الخطأ التأديبي في القانون المغربي

مقال بعنوان: الخطأ التأديبي للموظف في القانون المغربي

مقال بعنوان: الخطأ التأديبي للموظف في القانون المغربي

مقدمــة:
إن النظام التأديبي بصفة عامة، هو مجموعة من القواعد النظامية التي تحدد الإطار العام للواجبات التي ينبغي للعامل[1] الالتزام بها، والمحظورات التي يجب عليه الامتناع عن القيام بها. كذلك يشمل النظام الـتأديبي جل الضوابط التي يتقيد بها العامل أثناء مزاولته لواجباته الوظيفية، والإجراءات التي تتبع عند محاسبة من يخل بها، مع وضع الضمانات الكفيلة بجعله يتمتع بجميع الحقوق التي يضمنها له القانون[2].
والتأديب حسب العديد من الدراسات والأبحاث ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة ترمي إلى تحقيق ثلاث أهداف رئيسية، تتمثل في: المحافظة على حسن سير العمل ؛ تحقيق الإصلاح ؛ إلى جانب هدف الردع والزجر.
فالقواعد والأحكام التي تحكم المسؤولية التأديبية لا تستهدف العقاب فقط، بل تعمل على كشف ما يعتري العمل من سوء في تنظيمه أو اختلال في إدارته؛ ومن ثم فإن هذه القواعد والأحكام إنما تهدي المسئولين إلى طريق السعي نحو إزالة أسباب ذلك الاختلال، مما يحقق الانضباط الإداري داخل العمل في إطار من سيادة القانون[3].
وبذلك فإن نظام التأديب هو وسيلة من وسائل الرقابة الذاتية، التي تمارسها السلطة الرئاسية في أي من مجالات العمل علي مرءوسيها والعاملين بها، وهو محاسبة العامل على ما جنته يداه في عمله من أخطاء أو إخلال بما يفرضه نظام العمل عليه من واجبات.
وهو نظام يتولد من علاقات العمل ، ولقد ظهر وازدادت أهميته حيثما تظهر علاقات العمل.
ويرتكز النظام التأديبي في المغرب على مبدأ مسؤولية الشخص المنسوب إليه الخطأ التأديبي، فبالنسبة لفئة الموظفين مثلا، نجد أن الفصل 17 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية[4] ينص على أن "كل موظف كيفما كانت رتبته في السلك الإداري مسئول عن القيام بالمهام التي عهد بها إليه. كما أن الموظف المكلف بتسيير مصلحة من المصالح مسئول عن القيام أمام رؤسائه عن السلطة المخولة له لهذا الغرض وعن تنفيذ الأوامر الصادرة عنه ولا يبرأ في شيء من المسؤوليات الملقاة على عاتقه بسبب المسؤولية المنوطة بمرؤوسيه. وكل هفوة يرتكبها الموظف في تأدية وظيفته أو عند مباشرتها تعرضه لعقوبة تأديبية زيادة إن اقتضى الحال عن العقوبات التي ينص عليها القانون الجنائي ..." .
وما يهمنا في هذا البحث هو الخطأ التأديبي كأهم عنصر ضمن النظام التأديبي، إذ لابد أولا من تحديد الخطأ التأديبي المنسوب إلى هذا العامل المخل ب التزامات عمله، ثم ليتأتى بعد ذلك في مرحلة لاحقة تنزيل الجزاء المتناسب مع الفعل المرتكب، وبالتالي تحقيق وضمان حسن سير العمل.
إن موضوع الخطأ التأديبي يطرح علينا مجموعة من التساؤلات من قبيل :
 ما تعريف الخطأ التأديبي ؟
 ماهي أنواع الخطأ التأديبي ؟
 ماهي العناصر المكونة للخطأ التأديبي ؟
 ماهي مرتكزات تمييز الخطأ التأديبي عن الأخطاء المدنية والأخطاء الجنائية ؟
وللإجابة على هذه التساؤلات سنعتمد التصميم التالي :

المبحث الأول: ماهية الخطأ التأديبي
المطلب أول: تعريف الخطأ التأديبي
الفقرة الأولى: مفهوم الخطأ التأديبي في التشريع
الفقرة الثانية: مفهوم الخطأ التأديبي فقها وقضاء
المطلب ثاني: أنواع الأخطاء التأديبية والعناصر المكونة لها
الفقرة الأولى: أنواع الأخطاء التأديبية
الفقرة الثانية: عناصر الخطأ التأديبي
المبحث ثاني: تمييز الخطأ التأديبي عن الخطأين الجنائي والمدني
المطلب أول: تمييز الخطأ التأديبي عن الخطأ الجنائي
الفقرة الأولى: مفهوم الخطأ الجنائي
الفقرة الثانية: التمييز بين الجريمة الجنائية والجريمة التأديبية
المطلب ثاني: تمييز الخطأ التأديبي عن الخطأ المدني
الفقرة الأولى: مفهوم الخطأ المدني
الفقرة الثانية: التمييز بين الخطأين المدني والتأديبي

المبحث الأول: ماهية الخطأ التأديبي

سيتم التطرق في هذا المبحث إلى تعريف الخطأ التأديبي في التشريع وكذلك في الفقه والقضاء وذلك في مطلب أول، على أن يتم تخصيص المطلب الثاني لتحديد أنواع الأخطاء التأديبية وكذا العناصر المكونة لها.

المطلب الأول: تعريف الخطأ التأديبي

على الرغم من قدم موضوع الخطأ التأديبي فإن الفكر القانوني لم يستطع تحديد مفهوم قار وشامل له، بحيث تعددت الاتجاهات واختلفت التعاريف، ونظرا لتباين وجهات النظر حول مفهوم الخطأ التأديبي، فقد كان لكل من التشريع والفقه وحتى القضاء نصيب في تحديد هذا المفهوم.

الفقرة الأولى: مفهوم الخطأ التأديبي في التشريع

يظل مفهوم الخطأ التأديبي مفهوما غامضا على مستوى النصوص التشريعية والتنظيمية[5]، فالمشرع لم يضع تعريفا محددا للخطأ التأديبي، ولا يورد الأفعال المكونة لهذا الخطأ على سبيل الحصر كما هو الشأن في القانون الجنائي، فبالنسبة للموظفين نجد أن المشرع اقتصر على بيان واجبات الموظفين والأعمال المحظورة عليهم بصورة عامة دون تحديد دقيق[6]، فالخطأ التأديبي يتوفر بمجرد الإخلال بالواجبات الوظيفية.
وهكذا نجد أن المشرع المغربي سلك نفس الاتجاه الذي سلكته جل التشريعات المتعلقة بالوظيفة العمومية، بحيث تنازل عن سلطته في تجريم الأفعال تاركا إياها للسلطة التأديبية، فيما يتعلق بتكييفها أو إذا ما كانت هذه الأفعال تشكل خطأ تأديبيا أم لا، وهذا ما نستنتجه من خلال الفصل 17 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية والذي اعتبر فيه المشرع أن "كل موظف كيفما كانت رتبته في السلك الإداري مسئول عن القيام بالمهام التي عهد بها إليه. كما أن الموظف المكلف بتسيير مصلحة من المصالح مسئول عن القيام أمام رؤسائه عن السلطة المخولة له لهذا الغرض وعن تنفيذ الأوامر الصادرة عنه ولا يبرأ في شيء من المسؤوليات الملقاة على عاتقه بسبب المسؤولية المنوطة بمرؤوسيه. وكل هفوة يرتكبها الموظف في تأدية وظيفته أو عند مباشرتها تعرضه لعقوبة تأديبية زيادة إن اقتضى الحال عن العقوبات التي ينص عليها القانون الجنائي ...".
وهذا الأمر جعل مفهوم الخطأ التأديبي في الوظيفة العمومية مفهوما غير دقيق وبعيد كل البعد عن الوضوح، فالمشرع اكتفى فقط بالإشارة إلى أنه كلما صدر من الموظف عمل من شأنه الإخلال بالالتزامات المهنية أو المس بالحق العام، فإنه يعتبر خطأ تأديبيا يستوجب الجزاء[7]، وبهذا المعنى يبقى الخطأ التأديبي خاضعا للسلطة التقديرية للإدارة، دون أن ننسى أن هذه السلطة التقديرية ليست مطلقة فهي خاضعة لرقابة القضاء الإداري[8].
نفس الشيء بالنسبة للمشرع الفرنسي الذي لم يعرف هو الآخر الخطأ التأديبي في قوانين الوظيفة العمومية، وإنما اقتصر على التنصيص على بعض الواجبات الوظيفية، ونص على مساءلة الموظف تأديبيا عن كل خطأ يرتكبه أثناء تأدية وظيفته، ونفس القول ينطبق على أنظمة التوظيف العربية.
وبالنسبة للخطأ التأديبي المرتكب من طرف الأجراء، نجد أن المشرع في تصنيفه للخطأ ميز بين الخطأ الجسيم والخطأ غير الجسيم، فبالنسبة للخطأ غير الجسيم لم يعطي المشرع المغربي كغيره من التشريعات تعريفا محددا له وإن كان قد حدد آثاره على مستوى العقوبة الواجبة التطبيق على هذا الأجير المرتكب لذلك الخطأ، ومن ثمة فإن وجود الخطأ غير الجسيم المبيح لتأديب الأجير مسألة تندرج ضمن السلطة التقديرية لمحاكم الموضوع.
أما بالنسبة للخطأ الجسيم، فالمشرع المغربي لم يتعرض لتعريف محدد له، وإن كان قد أورد أمثلة عنه في المادة 39 من مدونة الشغل والتي تستوجب عقوبة الفصل، والملاحظ أن المشرع في مدونة الشغل قد استغنى عن بعض الأخطاء الجسيمة كانعدام الكفاءة المهنية، وجاء بأخرى لم يكن منصوصا عليها من قبل، مثل التحريض على الفساد والتغيب غير المبرر...إلخ.
كما يلاحظ أن المشرع ميز بين تلك الأخطاء التي ترتكب داخل المؤسسة وتلك التي ترتكب خارجها، ومن أمثلة الأخطاء المرتكبة خارج المؤسسة نجد: ارتكاب جنحة ماسة بالشرف أو الأمانة أو الآداب العامة وصدر بشأنها حكم نهائي سالب للحرية؛ إفشاء سر مهني نتج عنه ضرر للمقاولة؛... وبالنسبة للأخطاء المرتكبة داخل المؤسسة أو أثناء الشغل نجد: السرقة؛ خيانة الأمانة؛ السكر العلني وتعاطي المخدرات ...
وبالنسبة لفئة المحامين، فإننا نجد كذلك أن أغلب التشريعات المنظمة لمهنة المحاماة لم تعطي تعريفا دقيقا للخطأ التأديبي المنسوب للمحامي، فالملاحظ أن صياغة المادة 61 من القانون المنظم لمهنة المحاماة جاءت عامة ولم تحدد طبيعة الخطأ التأديبي إلى درجة يمكن معها القول أن المساءلة التأديبية تطال كل المخالفات التي تسيء إلى شرف ونبل مهنة المحاماة وإن تعلق الأمر بالحياة الخاصة للمحامي[9].
وفي ظل غياب تعريف تشريعي للخطأ التأديبي، فقد كان للفقه والقضاء دور مهم في تحديد مفهوم الخطأ التأديبي.

الفقرة الثانية: مفهوم الخطأ التأديبي فقها وقضاء

أمام عدم إعطاء تعريف دقيق للخطأ التأديبي من قبل المشرع، حاول مجموعة من الفقهاء وضع تعريف لهذا المفهوم، مادام أن مهمة التعريف تترك عادة لرجال الفقه والقضاء حتى لا يكتنف التشريع غموض أو إبهام.
ففي الفقه الفرنسي نجد أن الأستاذ DELEPEREE عرف الخطأ التأديبي بأنه "كل فعل أو امتناع عن فعل ينسب إلى الفاعل ويعاقب عليه بجزاء تأديبي"، وعرفه الأستاذ SALON بأنه "كل فعل أو امتناع مخالف للواجبات التي تقتضيها الوظيفة"[10]، وعرفه أيضا الأستاذ SILVERA على أنه "مخالفة واجبات الوظيفة"[11].
وبخصوص الفقه المصري نجد أن الأستاذ اسماعيل زكي اعتبر أن "الأفعال التي تستوجب المؤاخذة التأديبية هي كل تقصير في أداء الواجب، أو اخلال بحسن السلوك و الآداب من شأنه أن يترتب عليه إهانة المهنة والحط من كرامتها، أو الخروج عن الالتزامات السلبية المفروضة على الموظفين"[12]. ومن جانبه عرف الفقه المغربي الخطأ التأديبي، فالأستاذة مليكة الصروخ اعتبرته أنه "كل فعل أو امتناع يرتكبه الموظف إخلالا بواجبات منصبه سلبا أو إيجابا سواء تلك التي نص عليها أو لم ينص عليها القانون مما يستوجب توقيع الجزاء عليها"[13]، وعرفه الأستاذ محمد كرامي بأنه "الفعل الذي يصدر عن الموظف والذي يترتب عليه الإخلال بالواجبات التي يفرضها التشريع المعمول به في مجال الوظيفة العمومية"[14].
وبالنسبة للقضاء وأمام غياب تعريف تشريعي للخطأ التأديبي، فنجد أن القضاء الإداري في محاولة منه للوقوف أكثر على دلالات ودقة هذا المفهوم وصف بعض الأعمال التي يقوم بها الموظف انطلاقا من عدم ملاءمتها مع الوظيفة المسندة إليه، وفي هذا السياق تعرض القضاء الإداري لإحدى التصرفات التي تشكل مخالفة تأديبية، ومن ذلك حكم بن حمزة الصادر عن الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى، والذي اعتبرت فيه اختلاء الشرطي بعيدا عن الشرطي الآخر في ظروف مريبة يعد خطأ مهنيا يبرر عقوبة العزل من الوظيفة بقطع النظر عن اقترافه لجريمة الرشوة.
وفي قرار آخر لها، اعتبرت الغرفة الإدارية أن صدور عبارات تنطوي على وقاحة وألفاظ مهينة من الموظف تتنافى مع الواجبات الوظيفية[15].
أما بخصوص القضاء المصري فقد تعرض مجلس الدولة المصري لتعريف الخطأ التأديبي وبيان ضوابطه، وكلها تعريفات تتمحور حول مفهوم واحد، ففي حكمه الصادر بتاريخ 25/01/1958 اعتبر أن "الجريمة التأديبية هي كل عمل إيجابي أو سلبي يقع من العامل أثناء ممارسة أعمال وظيفية....إذا كان ذلك لا يتفق مع واجبات الوظيفة"، وفي حكم آخر صادر بتاريخ 32/02/1974 أكد مجلس الدولة أن "سبب القرار التأديبي بوجه عام هو اخلال العامل بواجبات وظيفته أو إيتائه عملا من الأعمال المحرمة عليه، فكل عامل يخالف الواجبات التي تنص عليها القوانين أو القواعد التنظيمية العامة أو أوامر الرؤساء الصادرة في حدود القانون أو يخرج من مقتضب الواجب في أعمال وظيفته المنوط به تأديتها بنفسه بدقة وأمانة إنما يرتكب ذنبا إداريا"[16].
من خلال ما سبق بخصوص مفهوم الخطأ التأديبي في التشريع والفقه وحتى القضاء، فإنه لم يوضع تعريف محدد للخطأ التأديبي، وإنما جاءت معظم التعريفات متقاربة تتشكل عناصرها من عنصرين أساسين هما: العامل موضوع المساءلة التأديبية والخطأ الذي هو سبب القرار التأديبي.

المطلب الثاني: أنواع الأخطاء التأديبية والعناصر المكونة لها

سنتعرض في هذا المطلب لأنواع الأخطاء التأديبية بالنسبة لبعض طوائف المهن (فقرة أولى)، ثم للعناصر المكونة للخطأ التأديبي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: أنواع الأخطاء التأديبية

تختلف صور وأنواع الأخطاء التأديبية بحسب طبيعة العمل الذي يقوم به هذا الشخص المنسوب إليه الخطأ التأديبي، وتبعا لذلك سنتطرق لأنواع الأخطاء التأديبية بالنسبة لفئة الأجراء (أولا)، ثم فئة المحامين (ثانيا)، وكذلك بالنسبة لفئة القضاة (ثالثا).

أولا: فئة الأجراء
ميز المشرع المغربي بين الخطأ اليسير الصادر عن الأجير و سماه بالخطأ غير الجسيم، و الخطأ الجسيم الصادر عنه. فبالنسبة للخطأ الجسيم صنفه المشرع إلى أخطاء جسيمة ترتكب خارج المؤسسة، وأخرى ترتكب داخل المؤسسة.
-الأخطاء الجسيمة المرتكبة خارج المؤسسة:
· ارتكاب جنحة ماسة بالشرف أو الأمانة أو الآداب العامة صدر بشأنها حكم سالب للحرية؛
· إفشاء سر مهني نتج عنه ضرر للمقاولة[17].
-الأخطاء الجسيمة المرتكبة داخل المؤسسة أو أثناء العمل:
· السرقة؛
· السكر العلني؛
· خيانة الأمانة؛
· تعاطي مواد مخدرة؛
· الاعتداء بالضرب؛
· السب الفادح[18]؛
· رفض إنجاز شغل من اختصاصه عمدا أو بدون مبرر؛
· التغيب بدون مبرر لأكثر من أربعة أيام أو ثمانية أنصاف يوم خلال شهر، وعليه فإن التغيب لأجل من المدة المشار إليها يعد خطأ جسيما؛
· إلحاق ضرر جسيم بالتجهيزات أو الآلات أو المواد الأولية عمدا أو نتيجة إهمال فادح[19]؛
· إرتكاب خطأ نشأت عنه خسارة مادية جسيمة للمشغل؛
· عدم مراعاة التعليمات اللازم إتباعها لحفظ السلامة في الشغل و سلامة المؤسسة ترتبت عليها خسارة جسيمة؛
· التحريض على الفساد؛
· إستعمال أي نوع من أنواع العنف والاعتداء البدني الموجه ضد الأجير أو المشغل أو من ينوب عنه لعرقلة سير المقاولة.

ثانيا: أنواع الأخطاء التأديبية المرتكبة من طرف المحامين.
أوجب المشرع المغربي على المحامي قبل البدء بممارسة مهام الدفاع وتقديم الإستشارة أن يقسم بممارستها بشرف وكرامة وضمير ونزاهة واستقلال وإنسانية[20]، وذلك وفق ما يتلائم مع القوانين والأنظمة الجاري بها العمل، وكذلك ما تقتضيه الأخلاق الحميدة وأعراف وتقاليد المهنة وأخلاقياتها.
ومن بين المخالفات التأديبية التي يرتكبها المحامي تلك المتعلقة بالاخلال بالقواعد القانونية من جهة، وتلك التي لها ارتباط مع المحاكم أو الموكلين من جهة أخرى. فبالنسبة للصنف الأول من المخالفات نجد أنها متعددة ومتنوعة ويصعب حصرها، ونذكر من بينها على سبيل المثال ما يتعلق بممارسة العمل التجاري وأعمال السمسرة، فممارسة مهنة المحاماة يتنافى مع ممارسة النشاط التجاري، فمن شأن ذلك أن يمس باستقلال المحامي وكذا الطبيعة الحرة للمهنة[21]، فالمحامي لا يعتبر تاجرا ويمنع عليه أي نشاط تجاري، ويتعرض المحامي الموجود في إحدى حالات التنافي للعقوبات التأديبية، هاته الأخيرة التي قد تصل إلى حد التشطيب من الجدول أو من لائحة المتمرنين.
كما يمنع على المحامي القيام بأعمال تستهدف جلب الأشخاص والزبناء واستمالتهم أو أن يقوم بإشهار كيفما كانت وسيلته[22] سواء قام بهذه الأعمال بطريقة مباشرة أو عن طريق الغير وسواء كان ذلك بموافقته الصريحة أو الضمنية، فالمحامي ملزم بالتقيد في سلوكه المهني بمبادئ الاستقامة والتنافس الشريفة.
ومن صور المخالفات التي لها ارتباط بالمحاكم والموكلين، نجد عدم ارتداء البذلة أمام الهيئة القضائية والتأديبية وهذا ما أشارت إليه المادة 37 من قانون المحاماة بالمغرب، وكذلك تعتبر المشاركة في إضراب خطأ تأديبيا إذ يمنع على المحامين الاتفاق فيما بينهم على شن إضراب وهو ما يستفاد من نص المادة 39 من قانون المحاماة. أيضا من بين أصناف المخالفات التي يمكن للمحامي أن يرتكبها نجد تلك التي تمس بالموكلين، فمن واجبات المحامي الالتزام بالمحافظة على السر المهني، كما يلزم المحامي بالمحافظة على الوثائق التي يتسلمها من موكله وذلك طيلة خمس سنوات اعتبارا من تاريخ انتهاء القضية أو من آخر إجراء أو من تصفية الحساب مع الموكل.
وفي الأخير نذكر أن هذه الأخطاء التأديبية مذكورة على سبيل المثال وليس الحصر، إذ إن أنواع المخالفات التأديبية المرتكبة من طرف المحامين متعددة ومتنوعة.

ثالثا:  أنواع الأخطاء التأديبية المرتكبة من طرف القضاة
قد تختلف صور الإخلال بالواجبات لكنها كلها تصب في إطار واحد هو الإخلال بالواجبات المهنية التي حددها الفصل 19 من النظام الأساسي للقضاة حيث أن هذا الإخلال قد يتمثل في:
· عدم المحافظة على سرية المداولات؛
· اطلاع الأغيار على نسخ أو ملخص الوثائق أو المعلومات التي تتعلق بملفات الدعوى في غير الأحوال المنصوص عليها في القانون؛
· عرقلة أو إيقاف تسيير الحكم؛
· استبعاد الأدلة بهدف تبرئة متهم مذنب سواء من رجال السياسة أو المجتمع؛
· تلاعب القاضي في مواعيد القضايا لصالح أحد الأطراف.
إضافة إلى ما سبق هناك مجموعة من الواجبات التي إذا تم تجاوزها تشكل مخالفة :
- يحافظ القضاة على صفات الوقار والكرامة التي تتطلبها مهامهم كما يمنع عليهم كل نشاط سياسي وكل موقف يكتسي صبغة سياسية ويمنع عليهم أيضا كل عمل من شأنه إيقاف أو عرقلة سير المحاكم؛
- يمنع القضاة أن يباشروا خارج مهامهم ولو بصفة عرضية نشاط أي كان نوعه بأجر أو بدونه؛
- التقيد بالمحافظة على سرية المداولات؛
- يرتدي القضاة البذلة الخاصة بهم؛
- لا يحق للقاضي الامتناع عن الحكم أو إصدار قرار ويجب البث في كل قضية رفعت إلى المحكمة.
أما بالنسبة للمخالفات التأديبية المرتكبة من طرف القضاة الماليين وفقا لمدونة المحاكم المالية، فتنص المادة 225 "على أنه يعتبر كل إخلال من قاضي المحاكم المالية بواجباته أو بالشرف أو الوقار أو الكرامة أو بقواعد كتمان السر المهني أو عدم التقيد بالتزام من شأنه أن يعرضه لعقوبة تأديبية ".
من خلال هذه المادة يلاحظ تشابه بين التحديد التشريعي لرجال القضاة ولقضاة المحاكم المالية من خلال تحديده للواجبات المهنية التي حددت في المواد 181 و 182 على سبيل الحصر كمزاولة نشاط سياسي أو نشاط خاص بصفته المهنية أو امتلاك مصالح تجري عليها رقابة المحاسبة سواء كانت بملكية شخصية أو بواسطة الغير.
كما أضاف وجوب التزام قاضي المحاكم المالية بالمحافظة على سرية المداولات والتحريات وعدم اطلاع الغير على نسخ وملخصات الوثائق أو اطلاعهم على معلومات تتعلق بهذه المحاكم في غير الأحوال المنصوص عليها قانونا يترتب عنه خضوعه للمساءلة التأديبية.

الفقرة الثانية: عناصر الخطأ التأديبي

اختلف الفقهاء في تحديد أركان الخطأ التأديبي بصورة عامة ولهم في ذلك مذاهب كثيرة فكان لكل فقيه رأيه الخاص، فذهب الأستاذ الطماوي إلى أن الخطأ التأديبي يقوم على عنصرين هما الموظف والخطأ أو الذنب الإداري، وذهب الأستاذ ماجد راغب الحلو إلى أن الخطأ التأديبي يقوم على ركنين هما الركن المادي والركن المعنوي. بينما ذهب الأستاذ عبد الفتاح حسن إلى أن الخطأ التأديبي يقوم على ثلاثة أركان أو عناصر العنصر المادي والعنصر المعنوي والصفة.
والراجح أن أركان الخطأ التأديبي هي نفس الأركان في أي جريمة أخرى وهي الركن المادي والركن المعنوي، وللطبيعة الخاصة التي يتميز بها الخطأ التأديبي يكون الركن الثالث هو ركن الصفة.

أولا: الركن المادي
يتعلق هذا الركن بماديات الخطأ ومظهره الخارجي ولا خلاف في عدم قيام أي جريمة تأديبية دون توافر هذا الركن، سواء تمثل ذلك بمسلك إيجابي كما لو كان بشكل اعتداء على رئيس في العمل، أو بمسلك سلبي كالامتناع عن تنفيذ أمر رئاسي واجب الطاعة.
ولكي يكون فعل الموظف مسوغاً للمساءلة التأديبية يجب أن يكون محدداً وثابتاً فلا قيام للركن المادي استناداً للظن أو الشائعات، لذلك فإن الاتهامات العامة أو النعوت المرسلة لا يمكن أن تعتبر مكونة لهذا الركن، كما أن مجرد التفكير دون أن يتخذ هذا التفكير مظهراً خارجياً ملموساً لا يشكل مخالفة تجيز المساءلة التأديبية، ونفس الشيء بالنسبة للأعمال التحضيرية التي تتمثل في إعداد وسائل تنفيذ الخطأ فلا يعاقب عليها، إلا أنها قد تعتبر في حد ذاتها جريمة تأديبية مستقلة.

ثانيا: الركن المعنوي
الركن المعنوي هو الإرادة الآثمة للموظف الذي يرتكب الفعل أو الترك الذي يشكل إخلالاً بواجبات الوظيفة ومقتضياتها, ولا يكفي للمساءلة التأديبية أن يرتكب الموظف ما يعتبر منه مخالفة لواجب وظيفي، وإنما يجب أن يتوافر عنصر نفسي واع يتجه إلى ارتكاب الفعل أو الامتناع وهذا العنصر هو الإرادة الآثمة أو الركن المعنوي.
والركن المعنوي في الخطأ التأديبي يختلف في الخطأ العمدي عنه في جريمة الخطأ، ففي الخطأ العمدي لا يكفي أن يحيط الموظف علماً بالفعل الذي يرتكبه وإنما يجب أن يُقصَر تحقيق النتيجة المترتبة على تصرفه.
أما في الخطأ غير العمدي أو جريمة الخطأ فيتمثل الركن المعنوي في تقصير الموظف وعدم اتخاذه الحيطة والحذر اللازمين لأداء واجباته الوظيفية ، ويكون بانصراف إرادة الموظف إلى ارتكاب العمل دون الرغبة في النتيجة المترتبة عليه. ولابد لارتكاب الخطأ سواء كان جنائيا أو تأديبيا من توافر الركن المعنوي فإذا تخلف بأن انعدمت إرادة الموظف لقوة قاهرة أو مرض أو إكراه أو أمر رئاسي مكتوب فلا قيام للجريمة. غير أن البعض ذهب إلى ضرورة توافر الركن المعنوي في المجال التأديبي في بعض الجرائم التأديبية المقننة، وفي مجال الأخطاء التي حددها المشرع وجرمها بنصوص خاصة. إلا انه في جرائم أخرى لم ينص عليها المشرع على سبيل الحصر، فالإرادة الآثمة لا تعني أكثر من أن الموظف قد ارتكب الفعل أو الامتناع دون عذر شرعي. إلا أن الرأي الصائب هو أن المساءلة التأديبية تتطلب بأن يكون مدركاً وواعياً لما يقترفه، لذلك قيل بأنه يلزم لقيام الخطأ التأديبي أن يكون الفعل راجعاً إلى إرادة العامل إيجاباً أو سلبا.

ثالثا: ركن الصفة
ركن الصفة أو الركن الشخصي هو الركن الثالث الذي لا يمكن قيام الخطأ التأديبي بدونه، وهو شرط لازم في الجرائم التأديبية دون سواها في الجرائم الأخرى جنائية كانت أم مدنية، فلا بد أن يقع الفعل المكون للجريمة من أحد العاملين المرتبطين بجهة الإدارة برابطة وظيفية. ويثار في هذا المجال سؤال حول الأفعال التي تصدر من الموظف الفعلي أو الظاهر، وهو شخص تدخل خلافاً للقانون في ممارسة اختصاصات وظيفة عامة متخذاً مظهر الموظف القانوني المختص، فهل يجوز مساءلته تأديبياً في مثل هذه الحالة؟
قبل الإجابة على هذا السؤال لابد من القول أن القاعدة هي أنه لا يجوز للأفراد العاديين أن يتولوا وظيفة عامة بصورة غير قانونية، لأنهم بذلك يكونون مغتصبين لها وجميع تصرفاتهم تعد باطلة، إلا في حالة الموظف الفعلي الذي يتدخل حفاظاً على دوام سير المرافق العامة في ظروف الحروب والثورات، أو عندما يضطر الأفراد إلى إدارة المرفق بدون إذن من السلطة، أو حفاظاً على الوضع الظاهر أمام الجمهور عندما يشغل الشخص وظيفة معينة بناءً على أمر بالتعيين لم يتخذ الشكل القانوني المطلوب لصدوره أو استمراره بشغل الوظيفة رغم انتهاء صفته كموظف عام، أو في حالة سكوت الإدارة عن تجاوز الموظف لاختصاصاته واستقرار العمل على ذلك.
ففي هذه الحالات اعترف القضاء والفقه ببعض الآثار القانونية للوظيفة الفعلية كمنح الموظف الفعلي راتباً مقابل أدائه لعمله إذا كان حسن النية. أما حول إمكانية مساءلة الموظف الفعلي تأديبياً، فقد ثار خلاف فقهي بهذا الشأن، فذهب جانب من الفقه إلى أن التزامات الموظف الفعلي أقل من التزامات الموظف الرسمي، وأنه لا يخضع للجزاءات التأديبية لأن مسؤوليته عادية، فإذا صدر خطأ شخصي أو زاول العمل بالقوة والعنف والتهديد، فإن المراجعة بشأن تصرفاته هي من اختصاص المحاكم العادية جنائية أو مدنية.
لذلك لا يمكن حسب هذا الرأي تصور مساءلة الموظف الفعلي تأديبياً، أما الجانب الأخر من الفقه فذهب إلى أن نظرية الموظف الفعلي تضم قطاعين القطاع الأول هم الموظفين الفعليين في الأوقات الاستثنائية، أي أوقات الحرب والأزمات والثورات. ففى هذه الحالة يكون من تولى الوظيفة فرداً عادياً لا تجوز مساءلته تأديبياً عن أعماله أثناء شغله للوظيفة .
أما القطاع الثاني فهم الموظفون الفعليين الذين يمارسون اختصاصاً معيناً في الظروف العادية، بسبب بطلان التعيين أو انقطاع الصلة بالوظيفة أو حالة الاستمرار غير المشروع في العمل أو سكوت الإدارة عن اختصاص الموظف الظاهر. فهؤلاء يخضعون لأحكام التأديب وما يقع منهم من أخطاء في ممارسة الوظيفة يشكل خطأ تأديبيا.
ونرى أن هذا الرأي هو الأصوب، ذلك أن نظام التأديب لا يسري إلا على الأفراد المرتبطين مع الإدارة برابطة وظيفية، والموظف الفعلي لا يكون مرتبطاً بهذه العلاقة في ظل الظروف الاستثنائية.
وقد أيد القضاء الإداري هذا الرأي فقالت المحكمة الإدارية العليا " أن مناط مسؤولية الموظف الإخلال بالواجبات العامة ، وتتحقق هذه المخالفة ولا أثر لكون الموظف الذي وقع منه الإخلال مستوفياً شروط الوظيفة أم لا، مادام قائماً بعمله فعلاً كأصيل أو منتدب. إذ أن الأمانة مطلوبة منه في عمل يؤديه بقطع النظر عن ظروف إسناد العمل إليه، ولا يبيح الإخلال بهذا، أو يمحو عن الإخلال بالمسئولية المترتبة عليه، عدم إحالته في العمل الذي أنيطت به اختصاصاته، كما أن تطوع الموظف للقيام بعمل موظف أخر لا يعفيه من المسؤولية عن أخطائه".

المبحث الثاني: تمييز الخطأ التأديبي عن الخطأين الجنائي والمدني

إن الإحاطة بمفهوم الخطأ التأديبي لا يمكن أن تكتمل إلا بتمييزه عن باقي الأخطاء التي تتقاطع معه أو ترتبط معه في عناصر مشتركة، ولذلك يبدو من المفيد التمييز بين الخطأ التأديبي والخطأ الجنائي من جهة (المطلب الأول)، ثم التمييز بين الخطأ التأديبي والخطأ المدني من جهة ثانية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تمييز الخطأ التأديبي عن الخطأ الجنائي

قبل الوقوف على نقاط الاختلاف بين الخطأ التأديبي والخطأ الجنائي (فقرة ثانية)، لابد أولا من تحديد مفهوم الخطأ الجنائي (فقرة أولى).

الفقرة الأولى: مفهوم الخطأ الجنائي

تعنى النظرية العامة للجريمة بدراسة الخصائص التي ينبغي أن يتصف بها الفعل أو الامتناع لكي ينطبق عليه وصف الجريمة سواء أكانت قتلا أو نصبا أواغتصابا أو غيره.
ومفاد هذا الاعتبار أن ثمة سمات عامة تشترك فيها جميع الجرائم على اختلاف أصنافها وتباين درجة خطورتها، وأن ثمة سمات أخرى تظل قصرا على بعضها دون البعض الآخر؛ فإذا كانت مفردات الجرائم المشار إليها تنفرد سواء من زاوية التجريم أو من زاوية العقاب بعناصر خاصة لا تتوافر في غيرها مما يدخل في نطاق دراسة القسم الخاص من القانون الجنائي فإنها تتفق جميعا من حيث بعض العناصر أو الأركان العامة.
ومما يذكر هنا أن تعريف الجريمة يتنازعه اتجاه اجتماعي وآخر قانوني، فيمكن تعريف الجريمة استنادا إلى المعيار الاجتماعي بكونها "ظاهرة تسبب اضطرابا في النظام الاجتماعي"، ومن الواضح أن هذا التعريف يقوم على أساس الاحتكام إلى المجتمع للتفرقة بين أنماط السلوك المختلفة، وبذلك فإن ما يحظره المجتمع هو السلوك الإجرامي وما يبيحه هو السلوك المتجرد عن هذه الصفة[23].
غير أن هذا التعريف لم ينل تأييدا من لدن فقهاء القانون الجنائي الذين يعيبون عليه افتقاره إلى الدقة واكتنافه بالغموض، ولذلك فإنه لتحديد مفهوم الجريمة لابد من اعتماد القانون الجنائي الوضعي إطارا مرجعيا ضروريا، وباعتمادنا المعيار القانوني غدا ممكنا تعريف الجريمة بكونها "سلوكا إيجابيا أو سلبيا يجرمه التشريع الجنائي ويفرد له عقوبة أو تدبيرا وقائيا"[24].
والخطأ الجنائي له أركان ثلاثة عامة تشترك فيها جميع الأخطاء الجنائية أيا كان نوعها أو طبيعتها، وأركان خاصة يتطلبها المشرع بصدد كل خطأ تأديبي على حدة مما يجعلها تختلف من خطأ جنائي إلى آخر، ويؤكد غالبية فقهاء القانون الجنائي أن الجريمة تقوم على ركنين: مادي ومعنوي[25]. ويمثل الركن الأول المظهر الخارجي الذي تبرز به الجريمة إلى العالم الخارجي، ويعبر عن السلوك وما يرتبط به من نتائج جديرة بالاعتبار القانوني، ويمثل الركن الثاني القوة النفسية في الجريمة، ويعبر عن الإرادة كرابطة معنوية بين الجاني وبين تحقق ما تحقق من سلوك ونتيجة.
وهناك جانب آخر من الفقه الجنائي يذهب إلى القول بوجود ركن ثالث للجريمة وهو الركن القانوني أو الشرعي الذي يتمثل في وجود النص القانوني الذي يحدد الفعل أو الامتناع ويبين العقوبة المقررة له، وهذا الركن الثالث يتخذ مظهرين اثنين: مظهر ايجابي من مقتضاه أن يتطابق الفعل مع نص من نصوص التجريم، ومظهر سلبي من مقتضاه أن يتخلف سبب إباحة يرفع عن الفعل صفته غير المشروعة[26].

الفقرة الثانية: التمييز بين الخطأ التأديبي والخطأ الجنائي

تختلف الجريمة التأديبية عن الجريمة في المجال الجنائي من حيث الطبيعة والأركان، ويمكن أن نوجز ما تتميز به الجريمة التأديبية عن الجريمة في النظام الجنائي بما يلي:
· من حيث الأشخاص: يشترط لوقوع الجريمة التأديبية أن يكون الفعل المعاقب عليه قد ارتكبه موظف مرتبط بالإدارة برابطة وظيفية، وهذا ما دعى الفقه إلى القول بأن نظام التأديب نظام " طائفي " أي أنه يتعلق بطائفة في المجتمع على عكس النظام العقابي الذي يتصف بالعمومية و الشمول؛
· من حيث الأفعال المكونة للجريمة: إن الجرائم التأديبية ليست محددة على سبيل الحصر لذلك فهي لا تخضع لمبدأ " لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص " و إنما محددها الإخلال بكرامة الوظيفة و الخروج على مقتضيات الواجب، وتقرير قيام الجريمة من عدمه خاضع لتقرير الإدارة، أما الجريمة في المجال الجنائي فمحددة على سبيل الحصر؛
· من حيث الهدف: يهدف النظام التأديبي إلى حسن أداء الموظفين لأعمالهم وضمان سير المرافق العامة بانتظام واطراد. أما في النظام الجنائي فالأمر يتعلق بحماية المجتمع كله وضمان استقراره وأمنه؛
· من حيث المسؤولية: تستقل الجريمة التأديبية عن الجريمة الجنائية من حيث المسؤولية، فإعفاء الموظف من المسؤولية الجنائية وإلغاء التهمة الجنائية المنسوبة إليه لا يمنع من مساءلته تأديبياً، فالمخالفة التأديبية أساساً قائمة على ذاتها مستقلة عن التهمة الجنائية , قوامها مخالفة الموظف العام لواجبات وظيفته ومقتضياتها, وهذا الاستقلال قائم حتى ولو كان هناك ارتباط بين الجريمتين، فالموظف قد يسأل تأديبياً لمخالفته النصوص التشريعية أو العرف الإداري ومقتضيات الوظيفة العامة، في حين أن الجريمة الجنائية لا تقوم إلا إذا خالف الفاعل نصاً تشريعياً؛
· من حيث نوع العقاب المفروض: إن العقاب التأديبي يتعلق بالمساس بمركز الموظف ومتعلقاته، ويكون بإيقاع مجموعة من الجزاءات محددة على سبيل الحصر، وآثارها محددة سلفاً. أما في النظام الجنائي فإن العقاب يتعلق بالمساس بحرية الشخص أو حياته أو ماله، وللقاضي الحرية في تقدير العقوبة وفق الواقعة المنظورة في الحدود المسموح بها قانوناً؛
· من حيث الإجراءات: تتميز الجريمة التأديبية عن الجريمة في المجال الجنائي من حيث الإجراءات الواجب اتباعها منذ ارتكاب الموظف للجريمة ومساءلته عنها وحتى إيقاع الجزاء عليه، وهذه الإجراءات تنظمها قوانين خاصة بالوظيفة العامة والموظفين. أما الجريمة في المجال الجنائي فلها أصولها الخاصة التي تنظمها القوانين العامة كقانون الإجراءات الجنائية وقانون المرافعات المدنية.
ومن خلال ما سبق يمكن الخروج بمجموعة من الخلاصات:
1. تتحقق الجريمة التأديبية كلما أخل الشخص الذي ينتمي إلى هيئة أو طائفة مهنية معينة بالواجبات الأساسية التي يفرضها عليه انتسابه إليها، ومما يدخل في هذا القبيل: خروج الموظف عن مقتضى الواجبات المحددة بناءا على قانون الوظيفة العمومية، أو ارتكاب الطبيب أو المهندس أو المحامي ما يخل بالقواعد المنظمة للهيئة التي ينتمي إليها والتي تستهدف صيانة هيبتها وحسن سير العمل بها.
من هنا، كان الفرق بين الجريمة الجنائية والجريمة التأديبية متمثلا في كون صاحب الحق المعتدى عليه ليس واحدا في كلا الحالتين، إذ أن الأولى تقع اعتداء على المجتمع وانتهاكا للتشريع الجنائي الذي يخضع له المواطنون قاطبة، بينما يقتصر الاعتداء في الثانية على الهيئة أو الطائفة أو المهنة التي ينتسب إليها مرتكبها. يضاف إلى ذلك أن المشرع يحرص على تحديد الجرائم الجنائية على سبيل الحصر تطبيقا لمبدأ "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، في حين لا يفعل ذلك بالنسبة للجرائم التأديبية تاركا أمر تحديدها للجهة التي ينتسب إليها مرتكبها ومعترفا للقضاء التأديبي بسلطة تقديرية واسعة؛
2. يلاحظ من جهة أخرى أن ثمة اختلافا بين الخطأ الجنائي والخطأ التأديبي في شأن ما يترتب عليهما من نتائج قانونية، إذ إن الجزاء المطبق في الحالة الأولى يتحدد في العقوبات المنصوص عليها في التشريع الجنائي، بينما يتمثل ذلك الجزاء في الحالة الثانية في اتخاذ بعض التدابير التأديبية المتصلة بممارسة المهنة، من قبيل: التوبيخ أو الإنذار أو قطع المرتب أو الحرمان من مزاولة المهنة بصورة مؤقتة أو نهائية...
ويترتب على ذلك أن الجريمة الجنائية تنظر أمام هيئة قضائية تطبيقا لمبدأ أن "لا عقوبة بدون حكم قضائي بات" بينما الجريمة التأديبية تنظرها ذات الجهة المعتدى عليها (نقابة الأطباء أو المحامين أو المجلس الأعلى للقضاء مثلا) ويكون تشكيلها إداريا ما لم تحل إلى مرجع قضائي إداري يتولى الحكم فيها.
واعتبارا لأوجه الاختلاف المشار إليها، تصبح الدعوى التأديبية مستقلة عن الدعوى الجنائية، فلا تعليق لأحدهما على الأخرى، وصدور الحكم في إحداهما لا يحول دون تحريك الأخرى، والأصل ألا حجية للحكم الصادر في إحداهما عن الأخرى.
إلا أن الاختلافات السابقة لا تنفي وجود نوع من الترابط والصلة بين الجريمتين التأديبية والجنائية، فالجريمتان عبارة عن سلوك شاذ يعاقب عليه القانون ويجب تجنبه تحقيقاً للمصلحة العامة، ومن يرتكبه يعرض نفسه للمساءلة والعقاب المناسب.
كما أن هذا السلوك المنسوب إلى الموظف قد يشكل جريمتين جريمة تأديبية وأخرى جنائية، ولكن المساءلة التأديبية لا تتقيد بالمحاكمة الجنائية إلا فيما يتعلق بوقوع الفعل المكون للجريمة من الموظف أو عدم وقوعه, وفضلاً عن ذلك قد تعتبر بعض العقوبات التأديبية بمثابة عقوبة تكميلية للعقوبات في المجال الجنائي.
وتجدر الإشارة في الأخير إلى أن ثمة تقاربا يلاحظ في التشريع الحديث بين القانون الجنائي والقانون التأديبي أملاه الحرص على إحاطة المحاكمة التأديبية بالضمانات التي يقررها التشريع الجنائي، ولعل من أبرز مظاهر هذا التقارب أن الجرائم التأديبية وإن كانت غير محددة على سبيل الحصر إلا أن المشرع غالبا ما يورد العقوبات المطبقة بشأنها إيرادا حصريا[27]، كما أن الهيئات التأديبية وإن كانت غير ملزمة بإتباع قواعد التحقيق والمحاكمة التي ينص عليها قانون المسطرة الجنائية إلا أن من واجبها أن تتقيد بهذه القواعد بما يكون كفيلا بتوفير الضمانات الجوهرية للمتهم.
من أجل ذلك يميل الفقه المعاصر إلى اعتبار التدابير التأديبية داخلة ضمن "المادة العقابية" بالمعنى الوارد في المادة السادسة من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان[28].

المطلب الثاني: تمييز الخطأ التأديبي عن الخطأ المدني

سيتم من خلال هذا المطلب تحديد مفهوم الخطأ المدني أولا، ثم لننتقل بعد ذلك للوقوف على الفرق بين الخطأ التأديبي والخطأ المدني.

الفقرة الأولى: مفهوم الخطأ المدني

إن المسؤولية القانونية إما أن تكون جنائية وإما أن تكون مدنية، وبعبارة أخرى إذا كانت المسؤولية القانونية عموما -على خلاف المسؤولية الخلقية- هي أن يحاسب شخص على ضرر أحدثه بغيره، فإنها تنقسم بحسب ما إذا كان هذا الضرر يقتصر على الأفراد أم يصيب الجماعة، إلى مسؤولية جنائية و مسؤولية مدنية.
وتعرف المسؤولية المدنية على أنها الالتزام بتعويض الضرر الناشئ عن الإخلال ب التزام عقدي أو قانوني، و تنقسم المسؤولية المدنية تقليديا إلى:
- مسؤولية عقدية : وتقوم إذا كنا بصدد إخلال بالتزام عقدي، وبعبارة أخرى هي المسؤولية التي تترتب على عدم تنفيذ الالتزام الناشئ عن العقد على الوجه المتفق عليه في العقد؛
- مسؤولية تقصيرية : وتقوم إذا كنا بصدد إخلال بالتزام قانوني، وبعبارة أخرى هي المسؤولية التي تقوم على إلزام القانون بتعويض الضرر الذي ينشأ دون علاقة عقدية بين المسئول عنه و الذي كان ضحيته.
ولقد ظل التمييز بين المسؤوليتين التقصيرية والعقدية سائدا طيلة القرن التاسع عشر، لكن هذا التمييز تعرض للنقد من طرف الفقه الحديث الذي رأى في أساس المسؤولية المدنية إخلالا بالتزام ما، فتكون في الحالتين معا ذات طبيعة واحدة، سواء نشأ هذا الالتزام عن عقد أو عن قانون.
فأركان المسؤولية المدنية واحدة، سواء كانت عقدية أم تقصيرية تقوم على الخطأ و يترتب عليها في الحالتين تعويض الضرر، مع وجود علاقة سببية تربط بين الضرر والخطأ.
و مع ذلك إذا كانت العناصر الأساسية للمسؤولية المدنية ( في نوعيها ) واحدة، فإنّ فروقا هامة تقوم من الناحية الفنية بينهما، لاختلاف التنظيم التشريعي للمسؤولية العقدية من بعض الوجوه عن المسؤولية التقصيرية، وأهم هذه الفروق هي:
· الاعذار: فالاعذار الذي يستلزم لاستحقاق التعويض يقتصر على المسؤولية العقدية و يعفى منه الدائن في المسؤولية التقصيرية؛
· الأهلية: فالأهلية شرط للالتزام بمقتضى العقد، فالمسؤولية العقدية تستلزم الأهلية الكاملة، وناقص الأهلية لا يلتزم بعقده. ولكن يلتزم الشخص بعمله غير المشروع، متى كان مميزا، أي إنه في المسؤولية التقصيرية يكفي توافر التمييز لدى المسئول. لكن البعض ( أنصار وحدة المسؤولية ) يقولون أن سبب المسؤولية العقدية ليس العقد و لكن مخالفة الالتزام الناشئ عن العقد، وأن سبب المسؤولية التقصيرية ليس القانون ولكن مخالفة الالتزام الناشئ عن القانون، و في الحالتين لا يتطلب توافر الأهلية لدى المسئول؛
· التعويض: لا يلتزم المدين الذي يخل بالتزامه الناشئ عن العقد إلا بتعويض الضرر الذي كان يمكن توقعه عادة وقت التعاقد، ما لم يكن قد ارتكب غشا أو خطأ جسيما. ولكن المدين في التزام عن فعل غير مشروع يلتزم بتعويض كل الضرر المباشر متوقعا أو غير متوقع؛
· التضامن: لا تضامن بين المدينين في الالتزام الناشئ عن العقد إلاّ إذا اتفق أو نص عليه القانون، و لكن التضامن بين المسئولين عن الفعل الضار مفروض بحكم القانون؛
· الاتفاق على الإعفاء من المسؤولية: يجوز الاتفاق في حدود معينة على الإعفاء من المسؤولية العقدية، ولكن يقع في جميع الأحوال باطلا كل اتفاق على الإعفاء من المسؤولية التقصيرية.

الفقرة الثانية: التمييز بين الخطأ التأديبي والخطأ المدني

سيتم الوقوف على الفرق بين الخطأ التأديبي والخطأ المدني من خلال رصد هذه الفروق بين الخطأين ضمن طائفة الموظفين (أولا)، ثم طائفة المحامين (ثانيا).

أولا: الخطأ التأديبي والمدني للموظف.
إن مجال التفرقة بين الخطأ المصلحي والخطأ الشخصي هو المسؤولية المدنية للموظف وتحميله نتائج فعله في ماله الخاص، أما المسؤولية التأديبية فهي تقوم على إخلال الموظف بواجبات وظيفته والخروج على مقتضياتها، وبالتالي فأي خطأ أو تقصير منه في أداء واجبات وظيفته يشكل ذنبا تأديبيا يتعين مساءلته عنه تأديبيا أيا كان هذا الخطأ مصلحيا أو شخصيا[29].
يعتبر الموظف مرتكبا خطأ شخصيا إذا كان الخطأ الذي يرتكبه وهو يزاول عمله خطأ جسيما، وهو ما أشار إليه المشرع المغربي في الفقرة الثانية من الفصل 80 من قانون الالتزامات والعقود بصريح العبارة حيث نص على ما يلي: "مستخدمو الدولة والبلديات مسئولون شخصيا.... عن الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم في أداء وظائفهم". وهكذا أصبح الخطأ الجسيم بمثابة خطأ شخصي يتحمل الموظف مسؤوليته الشخصية عن هذا الخطأ في حالة حدوثه وهو المبدأ الذي أقره القضاء الإداري الفرنسي، إن القضاء المغربي تضمن أيضا هذا المبدأ الذي أقره القضاء الإداري الفرنسي من خلال اجتهاداته المتكررة في ميدان المسؤولية الإدارية، حيث حمل القضاء المغربي الموظف المسؤولية الشخصية في حالة ارتكابه خطأ جسيما. فرغم أنه لم يحدد بدقة عناصر ومفهوم الخطأ الجسيم إلا أنه اعتبر أن سلوك الموظف الذي لا يقوم على درجة معينة من الفطنة والتبصر ويتجاوز في عمله الحدود القانونية وينساق وراء أهوائه الشخصية إلى درجة تجعل عمل الموظف منفصلا عن واجبات وظيفته يعتبر خطأ جسيما يستوجب مسائلته شخصيا[30].
إلا أن الملاحظ أنه ليس من السهل وضع حدود فاصلة بين الخطأ اليسير والخطأ الجسيم، ذلك أن تحديد درجة جسامة الخطأ مسألة نسبية تتفاوت تبعا للظروف المختلفة، ويهتدي فيها بالسلوك المألوف من شخص في ظروف مماثلة لتلك الظروف التي كان فيها الموظف المخطئ ويدخل في نطاق الخطأ الجسيم الإخلال بأي إجراء جوهري يؤثر في كيان العمل المنوط بالموظف القيام به، وتقدير درجة جسامة الخطأ أمر متروك للقاضي يقدره في كل حالة على حدة.
ولو بحثنا درجة الخطورة التي يمكن أن يتضمنها الفعل الضار الذي يمكن أن يقوم به الموظف في ممارسة وظائفه، يلاحظ أنه يمكن أن يقع في خطأ بسيط أو في خطأ جسيم أكثر خطورة، فالخطأ البسيط الذي يرتكبه الموظف أثناء ممارسة وظائفه هو في الحقيقة خطأ إداري يستوجب مسؤولية الإدارة التي تستخدم الموظف في القيام بوظائفها أما الخطأ الجسيم أو الخطير يكمن في العمد الذي يدفع الموظف إلى ارتكاب الخطأ دون أن يقصد إلحاق الأذى بالغير أو البحث عن فائدة أو منفعة شخصية له خارج ممارسة وظائفه ويوصف الخطأ في هذه الحالة بأنه خطأ شخصي يحتم مسؤولية الموظف واختصاص المحاكم القضائية في البت فيها[31].
وهكذا يمكن القول أن موقف المشرع المغربي من فكرة الخطأ الشخصي، يقوم على أساس ربط الخطأ الشخصي بالأعمال التدليسية التي يرتكبها وهو يزاول عمله، أو كون الأخطاء التي تسبب فيها الموظف، تعتبر أخطاء جسيمة، فإذا كان خطأ الموظف لا يتضمن أي تدليس أو خطأ جسيم، فإن الخطأ يعتبر مرفقيا، وبالتالي تتحمل الإدارة مسؤولية هذا الخطأ، وفي هذا الصدد أكدت محكمة استئناف الرباط بتاريخ 16 أبريل 1932 مايلي[32]:
"....حيث أنه بناء على عبارات الفصل 80 من ظهير الالتزامات والعقود فإن أعوان الدولة، لا يسألون شخصيا إلا بسبب الأضرار الناتجة عن تدليسهم أو أخطائهم الجسيمة أثناء ممارستهم لوظائفهم وأنه في حالة من هذا القبيل فإن السيد l’espès لم يرتكب أي تدليس أو خطأ جسيم، وإنما مجرد إهمال يكون خطأ مرفقيا يترتب عنه، بناء على الفصل 79 المسؤولية المباشرة للدولة...." .
ومن خلال ما سبق يتبين حجم الارتباط بين الخطأ التأديبي والخطأ المدني بالنسبة للموظف، فكلما ارتكب هذا الموظف خطأ تسبب في ضرر إلا وأمكن معه تحريك المسؤوليتين المدنية وحتى التأديبية، وبناء على ذلك تصبح عدم المشروعية هي الصفة الجامعة بين الخطأين التأديبي والمدني. لكن ومع ذلك يبقى الخطأ التأديبي مستقلا عن الخطأ المدني، فمن حيث البناء المادي للجريمتين نجده لا ينبني على نفس الأساس، فالعنصر الجوهري في الجريمة المدنية هو الضرر بحيث لا التزام بالتعويض إلا بثبوت وقوعه، بينما تقوم الجريمة التأديبية على الإخلال بسير العمل وتهديد استمرار المرفق العام. كما أن الهدف من إقرار المسؤولية المدنية للموظف هو جبر الضرر الذي تسبب فيه، وذلك بتعويض المتضرر من هذا الخطأ.

ثانيا: المسؤولية التأديبية والمدنية للمحامي.
في البداية لابد من الإشارة إلى صعوبة وضع معيار محدد على أساسه يتم تمييز المخالفة التأديبية عن الخطأ المهني المرتب للمسؤولية المدنية، وذلك لتداخلهما من حيث النطاق، لكن ورغم ذلك فإن هناك بعض الجوانب التي يختلفان فيها وتتمثل في ما يلي:
· من حيث الهدف: إن هدف المشرع وكذا النصوص التنظيمية المنظمة لمهنة المحاماة في الاعتراف بالمخالفة التأديبية وبالتالي المسائلة هو الحفاظ على شرف المهنة وصيانتها من كل ما من شأنه أن يخدش وقار المهنة وسموها.
أما هدف المشرع من وراء ترتيب مسؤولية المحامي المدنية عن أخطائه المهنية فهو جبر الضرر الحاصل للمضرور، وكذا تعويضه عن هذا الخطأ[33]؛
· من حيث النطاق: نلاحظ أن نطاق المخالفة التأديبية أوسع من نطاق الخطأ المهني المرتب لمسؤولية المحامي المدنية، حيث تشمل الأخطاء التأديبية جل الأعمال والتصرفات التي يقوم بها المحامي خارج المهنة بل حتى لو تعلق الأمر بحياته الشخصية؛
· من حيث الاستقلالية: تقوم المخالفة التأديبية ولو لم تثر مسؤولية المحامي المدنية؛
· من حيث تحريك المتابعة: إن تحريك المتابعة المدنية يكون من طرف المتضرر (الزبون) الذي تتوفر فيه الأهلية والصفة والمصلحة، فيما أوكل المشرع مهمة تحريك المتابعة التأديبية إلى جهات متعددة؛
· من حيث تقرير الجزاء ونوعيته: إن تقرير الجزاء في حالة ارتكاب المحامي لمخالفة تأديبية يكون من طرف الهيئة التي ينتمي إليها، بينما في حالة ارتكابه الخطأ المدني فإن القضاء هو الذي يصدر الجزاء المقرر لهذا الخطأ؛
· من حيث نوعية الجزاء: يختلف الجزاء بحسب نوع الخطأ المنسوب إلى المحامي، فالجزاء في المخالفة المدنية يكون دائما عبارة عن تعويض وجبر للضرر اللاحق بالزبون أو المتضرر من فعل المحامي بصفة عامة.
أما المخالفة التأديبية فالملاحظ أن هناك نوع من الخصوصية، حيث تتعدد العقوبات التأديبية وتتدرج حسب جسامة المخالفة التأديبية بين الإنذار والتوبيخ والإيقاف عن ممارسة المهنة لمدة لا تزيد عن ثلاث سنوات وكذا التشطيب من الجدول أو من لائحة التمرين أو سحب الصفة المهنية.

خاتمة:
إن النظام التأديبي بحق يعد أحد الضمانات الأساسية لانتظام العمل داخل مختلف المؤسسات، فتأديب العاملين يبقى له أهميته لحسن سير العمل سواء تعلق الأمر بالإدارات العمومية بالقطاع العام أو بمختلف المقاولات الفردية والشركات الخاصة التي تدخل في نسيج القطاع الخاص، بل وحتى في مجال المهن الحرة يبقى التأديب له أهميته الخاصة في ضمان شرف ونزاهة المهنة كما هو الشأن بالنسبة لمهن المحاماة والأطباء والصيادلة....
فالموظف أو العامل بشكل عام يبقى مطالبا بالالتزام بالواجبات المفروضة عليه وإلا اعتبر مرتكبا لخطأ تأديبي يستحق معه تنزيل العقوبة التأديبية المناسبة، وقد تبين لنا من خلال هذا العرض صعوبة وضع تعريف محدد للخطأ التأديبي، بحيث أن المشرع لم يُقدم على محاولة وضع تعريف محدد للأخطاء المرتكبة والتي تعتبر مستحقة للجزاء التأديبي، وهو الأمر الذي فسح المجال للفقه والقضاء من أجل محاولة تدقيق مفهوم الخطأ التأديبي إما من خلال تحديد أنواع الأخطاء التأديبية المرتكبة أو من خلال تحديد العناصر المكونة لها.
وقد وقفنا أيضا من خلال هذا العرض على تمييز الخطأ التأديبي عن باقي الأخطاء التي يمكن للعامل أن يقع فيها وفي مقدمتها الأخطاء الجنائية والأخطاء المدنية، وتبين لنا أن مجال الخطأ التأديبي مستقل عن مجال الخطأ الجنائي والخطأ المدني، وإن كان هذا الاستقلال لا يرقى إلى مستوى القطيعة، فلقد تبين لنا كيف أن العامل يمكن أن يتابع من أجل نفس الفعل تأديبيا وجنائيا كما في حالة الرشوة بالنسبة للموظف، ويمكن أن يتابع تأديبيا ومدنيا كما في حالة الخطأ الشخصي المنسوب إلى الموظف.
وفي الأخير يمكننا أن نتساءل عن الضمانات الممنوحة للعاملين من أجل مناقشة قرارات تأديبهم سواء أمام القضاء أو عن طريق مراجعة هذه التهم التأديبية أمام الجهة صاحبة الحق في اتخاذ العقوبة التأديبية.
_______________________________________________
هوامش:
[1] - ينبغي الإشارة إلى أن مصطلح "العامل" المذكور أعلاه يندرج ضمنه مختلف أصناف الفئات التي تشتغل لحساب مؤسسة أو إدارة أو مقاولة فردية .....، وفي مقدمة هذه الأصناف نجد فئة الموظفين الخاضعين لنظام الوظيفة العمومية وفئة الأجراء الخاضعين لمدونة الشغل.
[2] - دليل الشؤون التأديبية، منشورات وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، مديرية الموارد البشرية وتكوين الأطر.
[3] - سمير يوسف البهى، قواعد المسؤولية التأديبية في ضوء أحكام المحكمة الإدارية العليا، دار الكتب القانونية مصر 2007، ص:14.
[4] - النظام الأساسي للوظيفة العمومية، ظهير شريف رقم 01.58.008 بتاريخ 24 أبريل 1958، ج ر عدد 2372 بتاريخ أبريل 1958.
[5] - احمد محمد قاسم، تأديب الموظفين وطرق الغاء القرارات التأديبية، الكتاب الثالث صوماديل 1998، ص:5.
[6] - خالد سمارة الزغبي، القانون الإداري، الطبعة 3 دار الثقافة عمان 1998، ص:233.
[7] - محمد كرامي، القانون الإداري، الطبعة 2 النجاح الجديدة 2003، ص: 334.
[8] -Michel Rousset, Droit administratif marocaine, édition la porte, p :531
[9] - عبد اللطيف هداية الله، مسؤولية المحامي في التشريع المغربي، دبلوم الدراسات العليا بكلية الحقوق بالدارالبيضاء 1991، ص: 54.
[10]- اسماعيل الصفاحي، التأديب في المجالين الإداري والعسكري، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق أكدال 2000/2001، ص:82.
[11]- خالد سمارة الزغبي، م س ، ص:234.
[12] - نصر الدين مصباح القاضي، النظرية العامة للتأديب في الوظيفة العامة، دراسة مقارنة في التشريع المصري والليبي والشريعة الاسلامية، الطبعة 2 درا الفكر العربي القاهرة 2002، ص:32.
[13] - مليكة الصروخ، القانون الإداري دراسة مقارنة، الطبعة 6 الشركة المغربية الدار البيضاء، ص:235.
[14] - Amal MECHRAFI, la responsabilité disciplinaire dans la fonction public, REMALD 1997.
[15] - حسين حمودة المهدوي، شرح أحكام الوظيفة العامة، المنشأة العامة طرابلس 1986، ص:441.
[16] - نصر الدين مصباح القاضي، م س ، ص: 178.
[17] - ينص الفصل447 من القانون الجنائي على ما يلي:"كل مدير أو مساعد أو عامل في مصنع إذا أفشى أو حاول إفشاء أسرار المصنع الذي يعمل به سواء كان ذلك الإفشاء إلى أجنبي أو إلى مغربي مقيم في بلد أجنبي يعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات و غرامة مائتين إلى عشرة ألاف درهم إذا أفشى هذه الأسرار إلى مغربي مقيم في المغرب فعقوبته الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين و غرامة من مائتين إلى مائتين و خمسين درهما.
[18] - أي التعدي على أي شخص أخر بالمقاولة قد يكون أجيرا أخر أو المشغل نفسه أو أحد نوابه أو أحد الزبائن ما دام أن القاعدة أعلاه جاءت مطلقة لم تحدد المعتدى عليه.
[19] - المشرع من خلال المادة39 من مدونة الشغل قرر أن إخلال الأجير بالإلتزام بالمحافظة على التجهيزات أو الآلات أو المواد الأولية هو خطأ جسيم بشرط أن يترتب عن هذا الإخلال ضرر جسيم و أن يكون ذلك الإخلال قد كان نتيجة فعل عمدي نتيجة أو إهمال فادح.
[20] - تنص المادة 12 من القانون المنظم لمهنة المحاماة على هذا القسم والذي يؤديه المحامي أمام الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف والوكيل العام للملك وكذا نقيب الهيئة.
[21] - المادة 07 من القانون 28-08 المتعلق بمهنة المحاماة.
[22] - المادة 3 من قانون المحاماة.
[23] - عبد الحفيظ بلقاضي، مدخل إلى الأسس العامة للقانون الجنائي، الرباط دار الأمان 2003، ص: 163.
[24] - عبد الحفيظ بلقاضي، م س، ص: 164.
[25] - محمد عمر مصطفى، الجريمة وعدد أركانها، مجلة القانون والاقتصاد، ص: 148.
[26] - عبد الحفيظ بلقاضي، م س، ص: 164.
[27] - بالنسبة لفئة الموظفين مثلا نجد أن المشرع المغربي نص في الفصل 66 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية على مجموعة من العقوبات على سبيل الحصر وهي: الانذار، التوبيخ، الحذف من لائحة الترقي، الانحدار من الطبقة، القهقرة من الرتبة، العزل من غير توقيف حق التقاعد، العزل بتوقيف حق التقاعد، الإحالة الحتمية على التقاعد.
[28] - عبد الحفيظ بلقاضي، م س، ص:166 وما بعدها
[29]- سمير يوسف البهى، م س، ص: 20.
[30] - قرار المحكمة الابتدائية بطنجة تحت عدد : 863 بتاريخ 7 شعبان 1404 موافق 9 مايو 1984 بين السيد البشير الدمناتي والسيد الحسين المسكوري وقابض الضرائب المركزي بطنجة
[31] - سامي حامد سليمان : " نظرية الخطأ الشخصي في مجال المسؤولية الإدارية .دراسة مقارنة" . مكتبة النهضة المصرية .الطبعة الأولى 1988.ص 187 .
[32] - قرار محكمة استئناف الرباط رقم 1163 بتاريخ 16 أبريل 1932 مجموعة قرارات محكمة استئناف الرباط الجزء السادس لسنة 1931 -1932 ص 533 قرار محكمة استئناف الرباط بتاريخ 4 مارس 1925 مجلة المحاكم المغربية 25 يونيو 1925 ص 203 رقم 181 القرار الصادر بتاريخ 16 أبريل 1932 مجلة المحاكم المغربية 11 يونيو 1932 رقم 498 ص 195.
[33] - المادة 78 من قانون الالتزامات والعقود.

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -