنائي الدولي وتصنف الجرائم وتسن العقوبات[14].
وكان العرف قد ظهر قبل هذا التاريخ في مشروع وضعته رابطة القانون الدولي كمشروع نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية سنة 1926 وكان ينص على أن العرف الدولي برهان على عرف عام مقبول له قوة القانون، ثم عادت الرابطة عام 1984 في مشروع أخر وضعته بهذا الصدد لتنص في المادة (22) منه على ((تأخذ المحكمة بتعريف جريمة محددة على النحو المنصوص عليه في الاتفاقيات السارية في الدول المتعاقدة المعنية، وتطبق المحكمة القانون الدولي بما في ذلك المبادئ العامة للقانون التي تعترف بها الدول)) [15].
أما على الصعيد الفقهي فقد سبق للوترباخت منذ عام 1944 أن ذهب إلى تقرير وجوب التفرقة بين مخالفات قوانين الحرب وجرائم الحرب مقترحا تعريفا لجرائم الحرب يستند إلى أنها انتهاك لقواعد أساسية مقبولة أو على أساس أنها انتهاك لمبادئ القانون الجنائي، مما يوجب تغليب الطابع العرفي لقواعد هذا القانون على قواعده المكتوبة.
وقد ذهبت الدائرة الاستئنافية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في حكمها في قضية Tadic إلى ضرورة توافر الشروط التالية في الجريمة حتى يمكن أن تكون محلا للاتهام طبقا للمادة الثالثة من نظام المحكمة (انتهاكات قوانين وأعراف الحرب) [16]:
أ- يجب أن ينطوي الانتهاك على خرق لقاعدة من قواعد القانون الدولي الإنساني.
ب ـ يجب إن تكون القاعدة العرفية عرفية بطبيعتها فإذا كانت جزءا من القانون ألتعاهدي فيجب توافر الشروط اللازمة في هذا الشأن
ج- يجب إن يكون الانتهاك خطير بمعنى إن يشكل خرقا لقاعدة تحمي قيما هامة كما يجب إن يكون الخرق مؤديا إلى نتائج خطيرة بالنسبة للضحية.
د- يجب إن يكون انتهاك القاعدة مؤديا في ضوء القانون العرفي والاتفاق إلى ترتيب المسؤولية الجنائية الفردية بالنسبة للشخص المنسوب إليه الفعل))، وبناء على ذلك يمكن القول: -
1- إن كل انتهاك لقواعد قوانين وأعراف الحرب في قواعد القانون الدولي الإنساني يعد جريمة حرب.
2- إن جرائم الحرب ليست محصورة بعدد معين بذاته من الجرائم لان كل انتهاك لقواعد القانون الدولي الإنساني يعد جريمة.
3- أنه إذا كان القانون الدولي الإنساني لازال يعرف التفرقة بين النزاع المسلح الدولي والنزاع المسلح الغير دولي، فإن جرائم الحرب يمكن أن تقع في إطار كلا النوعين من النزاعات المسلحة.
4- إن تحديد قاعدة القانون الدولي الإنساني التي جرى انتهاكها أمر مهم ولازم لتوفر ركن أساسي في جريمة الحرب، فإذا كانت هذه القاعدة قاعة عرفية، فليست هناك مشكلة من أي نوع.
أما إذا كانت القاعدة تنتمي إلى القانون المكتوب، فهنا يتعين أن تتوافر شروط الالتزام بالقاعدة بالنسبة للدول الأطراف فيها.
مع ملاحظة أن القواعد الواردة في اتفاقية لاهاي تعد جميعا من القانون العرفي حسبما انتهت إليه محكمة نورمبرغ، كما إن الفقه الدولي المعاصر مستقر على اعتبار اتفاقيات لعام 1949 بكاملها قانون عرفي، أما البروتوكولان الإضافيان لسنة 1977 فإن جانب من الفقه لازال يشكك في طابعهما العرفي.
5- إن القانون الدولي الإنساني لا يضع عقوبة لكل جريمة حرب وإنما يترك هذه المهمة لتشريعات الدول المختلفة في إطار مسئوليتها بالعمل على قمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني والعقاب عليها.
إن العمل بشأن توصيف أركان الجرائم يستند إلى ما أوردته المادة (9) من النظام الأساسي والتي تنص على إن تحديد أركان الجرائم سيساعد المحكمة في تفسير وتطبيق المواد (6) (الإبادة الجماعية) والمادة (7) (الجرائم ضد الإنسانية) والمادة (8) (جرائم الحرب) وهو ما يوضح إن وثيقة أركان الجرائم سيتم استخدامها كأداة مساعدة للتفسير ولن تكون ملزمة للقضاة، مع العلم أن تلك الوثيقة يجب أن تكون متسقة مع النظام الأساسي[17].
وقد تركزت مفوضات مجموعة العمل الدولية بالذات على وثيقة شاملة قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ومقترحات مشتركة من جانب سويسرا والمجر وكوستاريكا ووثائق أخرى قدمتها الوفود اليابانية والاسبانية والكولومبية.
وقد أعدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر دراسة تتصل بكل جرائم الحرب وتم تقديم تلك الدراسة بناء على طلب سبع دول هي (بلجيكا، كوستاريكا، فنلندا، المجر، كوريا الجنوبية، جنوب إفريقيا، وسويسرا) [18].
وقد استندت وثيقة جرائم الحرب المكونة من سبعة أقسام إلى مراجع ذات الصلة بالموضوع وبحث وتحليل مستفيض لأدوات القانون الدولي الإنساني وقانون case law المستمد من المحاكمات السابقة الخاصة بجرائم الحرب على المستوى الدولي والقومي مثل محاكمات ليبزغ بعد الحرب العالمية الأولى ومحاكمات نورمبرغ وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية، قوانين الدعوى، قرارات المحاكم الخاصة ad hoc Tribunals بيوغسلافيا السابقة ورواندا واستفادت الوثيقة أيضا من أدوات قانون حقوق الإنسان وقوانين الدعوى الخاصة بلجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان والمحكمة الأمريكية المتبادلة لحقوق الإنسان وإذا كان من المقرر إن القانون الدولي الجنائي هو فرع من فروع القانون الدولي العام فمن الواجب إن تكون له خصائص هذا الأخير وفي مقدمتها الصفة العرفية لقواعده وتترتب على هذه الصفة العرفية الدولية نتيجتان[19]:-
الأولى – صعوبة التعرف على الجريمة الدولية ذلك إن مثل هذا التعريف إنما يتطلب الاستقراء الدقيق للعرف الدولي وهو أمر تكتنفه صعوبات عديدة، ومع ذلك فانه يجب الاحتكام إلى الأفكار التي يقوم عليها العرف وهي العدالة والأخلاق والصالح الدولي العام وهذه الأفكار هي التي أسبغت صفة الجريمة على حرب الاعتداء وعلى الجرائم ضد الإنسانية.
الثانية- غموض فكرة الجريمة الدولية ويرجع هذا الغموض إلى كونها غير مكتوبة مما يجعل من العسير على القاضي الدولي إن يتحقق من تطابق الفعل المرتكب للنموذج العرفي لتلك الجريمة وحتى على فرض النص عليها ضمن نصوص معاهدة أو اتفاقية دولية، فإن مثل هذا النص لا يفعل أكثر من الكشف عن الصفة غير المشروعة للفعل دون تحديد ما ينهض عليه من أركان وعناصر وشروط ولعل تعريف العدوان وما أثاره من خلافات خير شاهد على ذلك.

الخاتمة
بعد أن انتهينا بفضل الله وتوفيقه من دراسة دور العرف في تحديد نطاق نصوص التجريم في القانون الداخلي والدولي، ومن خلال البحث في الجوانب النظرية لموضوع البحث تبين أن للعرف دور كبير في نطاق القوانين غير الجنائية ولكن هذا الدور ينحسر كثيرا عندما يتعلق الأمر بالقانون الجنائي والذي تحكمه القاعدة المألوفة بأنه " لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ".
فالقاعدة المكتوبة هي الأصل في نطاق التجريم، مع إجازة الإحالة الى قوانين أخرى فضلا عن كون بعض الجرائم ترتبط بطريقة أو بأخرى بمفاهيم غير جنائية كما هو الحال في السرقة وخيانة الأمانة، وهذه القوانين تجعل من مصادرها العرف فمن خلال ذلك بدأ العرف يتدخل في القوانين الجنائية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، بل إن الكثير من الاعتبارات والوقائع الدولية جعلت المشرع الدولي يحيل الى العرف الدولي لبيان احكام بعض الجرائم ذات الطابع الدولي البحت.
ولا يمكن بطبيعة الحال تجاهل العرف القضائي سواء أمام المحاكم الوطنية والدولية وبصفة خاصة ما يتعلق بتفسير مفهوم الفاعل والشريك عند تحديد المسؤولية الجنائية، فقد تحول هذا التفسير المتواتر الى عرف ملزم تسير عليه الاحكام الجنائية ذات الصلة.
ولا يمكن بطبيعة الحال إنكار دور العرف في بعض القواعد الجنائية في القوانين ذات الصلة، بل يمكن القول وبدون شك ان الكثير من قواعد التجريم نشأت في بدايتها كقواعد عرفية تحولت بعد ذلك الى قواعد مكتوبة.
--------------------------------------
الهوامش:
[1] د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة، ط3، 1991، ص4.
[2] د. احمد عبد الظاهر، القوانين الخاصة، النظرية العامة، دار النهضة العربية، القاهرة، 2011، ص38.
[3] د. حامد راشد، القوانين الخاصة أو الخصوصية، مطبوعات كلية الشرطة، أبو ظبي، 1992، ص56.
[4] د. أحمد أبو الوفا، الملامح الأساسية للمحكمة الجنائية الدولية. المحكمة الجنائية الدولية، إعداد شريف عتلم، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ط 5، 2008.
[5] د. عبد الحميد إسماعيل نصر شريف، ذاتية التجريم والعقاب في الجرائم الضريبية تأصيلا وتحليلا، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق، جامعة القاهرة، 2012، ص46.
[6] د. أمين مصطفى محمد، النظرية العامة لقانون العقوبات الإداري، ظاهرة الحد من العقاب، دار الجامعة للنشر، 1993، ص13.
[7] أحمد بن رافع حامد التعزيزي المطيري، العرف في التشريع الجنائي، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، كلية الدراسات العليا، قسم العدالة الجنائية، رسالة ماجستير، 2010، ص87.
[8] د. أشرف توفيق شمس الدين، الضوابط الدستورية لنصوص التجريم والعقاب في قضاء المحكمة الدستورية العليا، الجزء الأول، مجلة المحكمة الدستورية العليا بمصر: العدد 13، 2008، ص54.
[9] د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات، القسم العام، دار النهضة العربية، القاهرة، 2015، ص96.
[10] نقض 16نوفمبر1931، مجموعة القواعد القانونية، ج1، رقم288، ص354،
[11] نقض 7 يونيو 1965، مجموعة احكام محكمة النقض، س16، رقم111، ص556.
[12] نقض 22يناير1934، مجموعة القواعد القانونية، ج3، رقم372، ص266.
[13] نقض 9يونيو 1969، مجموعة احكام محكمة النقض، س24، رقم242، 1191، نقض 28مارس1977، مجموعة أحكام محكمة النقض، س28، رقم86، ص410.
[14] د. سوسن تمر خاب بكه، الجرائم ضد الإنسانية، ط 1، من مشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 2006، ص56.
[15] د. سوسن تمر خاب بكه، مصدر سابق، ص59.
[16] د. ضاري خليل محمود، المبادئ الجنائية العامة في النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية، مجلة دراسات قانونية، بيت الحكمة، 2، بغداد، 1999.
[17] د. ضاري خليل محمود وباسيل يوسف، المحكمة الجنائية الدولية هيمنة القانون، أم قانون الهيمنة، بيت الحكمة، بغداد، 2003، ص98.
[18] د. عبد الرحمن حسين علام، المسؤولية الجنائية في نطاق القانون الدولي الجنائي، الجز الأول، دار النهضة العربية، القاهرة، 1988، ص50.
[19] علي محمد جعفر. الاتجاهات الحديثة في القانون الدولي الجنائي، ط 1. المؤسسة الجامعي للدراسات والنشر والتوزيع. بيروت، 2007، ص87.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -