الجماعات الترابية بالمغرب بين التجديد والاستمرارية

رسالة بعنوان: الجماعات الترابية بالمغرب بين التجديد والاستمرارية PDF

رسالة بعنوان: الجماعات الترابية بالمغرب بين التجديد والاستمرارية PDF

مقدمة
تعتبر اللامركزية هي الالية الكفيلة بدمقرطة تدبير الشأن العام المحلي بكل أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية...، وذلك عن طريق الرفع من اختصاصات الجماعات الترابية ومدها بالوسائل الضرورية لجعلها قادرة على القيام بالمهام المنوطة بها والمتمثلة أساسا في تحقيق التنمية المحلية وهكذا نجد أن معظم دول العالم في عصرنا الحالي يزداد اهتمامها بالجماعات الترابية كإطار ملائم للمساهمة في بلورة استراتيجية جديدة للتنمية، قوامها تفعيل مستجدات القوانين التنظيمية للجماعات الترابية والحكامة الترابية والتنمية المستدامة يوما عن يوم، غير أن ذلك لن يتأتى إلا عن طريق رد الاعتبار للإدارة وبسن إصلاحات حقيقية للإدارة الترابية.

فإذا كانت اللامركزية تعد من أرقى الأنظمة لترسيخ وتوسيع الديمقراطية المحلية، فإنها لم تعد تعتبر فقط نظاما إداريا يساهم فيه المواطنون في تسيير شؤونهم الخاصة بهم محليا، بل صارت وسيلة أساسية للنجاعة والتطور الاقتصادي والاجتماعي ليس فقط على مستوى الجماعة القاعدية فحسب بل على المستوى الوطني ككل.

وتعد اللامركزية أسلوبا ونهجا ديمقراطيا يقوم على أساس مبدأ توزيع سلطة صنع القرار والصلاحيات بين السلطة المركزية وهيئات أخرى مستقلة تتواجد في الاقاليم والتجمعات السكنية المختلفة، تتمثل في تفعيل دور السلطات الإقليمية والمحلية وذلك بإسناد مهام إدارية وتنموية لها تزيد من فاعليتها، و تعزز دورها في تحمل مسؤوليتها وصلاحيتها بالشكل الذي يعمل على دمج السكان المحليين في عمليات التنمية المحلية و يؤدي في النهاية إلى نجاحها.

ويبدو أن جلالة الملك محمد السادس مقتنعا بأن التنمية المستدامة، لا يمكن تحقيقها إلا من خلال النهوض باللامركزية وتكريس الحكامة الترابية وإرساء قواعد ومبادئ حسن التدبير.

واقتناعه هذا سيزداد بالتدريج ومع مرور الوقت، إلى أن تم الإعلان عن ورش الجهوية المتقدمة، فلا يكاد أي خطاب ملكي يخلو من الحديث عن ضرورة "... ترسيخ اللامركزية في إتجاه إفراز مجالس محلية وإقليمية وجهوية تجمع بين ديمقراطية التكوين وعقلانية التقطيع ونجاعة وشفافية

وسلامة التدبير، والتوفر على أوسع درجات الحكم الذاتي الإداري والمالي من شأنه أن يجعلها تنهض بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية..." " ... وكل ذلك في إطار استحضار واع لما دعونا إليه، من تغيير في قوانين اللامركزية واللاتمركز ووفق مفهوم جديد، يجعل من السياسة التعاقدية أداة أساسية لبلورة تصور مجالي توافقي..." "لذلك قررنا بعون الله، فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات المتواصلة الشاملة التي نقودها، بإطلاق مسار جهوية متقدمة ومتدرجة، تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية، مؤكدين عزمنا الراسخ على تمكين كافة ساكنها وأبنائها من التدبير الديمقراطي لشؤونهم المحلية ضمن مغرب موحد".

وهناك اليوم اقتناع بأن المستوى المحلي (الترابي) هو الحيز الذي يجب أن تطرح في إطاره المسائل الحقيقية المتعلقة بالتنمية، فهو المنحى الذي تفرضه الصعوبات المتزايدة التي تكتنف التسيير المركزي. فتعقد وتشابك المسؤوليات الملقاة على عاتق الدولة المتدخلة، وما ترتب عنه من إخفاق في التدبير المركزي للعملية التنموية، قد فرض بشكل حاسم خلق مستويات لامركزية تتحمل إلى جانب الدولة الوطنية جزءا من المسؤولية وذلك ضمن توجه فكري يطالب بأقل ما يمكن للدولة، ويدعوا إلى أكثر ما يمكن للجماعات الترابية حيث تغدو الدولة رمزا للسيادة والوحدة ويكون التراب تجسيدا للتنوع والفعالية.

وباعتبار الجماعات الترابية كشريك للدولة إلى جانب المؤسسات العمومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، يحتم ولا شك أن تقوم هذه الجماعات بأدوار كبيرة متنوعة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

غير أنه بالرجوع إلى تجربة الجماعات الترابية طيلة العقود الخمسة التي خلت، نجد أنها كانت ومازالت تعانى من إكراهات كثيرة وصعوبات عميقة نتيجة عوامل متداخلة ومعقدة، فالإطار المؤسساتي غلب عليه التسيير التقليدي نتيجة سوء التنظيم وتبذير الإمكانات وطاقات الجماعات عوض استثمارها في مجالات وقطاعات منتجة تعود بالنفع على الساكنة، كما أن النصوص العمومية عانت بدورها من العمومية والمصطلحات الفضفاضة وتداخل في الاختصاص والمسؤوليات، وقد زاد من ضعف مردودية الوحدات اللامركزية، محدودية كفاءة الموارد البشرية، سواء تعلق الأمر بالمنتخبين أو الموظفين المحليين اللذين لازالوا قيد الإطار الكلاسيكي لتسيير الجماعات الترابية والمحددة أساسا في تقديم الشواهد الإدارية والأعمال اليومية الروتينية ... .

إن التنظيم اللامركزي وما شهده من تطورات متلاحقة، يعتبر من أبرز حلقات المسلسل الديمقراطى بالمغرب في إطار السعي إلى تعزيز الديمقراطية المحلية وتقريب سلطة التقرير من المواطنين وتمكينهم من المشاركة في تدبير الشأن المحلي، اعتمادا على الموارد والمؤهلات المحلية لإنجاز مشاريع تنموية تستجيب لحاجياتهم الحقيقية، عن طريق هيئات منتخبة تتحمل مسؤولية تصريف الشؤون المحلية لكن تحت رقابة سلطة الرقابة، حتى لا تفضي اللامركزية إلى تنازع في مصالحها أو بين تلك المصالح والمصلحة الوطنية وذلك من خلال إتخاذ مجموعة من الإجراءات المواكبة والتي تعمل على تقوية دور المؤسسات التمثيلية وترمي إلى توسيع قاعدة الحريات لضمان حقوق الأفراد والجماعات من أجل إنشاء مجتمع حداثي يكسب رهان التنمية ويتطلع الى استشراف مستقبل أفضل.

والحديث عن "تجديد الجماعات الترابية واستمراريتها" موضوع الدراسة، هو ذو صلة وثيقة بالمتغيرات وحركية التطور المجتمعي، وبعبارة أدق فإن تطور هذا الإصلاح كان بفعل التحولات التي طرأت على البناء السياسى والاقتصادي والاجتماعي مفرزة عناصر وأركان المشروع المجتمعي الحداثي الذي تسعى الدولة إلى تحقيقه على المستوى الجهوي والمحلى، باعتباره الهدف الأسمى لمختلف الأوراش الإصلاحية والتنموية الكبرى التي تم إطلاقها خلال العشرية الأخيرة.

الجماعات الترابية: حسب دستور 2011، فان الجماعات الترابية هي: الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات.

وتحدث كل جماعة محلية جديدة بقانون، فالجماعات الترابية هي عبارة عن وحدات يتم تعيين حدودها الجغرافية بشكل دقيق، تبعا لاعتبارات تاريخية وسوسيو قبلية وثقافية.

ومؤسساتية أو سعيا لتحقيق تعاون وتكامل بين مكونات المنطقة، تدخل في حكم القانون العام وهي تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي.

وتسير الجماعات الترابية شؤونها بشكل ديمقراطي، ويقوم رؤساء مجالسها بتنفيذ مداولات هذه المجالس ومقرراتها، وللجماعات الترابية إختصاصات ذاتية وإختصاصات

مشتركة مع الدولة وأخرى تنقلها إليها هذه الأخيرة، وتتوفر على موارد مالية ذاتية وأخرى ترصدها الدولة.

والجماعات الترابية أشخاص إعتبارية خاضعة للقانون العام، تسير شؤونها بكيفية ديمقراطية، وتنتخب مجالس الجهات والجماعات بالإقتراع العام المباشر، ويقوم رؤساء مجالس الجهات، ورؤساء مجاس الجماعات الترابية الأخرى، بتنفيذ مداولات هذه الجماعات وقرارتها، وينقسم التراب المغربي إلى 12 جهة، تضم 75 عمالة وإقليما و1503 جماعة.

ولقد تم استبدال التسمية القديمة "الجماعات المحلية" بتسمية جديدة، هي الجهات والجماعات الترابية، فإدخال البعد الترابي أصبحت تستدعيه التطورات الموضوعية لزمن العولمة، أي أنه سيجعل من التراب ليس فقط مجالا للإعداد والتنظيم، بل سيحوله إلى أحد المداخيل الجديدة للساسيات العمومية الناجعة، ومحددا مرجعيا وفاعلا في شروط التنمية المجتمعية المأمولة، كما عمل دستور 2011 على تكريس تعدد المستويات الترابية من خلال الفصل 135 منه.

وهو ما كرسته القوانين التنظيمية للجماعات الترابية رقم 111.14، 112.14، 113.14، المتعلقة على التوالي بالجهات، العمالات والأقاليم، الجماعات والمقاطعات، الصادرة بتاريخ 7 يوليوز 2015، فقد نصت المادة 2 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات والمقاطعات على أن: "تشكل الجماعة أحد مستويات التنظيم الترابي للمملكة، وهي جماعة ترابية خاضعة للقانون العام تتمتع بالشخصية الاعتبارية والإستقلال الإداري والمالي".

ونفس الأمر نصت عليه المادة 2 من القانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم، بالنسبة للعمالات والأقاليم، وأيضا المادة 3 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بتنظيم الجهات التي نصت على أن "الجهة جماعة ترابية خاضعة للقانون العام، تتمتع بالشخصية الإعتبارية والإستقلال الإداري والمالي، وتشكل أحد مستويات التنظيم الترابي للمملكة باعتباره تنظيما لامركزيا يقوم على الجهوية المتقدمة".

إذن الجماعات الترابية هي ثلاثة مستويات، الجماعات وتحل عبارة الجماعة" محل الجماعة الحضرية والجماعة القروية" في النصوص الصادرة قبل دخول هذا القانون التنظيمي حيز التطبيق، العمالات والأقاليم وأخيرا الجهات.

التجديد: إن التطور الذي شهده العالم كان بفعل العولمة وتنامي مجموعة من المفاهيم الكونية كحقوق الإنسان والديمقراطية وحكامة مؤسسات الدولة، وضرورة ملائمة الجهاز الإداري للدولة مع وظائفها ومتطلباتها، وما صاحب ذلك من تحولات عميقة على جميع الأصعدة والمستويات، وخاصة الجوانب الإدارية والسياسية وغير ذلك، مما فرض على جميع الدول خاصة السائرة في طريق النمو ومن بينها المغرب ضرورة إعادة النظر في مسألة التنظيم الإداري باستمرار والعمل على تجديده، بحيث لا بد لهذا الأخير أن يتكيف مع التحولات والمستجدات الراهنة.

وأن يتم تثبيته وترسيخه بشكل دقيق ومدروس يراعي متطلبات التنمية ومستلزمات الحكامة الجيدة، ذلك من جهة ومن جهة أخرى إذا كان المغرب قد عرف في العقد الأخير تحولات وتطورات كثيفة كغيره من الدول المجاورة بعد ما يسمى الربيع العربي، فصدر دستور 2011 وتغيرت الحكومة والمعارضة وكثيرا من المتغيرات السياسية، فإن من بين أبرز ما تم العمل على تجديده في خضم هذا الحراك هي مسألة إعادة النظر في سياسة اللامركزية وفي المقاربة الترابية عموما.

ومن هنا جاء تغيير الميثاق الجماعي ل 2002، الذي عدل سنة 2009 بالقوانين التنظيمية للجماعات الترابية 111.12 المتعلق بالجهات، و112.14 المتعلق بالعمالات والأقاليم، 113.14 المتعلق بالجماعات، وهي القوانين التي جاءت بمجموعة من المستجدات حاول من خلالها المشرع المغربي أن يساير التصور الجديد الذي جاء به دستور 2011 بخصوص التنظيم الترابي المستجد.

الاستمرارية: إن الهدف من التنظيم الترابي الجديد هو ضمان استمرارية الجماعات الترابية في الاضطلاع بالمهام المنوطة بها عن طريق منح هذه الوحدات الترابية اختصاصات وصلاحيات متعددة وواسعة وهو ما جسده المشرع المغربي، سواء على مستوى دستور 29 يوليو 2011 وأيضا القوانين التنظيمية للجماعات الترابية المكملة له إضافة إلى مجموعة من المستجدات

الأخرى التي عززت مكانة هذه الأخيرة، هذا الإصلاح الجديد لم يأتي عبثا بل كان الهدف منه هو العمل على تعزيز اللامركزية الترابية مما ينتج عنه حتما ضمان إستمرارية الجماعات الترابية في القيام بالمهام المنوطة بها على الوجه الأمثل فهذه الإصلاحات لم تأتي جملة واحدة بل تطورت مع تطور التشريعات والمتغيرات الوطنية.

كل ذلك يتطلب من الفاعلين الذين حظوا بثقة ناخبيهم أن يكونوا على دراية بها وملمين بتفاصيل هذه المستجدات وتقنيات تنفذيها من جهة، ومن جهة ثانية ضرورة العمل على تفعيل هذه المقتضيات الجديدة على أرض الواقع، والعمل على تطوير المقومات والوسائل والدعامات التي تضمن تحقيق نتائج فضلى ومن بينها إن لم نقل أهمها هو الإهتمام بتكوين الموارد البشرية الترابية المغربية.

فقد بدا اهتمام الدولة بالجماعات الترابية غداة الاستقلال، حيث سعى المغرب إلى تبني النظام اللامركزي منذ حصوله على الإستقلال وذلك عبر مجموعة من القوانين والإجراءات التي تهدف إلى منح الجماعات الترابية مجموعة من الإختصاصات التي كانت من صميم إهتمامات السلطة المركزية، ومن أهم هذه القوانين نجد ظهير 13 أكتوبر 1956 الذي جاء بعد الاستقلال مباشرة حيث بادر المغرب إلى إحداث تقسيم ترابي وإداري، لكنه لم يستجب إلى تطلعات المرحلة، فتم تغيره بظهير 23 يونيو 1960 المتعلق بالجماعات الحضرية والقروية المرحلة التأسيسية للتنظيم الترابي على مستوى مجال جغرافي ضيق هو القرية والمدينة، ولكن هذه المرحلة ظلت فيها السلطة المركزية من خلال الإدارة الترابية هي المتحكم الرئيسي في إدارة الشأن العام المحلي، ولم تساعد الأوضاع السياسية الذي مر منها المغرب على تعزيز اللاتركيز الإداري وتطويره بل أدت إلى مزيد من تركيز السلطة.

وهكذا فقد كان من نتائج الصراع السياسي السائد بعد دستور 1962 الإعلان عن حالة الاستثناء التي قادت المغرب إلى تركيز جميع السلط بيد الملك ثم بيد الإدارة المركزية، هذا التركيز سيتم دسترته سنة 1970، وقد استطاع دستور 1972 أن يخلق جوا من الإنفراج السياسي، مما سمح بالمجال المحلي وبالديمقراطية المحلية ولا سيما على مستوى الجماعات الحضرية والقروية.

وأعقبت هذه التجربة تقنين التنظيم الجهوي بالمغرب انطلاقا من مقتضيات ظهير 16 يونيو 1971، الذي عرف الجهة على أنها "مجموعة من الأقاليم التي تربط بينها على الصعيد الجغرافى والاقتصادي علاقات كفيلة لتقوية نموها، والتي تقتضي من جراء ذلك القيام بتهيئة عامة فيها، وتؤلف الجهة إطار عمل اقتصادي يباشر داخله إجراء دراسات وإنجاز برامج، قصد تحقيق تنمية منسجمة ومتوازنة لمختلف أجزاء المملكة"، ومع القفزة النوعية التي عرفتها الديمقراطية المحلية من خلال صدور ظهير 30 شتنبر 1976 بمثابة ميثاق جماعي جديد باختصاصات واسعة للمجالس المنتخبة ومنح رؤسائها السلطة التنفيذية وجعل الإدارة الجماعية تحت تصرفهم.

كم أن كثرة مهام السلطة المركزية وخوفا من انغماس الإدارة الإقتصادية في عيوب المركزية المفرطة بات من الضروري إتخاذ الإجراءات التي من شأنها أن تؤدي إلى عدم تمركز التخطيط نشاطات الدولة، وذلك عن طريق تفويض سلطة إتخاذ القرارات للجماعات المحلية، إلا أن الوظيفة الإدارية التقليدية لهاته الجماعات اللامركزية، لم تعد تتناسب مع ضخامة المشاكل الإقتصادية وحجمها، ولهذا ظهر المستوى الجهوي كإطار يلائم تدخل الدولة لإنجاز عمليات التخطيط والتنمية المجالية، إذ سيتم في دستور 1992 الإرتقاء بالجهة إلى صفة المؤسسة الدستورية على المستوى الترابي.

وأبقى دستور 1996 على نفس المقتضيات الواردة في دستور 1992 فيما يخص الجماعات المحلية، مع إحداثه للمجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية التي أسند إليها الفصل 94 مهمة مراقبة حسابات الجماعات المحلية وهيئاتها وكيفية قيامها بتدبير شؤونها.

وقد تميزت هذه المرحلة بصدور القانون رقم47-96 والذي وضع الإطار القانوني للتجسيد الفعلي للجهوية كجماعة ترابية، ومنح المشرع بمقتضى الفصل الأول من القانون المنظم للجهة، الجهات الشخصية المعنوية والإستقلال المالي، كما أناط بها مهمة المساهمة في التنمية الإقتصادية، الإجتماعية والثقافية للجماعة الجهوية بتعاون مع الدولة والجماعات المحلية الأخرى.

وصدر القانون 78-00 المتعلق بالميثاق الجماعي الجديد المتمم والمغير بمقتضى القانون رقم 17-08 الذي صدر في ظل دستور 1996، والذي حاول إعطاء نفس جديد للمجالس الجماعية بحكم الإختصاصات الواسعة التي أوكلت لها والأدوات القانونية والتنظيمية التي منحت لها للإطلاع بأدوارها في مجال التنمية الإقتصادية، الإجتماعية والثقافية، مع تعزيز سلطات رئيس المجلس، والتخفيف من نظام الوصاية، كما تميز هذا القانون بإحداث نظام المقاطعات في المدن الكبرى كالرباط والدار البيضاء وفاس... وتميزت المرحلة بصدور القانون المتعلق بالعمالات والأقاليم رقم 00-79.

وقد تعزز النظام اللامركزي في المغرب بموجب دستور 29 يوليوز 2011، والذي خصص الباب التاسع منه للجهات والجماعات الترابية الأخرى، ونص على مجموعة من المستجدات في هذا المجال خاصة في الفقرة الرابعة من الفصل الأول منه الذي ينص على أن: "التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة"، وتعتبر الجهوية المتقدمة من أهم الثوابت الأساسية للنظام الدستوري المغربي التي لا رجعة فيها.

وهذا ما أوصت به اللجنة الإستشارية للجهوية المتقدمة في تقريرها المرفوع إلى صاحب الجلالة، في 9 مارس 2011 على أن الجهوية أداة ضرورية لتنظيم وتدبير إختصاصات المجلس الجهوي وتطوير علاقات الشراكة والتعاون على الصعيدين الوطني والدولي، حيث حمل هذا الدستور تصورا جديدا للتنظيم الترابي بالمغرب، يسعى للإستجابة لمسلسل الإصلاحات التي مرت منها التجربة اللامركزية بالمغرب، لضرورة توسيع سلطة الوحدات الترابية في تحمل عبء المشاكل الاقتصادية والإجتماعية والسياسية.

ومن أجل تنزيل مقتضيات الدستور للتنظيم الترابي الجهوي المتمثل في المقتضيات الجديدة من أجل تكريس الديمقراطية، وبناء وترسيخ الحكامة الترابية، وتعزيز إدارة القرب، ووضع مجموعة من المبادئ الجديدة للتنظيم اللامركزي بالمغرب والتي تتمثل أساسا فى:

ترسيخ مبدأ التدبير الحر عن طريق تثبيت الإستقلال المالي والإداري وتخفيف مبدا الوصاية، وتوسيع الصلاحيات والموارد وربط المسؤولية بالمحاسبة، اعتماد مبدأ المشاركة، واعتماد التدبير الديمقراطي، والديمقراطية التشاركية، اعتماد التضامن الوطني والتضامن الجهوي الترابي بين باقي الجماعات الترابية الأخرى من أجل تحقيق المشاريع المشتركة، وإنجاز البرمج الجهوية، وخلق إطارات لإقامة شراكة بين الجهات الغنية والفقيرة، وتجاوز الإختلالات الترابية، واعتماد مبدأ التفريع، بحيث تتخلى الدولة عن الإختصاصات التي لا تستطيع الإضطلاع بها، وإعادة توزيع الإختصاصات بين الجهات والجماعات الترابية الأدنى بما يحقق التكامل في الأدوار والاختصاصات، دون أن يمارس الأعلى أي وصاية على المستوى الأدنى.

ثم إصدار مؤخرا القوانين التنظيمية للجماعات الترابية: كل من القانون التنظيمي للجهات رقم 111.14، القانون التنظيمي رقم 112.41، المتعلق بالعمالات والأقاليم، والقانون التنظيمى للجماعات 113.14 من أجل تنزيل المقتضيات الدستورية المتعلقة بالتنظيم الترابي، وتغيير وتعديل القانون رقم 59.11، المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية بقانون رقم 34.15، وذلك من أجل تبسيط قواعد النظام الإنتخابي للجهات، واعتماد دائرة انتخابية واحدة على مستوى كل عمالة أو إقليم وجماعة ومقاطعة، مع تخصيص ثلث المقاعد على الأقل للنساء في كل دائرة إنتخابية، عوض الدائرتين المنصوص عليه في القانون التنظيمي رقم 11.59، إلى جانب اعتماد ورقة تصويت فريدة واحدة تستعمل في الوقت نفسه للإقتراعين الجماعي والجهوي.

وانطلاقا مما سبق، فإن الإصلاحات الكبرى التي عرفها التنظيم الترابي، بهدف تعميق مسلسل اللامركزية والتنمية الترابية، تم اعتماد القوانين التنظيمية للجهات والجماعات الترابية الأخرى وتنزيل الوثيقة الدستورية لسنة 2011 في سياق بلورة تصوره الحداثي والمتطور للبناء الجهوي وتطوير نموذجه المجتمعي الذي يرتكز العمل على تأسيس جهوي لتوزيع يضمن تأهيل التراب الوطني ككل، من منطلق التضامن الفعلى بين الجهات.

فنجاح اللامركزية وتعميق الحكامة الترابية يتوقفان على الضبط والتنسيق الجيد لطرق عمل الهيئات المحلية من خلال توفير مختلف الإمكانيات والاليات التي من خلالها يمكن للمنتخبين المحليين ترشيد وعقلنة تدبير هم للشأن العام الترابي بشكل عام، كما يتطلب ذلك تجاوز واقع التنظيم الترابي الجهوي السابق، وتنزيل القوانين التنظيمية للجهات والجماعات الترابية الأخرى وفق فلسفة جديدة تستند إلى قاعدة التراب، كمرجعية لكل فعل أو سياسة تنموية، جهوية أو محلية، وكمدخل لبناء نظام اجتماعي ديمقراطي، يقوم على توسيع خيارات الأفراد وقدراتهم في تسيير شؤونهم وفق أنظمة ومعايير المشاركة، الشفافية، المحاسبة، لكافة الموارد البشرية والمالية ضمن نطاق سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان بغرض تحقيق تنمية مستدامة.

أهمية الموضوع:
إن تناول موضوع: "الجماعات الترابية بالمغرب بين التجديد والإستمرارية"، يفرض رهينته وتموقعه كموضوع تحليلي قانوني إستشرافي وهي مسألة تغري الباحث العلمي بالكشف وسبر أغوار مستجداتها.

ومن هذا المنطلق تبدو أهمية دراسة هذا الموضوع تتماشى مع ما أضحى في الوقت الحاضر يشكله من أهميه على مستوى الخطاب السياسي واهتمام في الأوساط الأكاديمية، خاصة بعد تراكم المشاكل الإجتماعية والإقتصادية إلى الحد الذي أصبحت فيه الدولة المركزية عاجزة لوحدها على إيجاد الحلول اللازمة لها، مما دفع بالمشرع الدستوري والتنظيمي على السواء إلى إصدار ترسانة قانونية تتماشى مع الدور الذي أصبحت تضطلع به هذه الوحدات الترابية في مختلف المجالات، وخاصة فيما يتعلق بتبني خيار الجهوية المتقدمة، وإدارة الشأن الترابي بشكل ديمقراطي، حر، وشفاف، ويسمح للساكنة بالمشاركة الواسعة والفعلية في صنع القرار التنموي، وتبني سياسات تنفيذه بناء على الرؤية والإحتياج الترابي، مع العمل على تكريس إدارة القرب، وترسيخ مبادئ الحكامة الترابية، والعمل على خلق إقلاع تنموي مندمج ومستدام يعطي مكانة أكبر للامركزية والديمقراطية المحلية، وبناء الجهوية المتقدمة.

إشكالية الموضوع :
يعتبر التنظيم الترابي اللامركزي الجديد من أهم العناصر في تدبير الشأن العام الترابي، لما يطرحه من مضامين ومواضيع في حقل العلوم الاجتماعية عامة ويرجع إلى الخصوبة المعرفية التي توفرها أنساق وإشكالات هذا التنظيم المتشعب.

و من ثم يتناول هذا البحث إشكالية تجديد الجماعات الترابية واليات استمراريتها؟ من خلال المقومات والمبادئ والمرتكزات من أجل خلق مجال ترابي مؤهل، ووحدات ترابية لا مركزية مؤهلة لتحسين المجال الترابي من خلال الإصلاح الدستوري والقوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية.

هذه الإشكالية المركزية تتفرع عنها عدة إشكالات هي كالأتي:
ما هي المستجدات التي جاءت بها القوانين التنظيمية للجماعات الترابية؟
ما هي المبادئ الدستورية والبنية التي يرتكز عليها التنظيم الترابي الجديد؟
ما هي المبادئ العلمية المعتمدة لبلوغ تقطيع ترابي ناجح؟
ما هي الوسائل والدعامات لإصلاح المجال الترابي وضمان استمراريته؟
ما هي محددات التنظيم الترابي الجديد وآليات استمراريته؟
كيف تساهم اليات التعاون والشراكة في استمرارية وتطوير المجال الترابي؟
ماهي إصلاحات الإدارة الجماعية وفق مستجدات القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات والمقاطعات وما تلاه من منشورات؟

منهج الدراسة:
للإجابة بشكل واضح وعلمي على الإشكالية الرئيسية لموضوع البحث "الجماعات الترابية بالمغرب بين التجديد والاستمرارية"، وكذا الإشكالات الفرعية المرتبطة بها، اقتضت طبيعة البحث توظيف مجموعة من مناهج البحث العلمي وتتمثل بالأساس في المنهج التحليلي وأيضا الوصفي عن طريق تحديد وتحليل مضامين المستجدات القانونية التي همت الجماعات الترابية وأثارها المستقبلية.

إضافة إلى إعتماد المنهج المقارن من خلال المقارنة بين مقتضيات القوانين السابقة والمستجدات الحالية للوقوف على أهم التغييرات التي عرفها التنظيم القانوني في هذا المجال فضلا على إجراء مقارنة بين التشريع الوطني وبعض التشريعات الأجنبية، ومن هنا جاء تحليل إشكالية البحث وفق التصميم التالي:

الفصل الأول: مستجدات التنظيم الترابي الجديد
الفصل الثاني: مقومات إستمرارية الجماعات الترابية

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -