تأديب الأطباء بالمغرب

رسالة بعنوان: تأديب الأطباء بالمغرب "أطباء القطاع العام نموذج" PDF

تأديب الأطباء بالمغرب "أطباء القطاع العام نموذج" PDF

مقدمة
يعتبر الحق في سلامة الجسد من أهم الحقوق التي يتمتع بها الإنسان، و هو من أهم المبادئ التي كرستها معظم تشريعات الدول، إذ هو من أول الحقوق التي تحرص على حمايتها، فالجسم الإنساني من أهم العناصر اللازمة لوجوده، لذلك فهو أكثر عناصر الحياة الإنسانية تقديسا، و لا يجوز أن يكون محلا لأي إتفاق، فالمساس به يعد انتهاكا لحرمة الكيان الجسدي، فحق الإنسان بجسده يعتبر من الحقوق اللصيقة به.و قد أدلت الشريعة الإسلامية الغراء اهتماما و عناية فائقتين للإنسان، الذي كرمته و فضلته عن سائر المخلوقات الأخرى، مصداقا لقوله تعالى:" و لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" ،فكفلت له حرمة شديدة، إذ منعت أي اعتداء أو تعذيب له أو مساسا به، و قررت مبدئ حرمة جسم الإنسان. كما تحمي حرية الإنسان في جسده قاعدة عدم المساس بالجسم، غير أنه ترد على هذه القاعدة استثناءات أهمها الاعتراف بمشروعية العمل الطبي على جسم الإنسان الذي يتجسد في تدخلات الطبيب العلاجية و الجراحية التي تؤدي بالمساس بهذا الجسم تبررها الظروف المتمثلة من جهة في شفاء المريض من العلة و المرض الذي يعيقه عن ممارسته لأنشطته الجسدية و العقلية و النفسية بصورة طبيعية وهي مصلحة خاصة به، و من جهة أخرى تجيز المصلحة العامة المتمثلة في حفظ الصحة العامة في المجتمع.فالطب من الأعمال التي لها مساس بحياة الإنسان، و هو يهدف إلى معالجة المريض و التخفيف من آلامه. و قد عرفت مهنة الطب جذورها مند القدم و تطورت عبر العصور، فالبابليون امتازوا بالتشديد في معاملة أطبائهم، و عن ذلك
و عند الإغريق كان أفلاطون يشكو من عدم الرقابة على الأطباء فيقول:" إن الأطباء يأخذون أجرهم سواء شفوا المرضى أم قتلوا". غير أن الطبيب كان يسأل جنائيا عن أحوال الوفاة التي ترجع إلى خطأ الطبيب في معالجة المريض. كما نجد الرومان في البداية كان الطبيب الذي يخطأ معرضا لعقاب شديد تبعا لمركزه الاجتماعي، فهو ينفى إلى أحد الجزر إذا كان من الطبقة الراقية، و يعدم إذا كان من الطبقة الدنيا، غير أنه مع التطور الذي عرفته روما، اكتسب الأطباء نوعا من الحصانة بعدما انتهى القانون الروماني إلى التسليم بأن الطب مهنة تقوم على التخمين و لم يعد الطبيب يعاقب إلا على الأخطاء التي يرتكبها جهلا، إذ اعتبره القانون الروماني كمن يرتكب غشا فأوجب مسؤوليته.
و لم يكن يسمح للطبيب عند اليهود بممارسة المهنة إلا بعد الحصول على إذن من مجلس القضاء المحلي، و كان يسأل عن أخطائه إذا خالف أصول المهنة أو كان القصد من عمله شئ آخر غير شفاء المريض ، أما عند المسيح فلم يكن لهم أثر في تحسين الحالة من الناحية الطبية، لاعتقادهم بأن الحياة الدنيا ليست إلا تجربة في سبيل حياة أخرى أبدية، يجب الاستعداد لها بالزهد و التقشف، و قيل أن من الكفر أن يلجأ الإنسان طلبا للعلاج إلى أطباء الأرض بدلا من زيارة قبور القديسين، في حين نجد القانون الكنسي قد اعتنى بالشروط التي تبيح مزاولة المهنة على مقتضاها، و كان الأقباط الشرقيون إذا مات مريض بسبب عدم عناية الطبيب أو جهله يسلم الطبيب إلى أسرة المريض و يترك لها الخيار بين قتله أو اتخاذه رقيقا، أما عند الأقباط الغربيون فإنهم يسترجعون الأتعاب التي أعطيت للطبيب مقابل الشفاء، فإذا لم يشفى المريض اعتبروا العقد غير منفذ و بالتالي لا يحق للطبيب مطالبة المريض أو ورثته بالأجر.
أما في الإسلام فقد اعتبر الطبيب المثالي ذو الأخلاق الكريمة، عليه أن يراجع المريض مهما كانت منزلته و علة مكانته، فهو ضعيف بمرضه و على الطبيب أن يكون أهلا للاستجابة، كما يجب على الطبيب أن يكون حاذقا في صناعته، و له إلمام و معرفة بقواعد مهنته، و قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم :" من تطبب و لم يعرف الطب فهو ضامن" . و يجمع الفقهاء المسلمين على أن الطبيب إذا تدخل لعلاج مريض دون توفر إذن المشرع و إذن المريض أو توفر حالة يستثنى فيها اشتراط الإذن، فإنه يعتبر قد خرج من دائرة الإباحة إلى نطاق التعدي و يصبح مسؤولا عن ذلك التجاوز، و إذا توفر الإذن فإن الفقهاء و من بينهم المالكية يشترطون لقيام المسؤولية الطبية ارتكابه أثناء مزاولته مهامه خطأ فاحشا.
إن الحق في سلامة الجسم هو مصلحة للفرد محمية فقها و قضاءا لكي يبقى جسمه عاديا و طبيعيا، يحتفظ بتكامله الجسدي، و يتحرر من الآلام البدنية عن طريق العلاج، هذا الأخير يكون بواسطة مهنة علمية نبيلة تسمى الطب، يقوم بتأديتها إنسان مختص يدعى الطبيب. و من ثم فإن مهنة الطب هي مهنة شريفة تهدف أساسا إلى خدمة الإنسان و الإنسانية و التخفيف من آلام الأفراد و أوجاعهم، و بالتالي يفترض في الطبيب أن يكون ذا كفاءة عالية و مسايرا لأحدث سبل و وسائل العلاج.
غير أن الطبيب و هو بصدد مباشرة مهنته سواء بعلاج المريض أو بإجراء جراحة له، إنما يأتي أعمالا تمس بسلامة جسمه أو تؤثر على صحته كإحداث جروح بجسمه، أو إستئصال عضو من أعضائه، أو إعطاءه جرعة من دواء معيّن قد يؤثر على صحته.
و في كل هذه الحالات يكون الطبيب معرضا للخطأ و الصواب، و قد يؤدي هذا الخطأ إلى تعريض حياة المريض للخطر.
فإذا كان الفكر البشري قد عرف منذ زمن بعيد المسؤولية القانونية للأطباء عن أخطائهم العمدية و غير العمدية (1)، فإن هذه المسؤولية لم تحض في يوم من الأيام بمثل هذا الإهتمام الذي تلقاه في عصرنا الحالي، نظرا للتطور الكبير الـذي عرفه العلم و تقدمه في شتى المجالات، و بإزدياد الاكتشافات و الوسائل العلمية و تطوّرها.
و رغم أن الفقه و القضاء إستقرا منذ مدة طويلة على أن إلتزام الطبيب تجاه مريضه هو إلتزام ببذل عناية لا بتحقيق نتيجة ، لكن إذا قصر الطبيب في بذل العناية المطلوبة منه، أو إذا أخطأ و لو بدون قصد، أو أهمل أو تجنّب الحيطة في ذلك أو حتى إذا أبدى جهلا بالحقائق العلمية المستقرة و المتعارف عليها ألا تجب مساءلته ؟
مع التطوّر العلمي الذي عرفته مهنة الطب بدأ الإلتزام ببذل العناية يتضح شيئا فشيئا، إذ أصبح على عاتق الطبيب بذل اليقظة التي تقتضيها أصول المهنة على ضوء التطوّر العلمي، و إلاّ فإنه يمكن أن تقوم المسؤولية عن مخالفة أحكام هذا الإلتزام.
و لقد توسع إطار مساءلة الأطباء حديثا في الدول المتقدمة بسبب الوعي الذي أصبح ملحوظا من خلال تعدّد رفع دعاوى المسؤولية ضد رجال الطب، و هذا لمطالبتهم بالتعويض عما يرتكب من أخطاء مهنية، و ذلك لنضوج الوعي لدى المرضى، حتى أنهم أصبحوا يبحثون عن إثبات خطأ الطبيب، و بالتالي مسؤوليته في كل الأحوال.
فالطبيب المخطئ يجد نفسه أمام عدّة مسؤوليات مختلفة، فإذا كان فعل الطبيب يشكل جريمة فإنه يتعرض إلى المساءلة الجنائية، أما إذا كان فعله قد أصاب المريض بأضرار مادية أو معنوية تستوجب التعويض، فإنه يتعرض إلى المساءلة المدنية، و إذا كان الطبيب يعمل لدى جهة إدارية كوزارة الصحة مثلا سيتعرض للمسؤولية التأديبية و الإدارية.
و من الأهمية بمكان تحديد زاوية البحث في هذا الموضوع، حيث تقتصر دراستنا على تأديب الأطباء بالمغرب بحيث نخصصها لأطباء القطاع العام الذين ارتكبوا خطأ طبي، باعتباره الركن الأول لقيام هذه المسؤولية إلى جانب ركني الضرر والعلاقة السببية، و تجدر الإشارة إلى أن المساءلة التأديبية تعتبر ضمانة جوهرية
لانتظام العمل داخل الإدارة بشكل طبيعي، وكل إخلال أو تهاون بالواجبات الوظيفية التي تفرضها القوانين واللوائح تعرض العمال بالإدارة للمساءلة التأديبية ، وباعتبار هذا الأخير هو «ذلك الشخص الذي يشتغل بوظيفة لها من الحقوق، وما عليها من الواجبات في إطار ضوابط وقواعد قانونية محددة» ، فالتأديب بهذا المعنى عقاب الطبيب لإخلاله بالواجبات المفروضة عليه أو خروجه عن مقتضيات الواجب المهني أو القيام بعمل من شأنه أن يمس بكرامة مهنة الطب، وهذا التقدير يرجع إلى السلطة الإدارية.
إذن فالمقصود بالتأديب بصفة عامة هو : مجموعة من القواعد القانونية المنظمة لتوقيع الجزاء المقرر للأخطاء التأديبية المرتكبة خلال أو بمناسبة ممارسة العمل الطبي الذي ينعكس سلبا على حسن سير المرافق العامة.
وقد احتل النظام التأديبي جانبا مهما من اهتمامات المشرع عند اضطلاعه بوضع القوانين المنظمة و هذا يتضح من خلال الظهير الشريف رقم 44-84-1 الصادر في 21 مارس 1984، وإذا كان النظام التأديبي قد كفل للإدارة سلطات واسعة، فقد كان من الضروري حماية حقوق الطبيب بوصفه موظف في مواجهة الإدارة، فهذه الحقوق قد تتعرض أحيانا للانتهاك، ومن خلال هذه العلاقة الجدلية بين حقوق الأفراد وحرياتهم من جهة وسلطة الإدارة المتسعة من جهة أخرى، نشأ ما يسمى بالمنازعات الإدارية، التي تعمل جميع وسائل المراقبة على حلها، وأهم هذه الوسائل هي المراقبة القضائية.
و تكمن أهمية هذا البحث على اعتبار أن تأديب الطبيب العامل بالقطاع العمومي من أهم الموضوعات المرتبطة بمهنة الطب لما تتضمنه من عناصر أساسية في هذا المجال، كالأخطاء التأديبية التي يعاقب على أساسها الطبيب، و تحديد الجهة المختصة بتوقيع الجزاء و كذلك الجزاءات و الضمانات المتعلقة بذلك، إضافة إلى الواجبات و المهام التي يتعين الالتزام بها، و التي يتحدد على أساسها وجود أو عدم وجود الخطأ التأديبي، و كذا الأساس الذي تستند إليه الدولة في عقاب أطباءها، و بالتالي فهي جزئيات تعتبر جديرة بالدراسة و التحليل، و نتيجة لذلك اعتمدنا المنهج التحليلي بحيث يقوم هذا المنهج على عمليّاتٍ ثلاث: التّفسير، والنّقد، والاستنباط، إضافة إلى اعتمادنا على المنهج القانوني بحكم مجال البحث، و ذلك قصد التمكن من مقاربة الموضوع بشكل علمي و دقيق.
وللإحاطة بمختلف جوانب هذا الموضوع نطرح الإشكاليات و التساؤلات التالية:
ما هو مفهوم الخطأ الطبي ؟
ما تعريف المخالفة التأديبية بالنسبة للأطباء و ما هي العقوبات المطبقة عليهم ؟
من هي السلطة المختصة بتأديب الأطباء و ما هي صلاحيتها و أساسها القانوني ؟
كيف تعامل القضاء مع مفهوم المخالفة التأديبية في غياب تحديد تشريعي للخطأ التأديبي ؟ 
وما هي إجراءات و مساطر المتابعة التأديبية للطبيب ؟ 
و ما هي الضمانات المخولة له لمواجهة الإدارة ؟
وما هو دور القاضي الإداري في مراقبة القرارات الإدارية في مجال تأديب الأطباء ؟ 
وهل يعتبر القضاء الإداري هو صاحب الاختصاص للنظر في قرارات تأديب الأطباء أم هناك جهة قضائية أخرى يعود أليها هذا الاختصاص ؟
و لمعالجة هذا الموضوع اعتمدنا التصميم الثنائي التالي:

الفصل الأول: الإطار القانوني لتأديب الأطباء وماهية السلطة التأديبية
الفصل الثاني: الرقابة القضائية على قرارات تأديب الأطباء و إشكالية تنازع الاختصاص 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -