المسؤولية الإدارية عن الأعمال المادية المشروعة للإدارة

مسؤولية الإدارة عن أعمالها المادية المشروعة للإدارة

مسؤولية الإدارة عن أعمالها المادية المشروعة للإدارة PDF

شهدت المسؤولية الإدارية نوعا من التحديث خلال نشأتها، حيث إن الإقرار بها لم يتم إلا أواخر القرن 19، بعد تظافر مجموعة من الجهود التي ساهمت في إخراج الدولة من مرحلة لا مسؤولية الإدارة إلى مرحلة الإقرار بالمسؤولية الإدارية كمبدأ ، بالإضافة إلى استقلالها عن المسؤولية المعمول بها في إطار القانون الخاص.
ومع بروز الديمقراطيات الغربية ، واندثار حكم الفرد المطلق وانبثاق فجر المؤسسات التشريعية، والمناداة بالحريات العامة في إطار مجتمع مدني يكفل للجميع الحق في حياة كريمة، انقلبت الموازين بحيث أصبح الجميع يخضع لأحكام القانون حكاما كانوا أو محكومين، فكان من الطبيعي تقرير مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمالها، ونتيجة لهذا أصبح الضمير الإنساني غير قابل لمثل هذه التصرفات ومن هنا كان لزاما على القانون أن يجد مخرجا لهذا الإشكال لكي تلزم الدولة وتسأل عن الأضرار التي تحدثها بالأفراد علما بأن المراقبة القضائية مرتبطة كل الارتباط بمبدأ المشروعية الذي يجب أن يحترمه الجميع حكاما ومحكومين.
إن الأصل في المسؤولية الإدارية قيامها بناء الخطأ الذي يرتكز على ثلاثة عناصر أساسية للإقرار بهذا النوع من المسؤولية وتتمثل في : الضرر ، الخطأ ، والعلاقة السببية ، إلا أن المسؤولية القائمة على الخطأ في بعض الحالات قد تلابسها ملابسات وتحيط بها ظروف تجعل الخطأ فيها معدوما أو مجهولا ، وعليه فإن القضاء لا يتطلب إثباته للإقرار بمسؤولية الإدارة ويكتفي في ذلك بإيجاد العلاقة السببية بين الضرر ونشاط الإدارة المشروع ، والحكم بذلك على أساس نظرية المخاطر التي تتجسد في الأعمال المادية المشروعة للإدارة.
وقد تم إقرار المسؤولية الإدارية بالمغرب بنصوص تشريعية متفرقة أهمها الفصلين 79 و 80 من قانون الالتزامات والعقود، والمادة 8 من قانون رقم 41-90 المحدث بموجبه المحاكم الإدارية.
ويهدف الأفراد من اللجوء لدعوى التعويض إلى نيل التعويضات المادية من الدولة بقدر يتناسب والضرر الحاصل قصد جبر الأضرار والخسائر التي تلحق بهم من جراء نشاط الإدارة المحلية أو الوطنية ، وترفع هذه الدعوى أمام المحاكم الإدارية التي يمكن استئناف أحكامها أمام محكمة النقض – الغرفة الإدارية – ويستمد قضاء التعويض مصداقيته من كون المرفق العمومي يعمل لمصلحة العموم وليس من شأنه أن يلحق الأضرار بالغير إلا أن تزايد نشاطات الإدارة وتوسعها جعل من البديهي أن تتسبب أحيانا في أضرار قد تلحق بالغير مما يفرض إعطاء هؤلاء الأغيار الحق في طلب رفع الضرر والحصول على تعويض مناسب في إطار مسؤولية الإدارة عن هذا الضرر سواء بخطأ منها أو بدون خطأ.
كما أن أهمية قضاء التعويض تكمن في كونه يعنى بالأعمال المادية للإدارة، عكس الأمر بالنسبة لقضاء الإلغاء الذي يجد مجال تطبيقه في القرارات الإدارية إلا أن هذا لا يمنع من أن هذا الأخير يعتبرمكملا لقضاء التعويض الذي يعمل على مراقبة الأعمال المادية للإدارة قصد استيفاء حقوق الأفراد في حالة تعرضهم للضرر الناتج عن هذه الأعمال لتشمل بذلك إلى جانب المرتفقين، الأغيار والمتعاونين مع الإدارة، كما تكمن أهمية المسؤولية الإدارية في أنها تعد جزءا بالغ الأهمية ضمن دعوى القضاء الشامل الذي يحتل مكانة مهمة في مجال القضاء الإداري باعتباره يشكل رقابة فعالة للدولة لما يوفره من ضمانات وحقوق للأفراد، كما أن الإقرار بمبدأ المسؤولية يعتبر في حد ذاته حماية لمصالح الأفراد، حيث لم يتردد القضاء الإداري الفرنسي في الأخذ بمبدأ المسؤولية الإدارية، كما عمل المشرع المغربي بدوره على تكريس هذا المبدأ من خلال قانون الالتزامات والعقود، ومن تم الأخذ بنظرية المخاطر كمصدر مهم لمسؤولية الإدارة عن أعمالها المادية المشروعة .
وقد نادى العديد من الفقهاء على تبني مبدأ المسؤولية الإدارية من ضمنهم الفقيه " دويز " الذي أكد على أن المسؤولية الإدارية تشغل حيزا كبيرا في مجال القضاء الإداري و يتجلى ذلك في العديد من أحكامه.
إن المكانة التي تحتلها أنشطة الدولة في المجتمع وكذا الحاجة الملحة لجبر الضرر الذي قد ينشأ عن أعمال الإدارة، بالإضافة إلى تطور مفهوم الدولة، كلها عوامل ساهمت في ظهور وتوسع فكرة المسؤولية الإدارية، فالإدارة بما لها من سلطات تخولها استعمال وسائل وآليات قد تشكل أحيانا خطرا أثناء قيام الإدارة بأعمالها خاصة المادية منها والمشروعة، مما ترتب قيام المسؤولية عن هذه الأعمال، ولطالما عمل الاجتهاد القضائي عبر مراحل متتالية على الخروج بحلول فيما يخص هذا النوع من المسؤولية، دون إغفال دور المشرع المغربي بتكريسه لمبدأ المسؤولية الإدارية، ولعل هذا ما يحيل إلى التساؤل عن ظهور المسؤولية الإدارية وتطورها (المبحث الأول)، وطبيعتها ومدى ارتباطها بالأعمال المادية المشروعة للإدارة (المبحث الثاني).

المبحث الأول : نشأة وتطور المسؤولية الإدارية

عرفت المسؤولية الإدارية خلال نشأتها مجموعة من التحولات التي ساعدت على تطورها فبعد أن كانت المسؤولية الإدارية غير معترف بها (المطلب الأول) تم الإقرار بها كمبدأ كمرحلة جديدة تكرس لنوع جديد من المسؤولية ( المطلب الثاني).

المطلب الأول : مرحلة عدم مسؤولية الإدارة

عرفت جل الدول خلال مطلع القرن 19 غيابا لمسؤولية الدولة عن أعمالها تجاه الأفراد، من هنا جاءت القاعدة التي مفادها أن "الملك لا يخطئ" حيث سادت هذه الفكرة بإنجلترا، وأن الأضرار المنسوبة للتاج لا يمكن أن تكون محل تعويض فلا تغطي بذلك فقط الأعمال الخاصة بالملك، بل كذلك تصرفات الوزراء وعدد من الأعوان السامين، أي الأعمال المهمة لإدارة الدولة[1].
وبالتالي كان هناك خلط بين الدولة وشخصية الملك، باعتبار أن الدولة ذات سيادة مطلقة وبالتالي لا يسأل الملك عن أعماله بحيث إن وظيفة الدولة تمثلت في حفظ النظام العام بمدلولاته الثلاث : الأمن العام، الصحة العامة، والسكينة العامة في إطار الدولة الحارسة أو مفهوم الدولة الدركية .
فقد كانت فكرة السيادة أساسا لعدم مسؤولية الدولة إلى غاية النصف الأول من القرن 19، حيث برز عدد من الفقهاء وعلى رأسهم "لافريير" بحيث يجعلون من مبدأ السيادة ومبدأ المسؤولية أمران متناقضان، فتقرير أحدهما ينفي وجود الآخر، كما أنها تفرض على الكافة ولا يمكن مطالبة الدولة بأي مقابل أو تعويض، وهذا التصور لفكرة السيادة جعل " لافريير" يترجمه على أنه مانع لأية مسؤولية تقع على كاهل الدولة ومنكرا للحق في التعويض عن أية أضرار سواء كان مصدرها أو سببها القوانين أو تلك الناجمة عن أعمال الإدارة سواء في علاقتها مع موظفيها أو النتائج الضارة لأعمال الضبط الإداري[2].
وبذلك عرفت المسؤولية الإدارية في العديد من الدول مبدأ عدم مسؤولية الدولة عن أعمالها، على غرار فرنسا التي عرفت عهود الملكيات المطلقة المستبدة بحجة أن الملك لا يسيء صنعا باعتباره يشكل امتدادا لإرادة الله فوف الأرض، فلا يسأل عن أعماله، وهذا ما أشار إليه الأستاذ " لافريير" بقوله : إن اعتبار الدولة صاحبة السيادة يجعلها تفرض نفسها على كل شخص دون أن تعوضه[3].
هذا وقد ترتب عن انحصار مهام الدولة في الوظائف التقليدية المتمثلة في الحفاظ على أمن الدولة الداخلي وحماية سلامة أمنها الخارجي، التقليل من الأعمال الضارة التي تصيب الأفراد نتيجة أنشطتها اليومية، حيث إن هذه الأضرار كانت نادرة جدا مما قلل من فكرة المسؤولية الإدارية، وفي المقابل ترتب عن اتساع نشاط الخواص وازدياد أهمية الأضرارالتي يتسببون فيها من خلال الممارسة اليومية لأنشطتهم المتعددة بإلقاء مسؤولية هذه الأضرار على عاتق الأفراد[4].
هذا وقد اعتنق رجال الثورة الفرنسية مبدأ الفصل بين السلطات متأثرين في ذلك بنظرية " مونتسكيو" إلا أنهم فسروا المبدأ تفسيرا خاطئا بمناداتهم بالفصل التام بين السلطات، الشيء الذي أدى إلى ظهور ما سمي بالإدارة القاضية، فبصدور قانون سنة 1970 الذي يقرر فصل السلطات الإدارية عن القضائية أصبحت الإدارة تتولى بنفسها الفصل في المنازعات التي تقوم بينها وبين الأفراد، حيث إن هذا القانون يحرم على السلطة القضائية التعرض للمنازعات الإدارية[5].
هذا ما جعل الإدارة تكون الخصم والحكم في آن واحد وذلك بعدم إمكانية تدخل السلطة القضائية في اختصاصات وأعمال السلطة الإدارية، على اعتبار أن هذا من شأنه أن يعرقل أعمال الإدارة والحيلولة دون ممارسة مهامها، وفي هذا ولا شك تفسير خاطئ لمبدأ الفصل بين السلطات .
فبالنظر للأفكار التي عرفت آنذاك فإن فكرة عدم مسؤولية الإدارة عن أعمال جميع موظفيها هي السائدة، إذ رأت السلطة الفرنسية أن المحاكم تعرقل الإصلاحات التي تعزم الإدارة القيام بها لذلك عملت على إبعاد منازعات الإدارة عن ولاية المحاكم العادية، وتجسيدا لذلك صدر قانون 16-24 سنة 1790 الذي نص في المادة 13 منه على أن : الوظيفة القضائية مستقلة وتظل دائما منفصلة عن الوظيفة الإدارية، ولا يمكن للقضاة عرقلة أعمال الهيآت الإدارية أو استدعاء رجال الإدارة للمثول أمامهم بسبب الأعمال المتصلة بوظائفهم الإدارية.
إلا أن هذا الوضع لم يستمر مع تزايد رفض الفقهاء والقضاة لذلك، وبذلك تم إنشاء جهة استشارية ومجالس الأقاليم أهمها مجلس الدولة قصد تمكينها من البت في المنازعات الإدارية، بحيث تم الاعتراف لمجلس الدولة بصلاحية الفصل في المنازعات الإدارية المرفوعة أمامه بصفة نهائية ودون حاجة إلى مصادقة السلطة الإدارية على قراراته.
وبذلك ظهر مفهوم جديد يتمثل في المسؤولية الإدارية وذلك بالتخلي التدريجي عن مبدأ السيادة المطلقة للدولة.

المطلب الثاني : مرحلة مسؤولية الإدارة

ساد مبدأ عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها لفترة طويلة حتى نهاية القرن 19، عرف خلالها الوضع الذي كان سائدا انتقادا ورفضا شاسعا من طرف العديد من الفقهاء والمهتمين، حيث بدأت الإدارة تتراجع عن عدم مسؤوليتها تجاه ما تقوم به من أعمال، وقد تم الإقرار بالمسؤولية الإدارية تدريجيا بين الدول عكس ما جرى عليه الأمر بالنسبة للدول الإسلامية التي تقر سلفا بمسؤولية الدولة كأساس لا بد منه لبناء دولة الحق والقانون التي تسعى إلى تحقيق مبادئ العدل والإنصاف داخل المجتمع.

أولا : تطور المسؤولية الإدارية في فرنسا

كان للثورة الفرنسية أثر واضح في تغيير الأوضاع التي سادت لفترة من الزمن على اعتبار أن الإدارة غير مسؤولة عن أعمالها خاصة المادية منها والمشروعة، لكن سرعان ما تبدد الوضع الذي كان قائما بانتشار الأنظمة الديمقراطية، الشيء الذي حذا بمجموعة من المفكرين والفلاسفة لمواجهة هذا الوضع خاصة مع تقدم وارتفاع درجة الوعي داخل أوساط المجتمع الفرنسي كما هو الشأن في جل الدول .
وبهذا التطور أصبح بالإمكان الحديث عن مسؤولية الدولة عن أعمالها الضارة، لكن ما يلاحظ أن هذه الفكرة جاءت تدريجيا وعبر مراحل حيث تم الانتقال من لا مسؤولية الدولة إلى مسؤولية محدودة وفي مجالات معينة، إلى مسؤولية بشكل واسع[6].
وقد بدأ التحول في فرنسا بتطبيق مبدأ مسؤولية الإدارة أولا على أساس التمييز بين نوعين من أعمال الدولة، أعمال إدارية شبيهة بأعمال الأفراد العاديين تقوم بها الدولة بأساليب وتصرفات القانون الخاص بوصفها تاجرا أو صانعا عاديا، وهي الأعمال التي تعرف بأعمال الإدارة المجردة، وهذه الأعمال شملها مبدأ مسؤولية الدولة، وأعمال مستمدة من السلطة العامة وهي الأعمال التي تظهر فيها الدولة مسؤولة عنها، وكان ذلك لتمييز أعمال الدولة في نطاق المسؤولية عنها[7].
وذلك قصد التمييز بين أعمال الدولة بصفتها صاحبة السيادة وأعمالها الإدارية التي ترتب مسؤوليتها الإدارية في حالة تسببها بضرر للأفراد.
وفي ذلك ما جاء في نص المادة الرابعة من قانون " بلوفيوز" للسنة الثامنة بخصوص التعويض عن الأضرار الناجمة عن الأشغال العمومية، وبالرغم أن النص لم يتم الإشارة فيه إلى مسؤولية السلطة العامة، إلا أن القضاء الإداري توسع في تفسيره بمنحه الاختصاص بمسؤولية الإدارة عن عقود الأشغال العامة، والتي صنفت فيما بعد ضمن المسؤولية بدون خطأ وبالتحديد على أساس المخاطر[8].
مع أن التكريس القضائي للمسؤولية الإدارية ارتبط بالتنازع حول الاختصاص بين تطبيق قواعد القانون المدني وترك الاختصاص للمحاكم الإدارية .
- طبيعة القواعد القانونية المطبقة على المسؤولية الإدارية :
منذ الإقرار بمبدأ المسؤولية الإدارية عن أعمالها الضارة خاصة المادية منها، ظهر الخلاف بين ما إذا كانت القواعد المطبقة على المسؤولية الإدارية هي نفسها القواعد القانونية التي تحكم سير المنازعات بين الأفراد في إطار قواعد القانون المدني، وهذا ما تم إبداؤه خلال حكم بلانكو وقبله حكم rotchild بتاريخ 6 ديسمبر 1855، باعتبار الرأي الصادر عن مجلس الدولة في حكم rotchild هو الذي وضع المبادئ التي أكدها حكم بلانكو بترديده لنفس العبارات، غير أن هذا الحكم لم ينل اهتمام الفقه وكان يتعين الانتظار إلى حين صدور حكم بلانكو[9].
باعتباره نقطة انطلاق في الأخذ بمبدأ مسؤولية الإدارة عن أعمالها، ونتيجة لتزايد الاتجاه الذي ينادي بتقرير مسؤولية الإدارة عن أعمالها، اتجه القضاء إلى التخلي تدريجيا عن قواعد القانون الخاص المدني المطبقة في مجال القانون العام، وإيجاد قوانين جديدة ومغايرة لها تتميز بطبيعة خاصة تتفق مع إقرار مبدأ مسؤولية الإدارة عن أعمالها والحاجة إلى وجود قضاء إداري متخصص ومستقل بقواعده ونظرياته وأحكامه عن القضاء العادي، وغير مقيد بأحكام القانون المدني، الشيء الذي أفصح عنه اتجاه محكمة التنازع ومجلس الدولة في إيجاد قواعد جديدة تطبق قواعد خاصة تختلف عن قواعد القانون المدني مهمتها الموازنة والتوفيق بين المصالح المتعارضة[10]، وهذا ما كرسه حكم بلانكو الشهير .
- وقائع حكم بلانكو :
تتلخص وقائع هذا الحكم في أن عربة لشركة التبغ تابعة للدولة صدمت الطفلة " أجينز بلانكو " فأصيبت إثرها بجراح، فرفع والد الطفلة دعوى تعويض أمام المحاكم العادية، لكن باعتبار الدولة مسؤولة مدنيا عن الأخطاء التي يرتكبها عمال المصنع، دفع القضاء المذكور بعدم اختصاصه الأمر الذي دفع والي جهة " لجيروند " إلى رفع القضية أمام محكمة التنازع لتجيب عن مسألة تنازع الاختصاص، وقد قضت محكمة التنازع باختصاص القضاء الإداري وذلك في 8 فبراير 1873[11].
وقد أرسى هذا الحكم مجموعة من المبادئ وذلك بإقرار مسؤولية الإدارة عن أعمالها في الأضرار التي يتسبب بها مستخدموها وبالتالي استبعاد اختصاص القضاء العادي، واختصاص المحاكم الإدارية بالنظر في قضايا المسؤولية الإدارية، وبذلك تأكدت مسؤولية الإدارة التي يتسبب فيها مستخدموها وإن لم تكن لهم صفة موظف دائم .
وجدير بالذكر أن مصنع التبغ مرفق عام كان يدار بأسلوب القانون الخاص، ولكن محكمة التنازع اكتفت بارتباط المنازعة بمرفق عام لاعتبارها إدارية[12].
كما أكد الحكم كون المسؤولية الإدارية ليست عامة ولا مطلقة، وأن قواعدها خاصة وتختلف تبعا لحاجات المرفق وضرورة التوفيق بين حقوق الدولة وحقوق الأفراد[13].
وبذلك فقد أرسى حكم "بلانكو" لقواعد متجددة في المسؤولية كونها مسؤولية إدارية تخضع لقواعد غير المعمول بها في القانون المدني، إلا أن هذا لم يمنع القضاء من تبني بعض المبادئ من القانون المدني لإضفائها على قواعد القانون الإداري وتطبيقها عليه، هذا و قد ساهم الاجتهاد القضائي بشكل واسع في إبراز قواعد المسؤولية في فرنسا وقد عمل النظام المغربي بدوره على تكريس قواعد المسؤولية الإدارية .

ثانيا: تطور المسؤولية الإدارية بالمغرب :

إذا كانت المسؤولية الإدارية في فرنسا هي من ابتداع الاجتهاد القضائي، وبصفة خاصة محكمة التنازع، من خلال دورها الإنشائي في خلق قواعد متجددة، وأن مبدأ مسؤولية الإدارة عن أعمالها الضارة هو مبدأ حديث النشأة وجد مع ظهور الدولة الحديثة، فإن الوضع في المغرب يختلف عن ذلك باختلاف العقائد والمفاهيم التي تتفاعل وفقا للاعتبارات الحضارية[14].

أ - موقف الشريعة الإسلامية من مبدأ المسؤولية:
تم التأكيد على مبدأ المسؤولية من خلال الشريعة الإسلامية في إطار مسؤولية الدولة عن أعمالها، وبالتالي يطرح التساؤل حول مدى مسؤولية الدولة في الشريعة الإسلامية، ويظهر ذلك جليا في العديد من الأحاديث النبوية التي تكرس لمسؤولية الدولة، منها على سبيل المثال : أنه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته . قال : وحسبت أن قد قال: والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته[15].
وفي حديث آخر "لا ضرر ولا ضرار "، وهذا ما يؤكد قيام مسؤولية الدولة عن أعمالها وذلك بإرجاع الحقوق لأصحابها وتعويض المتضررين، ولا يختلف في ذلك إن كانت المسؤولية مسؤولية الوالي أو الخليفة أو الخادم أو غيرهم من حكام ومحكومين، كما إنه في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز جاء إليه رجل يطلب التعويض عما لحقه من ضرر فقال : يا أمير المؤمنين زرعت زرعا فمر به جيش من أهل الشام فأفسده، فأمر له الخليفة بإرجاع حقه عما لحقه من الضرر الناتج عن الجيش التابع له، وفي حديث آخر أن المسلمون الأوائل من الأنصار كانوا يجتمعون في موضع وسط المدينة المنورة وكانت الأرض التي يصلون عليها عبارة عن مرباد (موقف الإبل ومحبسها) لغلامين يتيمين، وعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بركت ناقته في ذلك الموضع الذي كان الأنصار يصلون فيه، وقال : " هذا المنزل إن شاء الله" فدعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: "بل نهبه لك يا رسول الله"، فأبى أن يقبله هبة حتى ابتاعه منهما ودفع ثمنها أبو بكر[16].
هذه الأحاديث وغيرها لخير دليل على أن الأمة الإسلامية كان لها السبق في الأخذ بمبدأ مسؤولية الدولة، تكريسا منها لمبادئ العدل والإنصاف بإرجاع الحقوق لأصحابها وتعويضهم عما يصيبهم من أضرار التي تكون الدولة سببا فيها، وهذا ما سار عليه حكام العرب من سلاطين وأمراء اقتداء بخلفاء الدولة الإسلامية ومناهج الشريعة السمحة، إلى أن تم التراجع شيئا فشيئا عن بعض أحكام الشريعة الإسلامية خاصة مع دخول المستعمر، لكن مبدأ مسؤولية الإدارة عن أعمالها الضارة ظل سائدا بإرساء نظام قضائي من خلال نصوص القوانين الوضعية .

ب - الأساس التشريعي للمسؤولية الإدارية بالمغرب :
جاء في ظهير 12 غشت 1913 في الفصل الثامن منه بتحديد بعض اختصاصات المحاكم العصرية في المادة الإدارية، وكذا قانون
الالتزامات والعقود (الفصلين 79 و80)[17]، في الفصل 79 : الدولة والبلديات مسؤولة عن الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها، وجاء في الفصل 80 منه أن : مستخدموا الدولة والبلديات مسؤولون شخصيا عن الأضرار الناتجة عن تدليسهم عن الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم في أداء وظائفهم.
هذا ما يميز القضايا الإدارية عن غيرها وبالتالي تحميل الإدارة مسؤولية الأضرار الناتجة مباشرة عن تسيير إدارتها وعن الأخطاء المصلحية لمستخدميها[18].
وبذلك فالمشرع المغربي هو الذي وضع السند القانوني للمسؤولية الإدارية عكس الأمر بالنسبة لفرنسا حيث تم إقرار المبدأ عن طريق الاجتهادات القضائية، وهناك مجموعة من القوانين التي أقرت المسؤولية الإدارية كظهير المسطرة المدنية .
أما بعد صدور القانون 41-90 بتاريخ 3-11-1993 المحدث بموجبه المحاكم الإدارية[19]، فإن المادة 8 منه نصت على أن " دعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام هي من اختصاص المحاكم الإدارية "، والمشرع المغربي بإدراجه لهذه المادة يكون قد استفاد من تجربة المشرع الفرنسي الذي ينص على
نفس العبارات في قانون 31 دجنبر 1957 مع فارق في الزمن يبلغ أكثر من ثلاثة عقود [20].
وبذلك فإن السند القانوني للمسؤولية الإدارية في المغرب كانت من صنع المشرع وليس من ابتداع القضاء إذ خصص لها المشرع فصولا متناثرة في نصوص تشريعية مختلفة [21]، غير أن إدراج النصوص المتعلقة بالمسؤولية الإدارية ضمن قانون ينظم العلاقات بين الأفراد كان موضع نقاش مستفيض من طرف الفقه والقضاء لمعرفة المبررات التي دفعت بمحرري هذا الظهير إلى إدراج الفصلين 79و80 المتعلقين بالمسؤولية الإدارية ضمن نصوص ظهير الالتزامات والعقود، ويمكن تفسير هذا الإدراج بالاستناد إلى ظهير التنظيم القضائي الذي أحدثته سلطات الحماية بالمغرب الذي كان يتميز بوحدة القضاء وازدواجية القانون، هذا الوضع تم تكريسه من خلال الفصل الثامن من الظهير المتعلق بالتنظيم القضائي الذي يقرر اختصاص المحاكم الفرنسية المحدثة في المغرب بنظر جميع الدعاوى التي تهدف إلى تقرير مديونية الإدارات العمومية بسبب جميع الأعمال الصادرة عنها والضارة بالغير، وإن محرري ظهير الالتزامات والعقود بإعطائهم الطابع التشريعي للمبادئ التي أعلن عنها مجلس الدولة الفرنسي، والمتعلقة بالمسؤولية الإدارية يكونون قد أدخلوا في القانون العام المغربي عنصرا جديدا ومتطورا لازال يعتبر في فرنسا من مجال الاجتهاد القضائي[22].
وعليه فإن مبدأ المسؤولية في المغرب وإن ظهر أولا من خلال الشريعة الإسلامية فقد تم التنصيص عليه كذلك في إطار قواعد القانون الوضعي في الفصلين 79 و80 من قانون الالتزامات والعقود وغيره من مختلف القوانين، وبذلك أضحت الإدارة مسؤولة عن أعمالها المادية خاصة المشروعة منها، ولعل هذا ما يستوجب معرفة هذا النوع من الأعمال وتمييزها عن باقي الأعمال الإدارية في علاقتها بالمسؤولية الإدارية.

المبحث الثاني : طبيعة المسؤولية الإدارية عن الأعمال المادية المشروعة

تنوعت وظائف الدولة الحديثة بين وظيفة تتمثل في سن القوانين لتنظيم العلاقات داخل المجتمع، ووظيفة قضائية تختص بالفصل في النزاعات ثم الوظيفة التنفيذية، هذه الأخيرة التي تتولى إشباع حاجيات الأفراد من خلال أنشطتها الإدارية، وبدورها تنقسم هذه الأعمال إلى أعمال قانونية وأخرى مادية.

المطلب الأول : مفهوم الأعمال المادية

تلجأ الدولة عند ممارسة أعمالها وأنشطتها إلى استخدام أساليب ووسائل مختلفة للقيام بأعمالها المادية وكذلك الأعمال القانونية. ويقصد بالأعمال المادية للإدارة ما تقوم به الإدارة من أعمال لا تقصد من ورائها إحداث أثر قانوني أو تغييره أو تعديله، وبدون أن تقصد بها إنشاء حقوق أو التزامات جديدة وقد تكون هذه الأعمال بصفة إرادية من الإدارة أو بشكل غير إرادي تنفيذا لقواعد قانونية أو ما سبق أن قررته الإدارة كهدم منزل آيل للسقوط، أو إنشاء بنايات، ترصيف الشوارع ...

- أعمال الإدارة المادية الإرادية :[23]
هي تلك الأعمال التي لا ترتب آثارا قانونية معينة، وذلك بإنشاء مركز قانوني عام أو خاص أو إحداث تعديل في المركز القانوني العام أو الخاص القائم من قبل، وإنما الأمر يتعلق بالأعمال التي تهدف إلى تنفيذ الأعمال القانونية سواء كانت متعلقة بقاعدة قانونية أو قرار أو عقد إداري، ومن أمثلة الأعمال المادية التي تقوم بها الإدارة تنفيذا لقرار إداري الاستيلاء على ملك الأفراد تنفيذا للقرارات المتعلقة بنزع الملكية للمنفعة العامة أو تشييد أحد المباني تنفيذا للقرار الصادر بإنشاء هذا المبنى، ومن أمثلة الأعمال المادية المتعلقة بتنفيذ عقود الإدارة الوفاء بالتزام معين بتقديم أداء من الأداءات.

- أعمال الإدارة المادية غير الإرادية :[24]
تتضمن هذه الأعمال كل ما قد يقع من الإدارة نتيجة خطأ أو إهمال كحوادث القطارات أو سيارات الإدارة كما تشمل كذلك الأعمال التي تصدر في صورة أعمال قانونية وتبلغ عدم مشروعيتها درجة تحولها إلى مجرد أعمال مادية، وفي حالة إثبات عدم مشروعية أعمالها فإن الإدارة تكون ملزمة بإرجاع الأمور إلى ما كانت عليه في السابق، فإذا ترتبت عن ذلك أضرار تكون ملزمة بتعويض المتضررين عن ذلك.
إلا أن الأعمال المادية المشروعة للإدارة لا يلزم فيها بإثبات الخطأ من جانب الإدارة لتحميل هذه الأخيرة التعويض ويكفي لذلك إيجاد العلاقة السببية بين الضرر والنشاط المادي المشروع، وهذا ما يجعل هذه الأعمال تتسم بالمشروعية، وتختلف بذلك الأعمال المادية عن الأعمال القانونية التي تقوم بها الإدارة بهدف إنشاء مراكز قانونية، بتعديلها أو إلغائها.
وتنقسم الأعمال القانونية إلى نوعين :[25]
أعمال قانونية صادرة من جانب واحد وتشمل القرارات الإدارية باعتبارها من أهم الوسائل التي تملكها الإدارة لمباشرة تصرفاتها، وأعمال قانونية صادرة من جانبين، وتتم بناء على اتفاق بين الإدارة وغيرها من الهيآت أو الأفراد وهي العقود الإدارية، ويعتبر القرار الإداري بأنه إفصاح الإدارة عن إرادتها الملزمة بما لها من سلطة بمقتضى القوانين واللوائح وذلك بقصد إحداث مركز قانوني متى كان ممكنا وجائزا قانونا وكان الهدف منه تحقيق مصلحة عامة[26]
فالقرار الإداري تصرف قانوني[27]، ينتج عنه آثار قانونية، وهو يتشابه في هذه النقطة (إنتاج آثار قانونية) مع الأعمال المادية، إلا أن معظم الفقه يعتبر ركن الإرادة عنصرا حاسما في تعريف القرار الإداري، الشيء الذي يميزها عن باقي الأعمال الأخرى الصادرة عن الإدارة، والتي تتميز بدورها بإحداث آثار قانونية لكن دون إرادة الفاعل[28].
فمثلا أن تنتج حادثة سير بسبب حفرة موجودة على الطريق هو عمل مادي متمثل في عدم قيام الإدارة بواجبها المتمثل في إصلاح الطريق، مما أدى إلى إنتاج آثار قانونية تتمثل في قيام مسؤولية الإدارة عن عمل مادي، دون توافر نية إحداث هاته الآثار[29].
وفي حالة أخرى فالقرار الإداري يوافق العمل المادي لكنه يختلف عنه، فقد يحمل العمل المادي في طياته بعض دلالات الإفصاح عن الإرادة التي تجعلنا ننتقل من العمل المادي إلى القرار الإداري، فمثلا رفض طلب الترخيص بالبناء هو عمل مادي، لكن حين يتبين أن هذا الرفض جاء بناء على عدم استيفاء الطلب لبعض الشروط القانونية فإن هذا العمل المادي يصير قرارا إداريا، وعلى صعيد آخر فبعض الأعمال المادية قد تكشف عن وجود قرار إداري سابق، فعدم إقدام الإدارة على الزيادة في رأسمال شركة تملك فيها الدولة جزءا من رأس المال يعبر عن وجود قرار إداري سابق عن العمل المادي[30].
وبذلك فالأعمال المادية لا تقبل الطعن فيها بالإلغاء بخلاف القرارات الإدارية. ويتعلق الأمر هنا بمجموعة الأعمال التي لا تستحدث بها ولا تقبل ولا تلغى فيها الإدارة أية آثار قانونية جديدة ،و يقتصر فيها دور الإدارة على مجرد إقرار أو إثبات ما سبق أن قررته القوانين أو قررته الإدارة نفسها بقرارات سابقة أو أحدثته الطبيعة كعزل موظف سبق أن صدرت في حقه عقوبة بالسجن النافذ في جريمة مخلة بالشرف، كقيد مولود في سجل الحالة المدنية ...، فهذه الأعمال غير قابلة للطعن لأنها لا تحدث أثارا قانونية مباشرة في حق الأفراد ولا تغير من المراكز القانونية التي يوجد فيها الأفراد في شيء لأنها آثار وليدة عن إرادة المشرع أو آثار لأعمال إدارية سابقة، ووسيلة الأفراد في مواجهة أعمال الإدارة المادية وما يترتب عليها من آثار ضارة هو القضاء الكامل أو قضاء التعويض دون الإلغاء .[31]
فالأعمال المادية للإدارة هي التي تزاولها الإدارة بوسائل مادية لا الوسائل القانونية كالقرارات الإدارية، واتصاف هذا النوع من الأعمال بالمشروعية يجعل الخطأ فيها معدوما لكن هذا لا يمنع من ترتيب المسؤولية عن الضرر الذي أحدثته هذه الأعمال المادية حتى لكونها أعمالا مشروعة من الإدارة، وهذا ما يربط بين المسؤولية والأعمال المادية المشروعة للإدارة.

المطلب الثاني : مفهوم وخصائص المسؤولية الإدارية

تعتبر المسؤولية الإدارية من أهم المبادئ التي كرسها كل من الفقه والقضاء والتشريع لإقرار حماية حقوق الأفراد عن الأضرار الناتجة عن أعمال الإدارة ونشاطاتها، وكما للمسؤولية الإدارية دلالات معرفية لتوضيحها ( أولا ) فهي تتميز بعدة خصائص ( ثانيا ) .

أولا: مفهوم المسؤولية الإدارية :

تقتضي مسؤولية الإدارة عن أعمالها المادية المشروعة إيجاد العلاقة السببية بين الضرر الناتج عن نشاط الإدارة المشروعة وبين العمل المادي للإدارة، وقد تم تكريس المسؤولية الإدارية كمبدأ ضمن نصوص تشريعية بالمغرب عكس ما درج عليه القضاء الإداري الفرنسي الذي طور هذا المبدأ من خلال اجتهادات الفقه والقضاء ، وبتطور مبدأ المسؤولية الإدارية وتوسع مجالات تطبيقها فقد كان لزاما التطرق لهذا المبدأ كمفهوم مستقل عن المسؤولية المعمول بها في إطار القانون المدني .
وقد عُرفت المسؤولية الإدارية اصطلاحا علي أنها " حالة الشخص الذي ارتكب أمرا يوجب المؤاخذة " ولغة يقصد بها " ما يكون الإنسان ملزما ومطالبا به كالقيام بعمل أو نحو ذلك[32].
كما تم تعريف المسؤولية الإدارية على أنها وسيلة قانونية تتكون أساسا من تدخل إرادي ينقل بمقتضاه عبء الضرر الذي وقع على شخص مباشرة بفعل قوانين الطبيعة أو البيولوجيا، أو السيكولوجيات أو القوانين الاجتماعية إلى شخص آخر ينظر إليه على أنه هو الشخص الذي يجب أن يتحمل هذا العبء [33].
كما يقصد بمسؤولية الدولة التزامها بدفع تعويض لمن يصيبه ضرر نتيجة ممارسة النشاط الإداري، والمسؤولية الإدارية التي تستوجب التعويض عنها تكون على أساس الخطأ باعتباره الأصل، إلى جانب المسؤولية الإدارية بدون خطأ عن الأعمال المادية المشروعة التي تحدث ضررا للغير كتهدم مبنى نتيجة القيام بأعمال بناء من طرف الإدارة فتمنع هذه الأعمال الأفراد من استغلال منشآتهم، أو تعرضهم لأضرار جسيمة ... وبالتالي يمكن للمتضرر من نشاط الإدارة المادي المشروع المطالبة بحقه في التعويض عن ما لحقه من ضرر ويكفي لذلك إيجاد العلاقة السببية بين الضرر ونشاط الإدارة.

ثانيا : خصائص المسؤولية الإدارية

تتميز المسؤولية الإدارية بمجموعة من الخصائص من ذلك كونها :

- مسؤولية قانونية : وتتمثل في تحميل الإدارة العامة تبعات ما ألحقته أعمالها ونشاطاتها من أضرار في نطاق النصوص القانونية ومن ذلك، الفصلين 79 و80 من قانون الالتزامات والعقود [34]، المادة 8 من القانون رقم 41-90 المحدث بموجبه المحاكم الإدارية التي تنص على اختصاص هذه المحاكم بالبت ابتدائيا في دعاوى التعويض على الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام .

- مسؤولية مستقلة : باعتبارها تخضع لقواعد القانون الإداري، فرغم كونها استمدت من القانون الخاص إلا أن الدراسات التي تناولت هذا الموضوع عقب وضع ظهير الالتزامات والعقود وكذا الاجتهادات القضائية التي صدرت في هذه الفترة، أكدت على استقلالية المسؤولية
الإدارية عن المسؤولية المدنية من حيث إن الأولى لها قواعدها الخاصة بها وقانونها المستقل عن القانون الخاص، مع العلم أن هذا لا يعني استبعاد القواعد المدنية كلية، بل إن القضاء لطالما كان يسترشد بقضايا المسؤولية الإدارية ببعض مبادئ القانون الخاص [35] .

- مسؤولية حديثة ومتطورة : فمعرفة أن القانون الإداري هو قانون غير مقنن فهو بذلك يتيح لتجديد وتطوير وكذا التوسيع من مجالات المسؤولية الإدارية من خلال الاجتهادات القضائية التي يلعب فيها القاضي الإداري دورا مهما عبر دوره الإنشائي للقاعدة القانونية قصد الوصول إلى حل للمنازعات الإدارية المطروحة أمام القضاء، كما ترجع حركية المسؤولية الإدارية عن الأعمال المادية المشروعة للإدارة إلى التحول الذي عرفته الدولة بانتقالها من دولة حارسة إلى دولة متدخلة مما يساهم في ازدياد وتوسع أعمال ونشاطات الإدارة .

- مسؤولية ذات تطبيق استثنائي: كقاعدة عامة تعتبر المسؤولية الإدارية بناء على الخطأ هي الأصل في المسؤولية الإدارية في حين تبقى نظرية المخاطر استثناء عن هذه القاعدة، فالقاضي الإداري لا يلجأ إلى الحكم بالتعويض عن الأعمال المادية المشروعة للإدارة إلا في حالات معينة ينتفي معها وجود الخطأ أو إثباته في العمل الذي أدى إلى إلحاق الضرر حيث إن العمل الإداري قد تحاط به ملابسات تجعل إمكانية الاستناد فيه إلى وجود خطأ غير ممكنة، مما يجعل القاضي ينصرف من المسؤولية الخطئية منها إلى المسؤولية بدون خطأ ن وبذلك تظل نظرية المخاطر قاعدة استثنائية تنعدم فيها صورة الخطأ، وتتميز فيها الأعمال المادية للإدارة بصفة المشروعية رغم ما ينتج عنها من أضرار، ويكفي فيها إثبات العلاقة السببية بين الضرر وعمل الإدارة، ولطالما رفض القاضي الإداري طلبات التعويض في حالة عدم توفر العناصر الثلاثة للمسؤولية (الخطأ، الضرر والعلاقة السببية)، كما جاء في حكم للمحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 15/01/2013[36] الذي أكد على أن عدم إثبات المدعي علاقة الإدارة المدعى عليها بالأضرار التي لحقت به كفيل برفض طلب التعويض .
ولعل هذا ما يؤكد على أنه ليس كل القضايا التي تثبت فيها عناصر المسؤولية الإدارية يمكن أن يقضي فيها القضاء بالتعويض، فرغم وجود الخطأ في قضية ما لا يعني الحكم بالتعويض لصالح المدعي، إلا إذا تأكدت العلاقة السببية في جل العناصر المرتبطة بالمسؤولية الإدارية.
وبالتالي فمسؤولية الإدارة عن أعمالها المادية المشروعة ذات تطبيق استثنائي بالأخذ بنظرية المخاطر كمجال لهذا النوع من المسؤولية حيث أنها لا تمثل أصلا عاما للتعويض وإنما أساسا تكميليا للمسؤولية بناء على خطأ الذي يمثل الأصل العام.
وحكمة ذلك حرص القضاء الإداري على مراعاة مقتضيات النشاط الإداري الذي يجب ألا نرهقه ونكبله بدعاوى المسؤولية بلا حدود، سيما إذا كان نشاطا مشروعا، بالإضافة إلى ضرورة عدم إرهاق الخزينة العامة للدولة بتعويضات إلى ما لا نهاية ومن غير ضوابط معقولة[37].
ومن خصائص المسؤولية بدون خطأ[38] أن أساسها القانوني الذي يفتح الحق في التعويض ليس أساسا واحدا، فمن ناحية هناك أساس أو فكرة المخاطر التي تفتح المجال للتعويض عن نشاط إداري يتميز بطبيعته أو بحكم ظروفه بخلق خطر يهدد الأفراد، ومن ناحية ثانية هناك أساس آخر للتعويض في المسؤولية بلا خطأ هو مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة.
فإلى جانب المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر هناك مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة ومبدأ التضامن الوطني كأساس حديث مكمل للأساسين التقليديين السابقين، فالمسؤولية الإدارية على أساس المخاطر يخلط بينها وبين أسس المسؤولية الإدارية من خلال العديد من المؤلفات المهتمة بهذا الحقل، أو حتى تناولها كمرادف للمسؤولية بدون خطأ، مع أن لكل أساس حالاته وتطبيقاته الخاصة به.
كما تتميز المسؤولية غير الخطئية بكونها من النظام العام، ويمكن للمتضرر أن يثيرها من تلقاء نفسه في جميع مراحل الدعوى كما يمكن للقاضي أن يثيرها من تلقاء نفسه وبذلك يكون على القاضي الإداري استبدال دعوى التعويض بناء على الخطأ بأحد أسس المسؤولية غير الخطئية محل الخطأ[39].
هذا وقد شهدت المسؤولية على أساس المخاطر عدة آراء فقهية وقضائية ساهمت في إثراء مجال تطبيقها والتوسيع فيها بارتكازها على الأعمال المادية المشروعة للإدارة.


_____________________________________________

الهوامش:

[1] - د.محمد اليعكوبي، القانون الإداري المقارن ، مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط ، طبعة 2009، ص : 82
[2] - د. رأفت فودة ، دروس في قضاء المسؤولية الإدارية ،دار النهضة العربية ، طبعة 1994 ، ص: 36 .
[3] - Laferrier , traité de la juridiction administrative et des recours contentieux , 2éme édition , 1996, p 50 .
اشار إليه حماد حميدي، المسؤولية الإدارية ، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون العام، جامعة محمد الخامس ، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية الرباط، 1989-1999 ص : 1 .
[4] - حماد حميدي ، المسؤولية الإدارية مرجع سابق ، ص :3 .
[5] -دة. ثورية لعيوني ، القضاء الإداري ورقابته على أعمال الإدارة ، دراسة مقارنة ، الطبعة الأولى 2005 ، ص: 79
[6] - Michel paillet، la responsabilité administrative، dalloz ، 1996، p: 1.
[7] - د. عمار عوابدي ، نظرية المسؤولية الإدارية، دراسة تأصيلية وتحليلية مقارنة ، الطبعة الثالثة ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ، 2007 ، ص: 48 .
[8] - د . أحمد محيو ، المنازعات الإدارية ، ديوان الجامعية ، 2003 ، ص 209 .
[9] - دة . أمينة جبران البخاري، القضاء الإداري، دعوى القضاء الشامل ، المنشورات الجامعية المغاربية ، طبعة 1994، ص 339.
[10] - د . سامي حامد سليمان، نظرية الخطأ الشخصي في مجال المسؤولية الإدارية ، دراسة مقارنة ، الطبعة الأولى 1988 ، مكتبة النهضة المصرية ، ص : 13-19.
[11] - د . أحمد بوعشيق ، المرافق العامة الكبرى ،الطبعة الأولى 1995 ، ص: 14.
[12] - دة . أمينة جبران البخاري ، مرجع سابق ، ص : 341 .
[13] - د .يحيى أحمد موافي، الشخص المعنوي ومسؤولياته قانونا ، مدنيا ،و إداريا وجنائيا ، المعارف الإسكندرية ، 1987 ، ص : 182 .
[14] - وقد جاء في الفصل الأول من دستور المملكة المغربية بالفقرة الثالثة منه : تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة ، تتمثل في الدين الإسلامي السمح والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية ، والاختيار الديمقراطي ، كما جاء أيضا في الفصل الثالث على أن الإسلام دين الدولة ، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية .
[15] - مختصر صحيح البخاري لابن أبي جمرة ، دار السلام ، الطبعة الأولى 1422 هجرية / 2002م .
[16] - د. السمهودي ، وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى ،الجزء الأول ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، ص:249-275
[17] - مأمون الكزبري ، نظرية الالتزامات في ضوء قانون الالتزامات والعقود المغربي ، الجزء الأول ، مطابع دار القلم بيروت ، ص: 504.
[18] - د .عبد القادر باينة ، تطبيقات القضاء الإداري بالمغرب ، دار توبقال ، الطبعة الأولى 1988 ، الرباط، ص، 15
[19] - القانون رقم41-90 المحدث بموجبه في المحاكم الإدارية بتنفيد الظهير رقم 225 -91-1الصادر 22 من ربيع الأول 1414 ه /10 شتنبر 1993 م ، الجريدة الرسمية، عدد4227 بتاريخ 3 نونبر 1993.
[20] - د . أحمد بوعشيق ، مرجع سابق ، ص: 18 .
[21] - د . عبد القادر باينة ، مرجع سابق ص: 118 .
[22] - د . حماد حميدي ، مرجع سابق ، ص : 29 .
[23] -دة . مليكة الصروخ ، القانون الإداري ، دراسة مقارنة، الطبعة الثانية ، 1992 ، ص : 345 .
[24] - دة . مليكة الصروخ ، نفس المرجع ، ص : 346 .
[25] - دة .مليكة الصروخ ، مشروعية القرارات الإدارية ، دار القلم ، الطبعة الأولى 2011 ، ص : 6 .
[26] - د . محمد مرغيني ، الوجيز في القاون الإداري المغربي ، الجزء 1 و2 ، دار المغرب ، الطبعة الأولى 1978 ، ص : 244 .
[27] - Pierre Delvolvé, l’acte administratif, extrait du répertoire de contentieux administratif, Dalloz, 1983, P. 12
[28] عصام نعمة إسماعيل، الطبيعة القانونية للقرار الإداري، دراسة مقارنة في ضوء الفقه والاجتهاد، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الأولى 2009، ص. 112 .
[29]- Pierre Delvolvé, p.12
[30]- Pierre delvolvé, op.cit p. 13
[31] - عبد القادر باينة ، مرجع سابق ، ص :131 .
[32] - د. جبران مسعود ، الرائد : معجم لغوي عصري ، المجلد الثاني ،بيروت ، لبنان الطبعة 3 ، ص :1371.
[33] - دة. سعاد الشرقاوي ، المسؤولية الإدارية دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة 1975 ص:99
[34] - القانون رقم 44 -00 المتمم بموجبه الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 ه / 12 غشت 1913 بمثابة قانون الالتزامات والعقود الصادر لتنفيذه الظهير الشريف رقم 309 – 02 -1 ، الصادر بتاريخ 25 رجب 1423 / 3 أكتوبر 2002، الجريدة الرسمية عدد 5054 ، بتاريخ 07- 11 2002 ص: 3183.
[35] - حماد حميدي ، مرجع سابق ص :14.
[36] - حكم رقم 102، عن المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 15/01/2013 ، ملف عدد : 457/12/2012 ، حكم غير منشور.
[37] - د . محمد رفعت عبد الوهاب ، القضاء الإداري ، الكتاب الثاني ، قضاء الإلغاء أو الإبطال ، قضاء التعويض وأصول الإجراءات ، الطبعة 1 ،2005، ص : 281-283 .
[38] - د . محمد رفعت عبد الوهاب ، نفس المرجع ، ص : 282 – 283.
[39] - د . محمد رضا جنيح ، القانون الإداري ، مركز النشر الجامعي ، تونس ، الطبعة 2 ، 2008 ، ص : 359 .

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -