أسس التنظيم القضائي في التشريع المغربي

مقال بعنوان: أسس التنظيم القضائي في التشريع المغربي

أسس التنظيم القضائي في التشريع المغربي

مقدمة : إن هاجس الحفاظ على أمن واستقرار وديمومة المجتمع دفع بالدولة الى منع الأفراد من اقتضاء حقوقهم بأنفسهم، و وضعت لهذه الغاية ترسانة من القواعد القانونية الموضوعية، وسلط تعني بضمان تطبيق واحترام هذه القواعد، “السلطة التشريعية، التنفيذية فالقضائية”.
غير أنه لا يسع الدولة أن تمنع الأفراد من حل نزاعاتهم بمفردهم بمجرد وضعها لهذه القواعد القانونية، إذ لا يكفي لحماية الحقوق وجود قواعد موضوعية تقرر الحقوق والالتزامات المترتبة عن المعاملات الجارية بين الأفراد، بل لابد الى جانب ذلك من إيجاد قواعد قانونية تنظم النشاط القضائي، قواعد يخضع لها المتقاضون والقضاة على حد السواء[1].
وتتجسد هذه القواعد المنظمة للنشاط القضائي في شق متعلق بقوانين إجرائية أو مسطرية، وشق آخر يعني بالتنظيم القضائي.
ويقوم التنظيم القضائي بالمغرب على غرار القوانين المقارنة على عدة مبادئ أساسية، قلنا أنها مبادئ أساسية تنهل منها جل التشريعات المقارنة وليس التشريع المغربي لوحده، على اعتبار أن هذه المبادئ تكون شاملة لمجموع الدول الحديثة، بالرغم من الاختلاف الحاصل بينها على مستوى التنظيم. وهي بمثابة التوجه والموقف اللذين تبناهما المشرع المغربي في ما له علاقة بتنظيم المحاكم أيا كان نوعها، حيث أن هذه المبادئ تساهم بشكل كبير في فهم النموذج الذي يعتمده كل قانون وذلك من خلال الضمانات التي تضعها لحماية حقوق الدفاع[2].
وقد تطورت هذه المبادئ في النظام القانوني المغربي عبر سيرورة تاريخية، يمكننا القول بأنها بدأت منذ أمد بعيد، حيث كان يعمل بقواعد الشريعة الاسلامية التي كان لها السبق في إقرار روح مجموعة من المبادئ، ولنا في رسالة عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري خير مثال.
ثم بعد ذلك تلت مرحلة الحماية وما واكبها من عصرنة للإدارة المغربية ومرفق القضاء على حد السواء، وبعد حصول المغرب على استقلاله شرع في تحديث ترسانته القانونية والقضائية عبر محطات عديدة، بداية من دستور 1962 وصولا الى دستور 2011 الذي قام بتكريس مجموعة من المبادئ ضمن دفتي كتابه، دون نسيان مجموعة من المحطات الحاسمة كإصدار ظهير مغربة القضاء في سنة 1974[3]، ثم بعد ذلك مجموعة من الأوراش الكبرى لإصلاح وترميم منظومة العدالة والتي لازالت مستمرة الى يومنا هذا بمناقشة مشروع القانون 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي.
وعلى ضوء هذا التقديم، يمكننا طرح إشكالية لمناقشة موضوعنا هذا، تتمحور أساسا حول ماهية مبادئ التنظيم القضائي المعمول بها في المغرب ؟
ويمكننا أيضا استشراف مجموعة من الأسئلة الفرعية بناء على ما تم طرحه في هذه الاشكالية، وهي كالآتي: 
ماهي المبادئ التي تعني بالقضاء ؟
وماهي المبادئ التي تعني بالمتقاضين ؟
ولخوض غمار هذه الاشكالية نقترح التصميم الآتي بيانه : 

المطلب الأول: مبادئ تهم مؤسسة القضاء
المطلب الثاني: مبادئ مقررة لحماية المتقاضين 

المطلب الأول: مبادئ تهم مؤسسة القضاء 

لا يمكننا الحديث مبدئيا عن عمل قضائي وعن حقوق المتقاضين الا باستحضار المبادئ الأساسية المنظمة لمرفق القضاء، منها ما يعني بجانبه الموضوعي (الفقرة الأولى) ، ومنها ما ينصرف الى جانبه الشكلي (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مبادئ تهم مؤسسة القضاء في شقها الموضوعي

إن كانت الدولة قد أخذت على عاتقها مسألة احتكار العدالة، وما تقتضيه هذه الأخيرة من ضرورة البث في المنازعات وإقرار الحقوق الى أهلها، فلا يمكن لها أن تنجح في هذه الوظيفة الا بالاستناد على قضاء محايد ومستقل في جوهره، والحديث هنا عن مبدأ الاستقلالية، ويمكن في هذا الصدد التمييز بين جانبين من جوانب هذا المبدأ، الأول يهم استقلال السلطة القضائية (أولا) ثم جانب يهم استقلال القاضي كفرد (ثانيا).
أولا: مبدأ الاستقلالية – استقلال السلطة القضائية
مفاد هذا المبدأ أن تتمتع السلطة القضائية بالاستقلال عن الهيآت الدستورية الأخرى والسلط التي نص عليها الدستور، ونعني بذلك أساسا السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.
وقد أقر المشرع على ضرورة هذا المبدأ في الوثيقة الدستورية، وذلك من خلال مقتضيات فصله الأول الذي أشار فيه إلى مبدأ فصل السلط، ثم الفصل 107 الذي جاء فيه ما يلي:
“السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية
الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية”.
ونجد هذا المبدأ حاضرا أيضا ضمن مستجدات مشروع القانون 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي، والذي نص في مادته الرابعة على أن: “يقوم التنظيم القضائي على مبدأ استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية”
وإذا كان استقلال السلطة القضائية حيال السلطتين التشريعية والتنفيذية يعني عدم تدخل هاتين الأخيرتين في عمل السلطة القضائية، أي أن السلطة التشريعية مكلفة دستوريا بسن القوانين ووضعها، وكذا القيام بمراقبة العمل الحكومي عن طريق الأسئلة الكتابية أو الأسئلة الشفوية أو غيرها من الآليات التي وضعها الدستور لتحقيق هذه المراقبة، فإن الاستقلال المذكور يتحقق بعدم تجاوز الحدود المرسومة دستوريا للسلطة التشريعية. وعدم تدخل السلطة التنفيذية في الاختصاص والصلاحيات المعهودة بها للسلطة القضائية، مؤداه أن الحكومة كهيأة تنفيذية ليس لها سوى القيام بتنفيذ القوانين وفق ما ينص على ذلك الدستور، وإذا كان الأمر كذلك، فإن مبدأ الاستقلال يفرض عدم تدخل القضاء في أعما السلطتين المذكورتين[4].
وتجدر الإشارة الى أن استقلال السلطة القضائية هو موضوع يقودنا بالضرورة الى تبيان وضعية النيابة العامة في منظومة القضاء، بحيث أصبحت هذه الأخيرة مستقلة عن السلطة التنفيذية وذلك تعزيزا لمبدأ الاستقلالية، وقد استحدث هذا الوضع بموجب القانون [5]106.13 الذي نص في مادته 25 على ما يلي : ” يوضع قضاة النيابة العامة تحت سلطة ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ورؤسائهم التسلسليين” على خلاف ما كان عليه الوضع سابقا، إذ كانت النيابة العامة تابعة للوزير بموجب القانون المتعلق بالنظام الأساسي لرجال القضاء الصادر سنة 1974 والملغى بموجب القانون 106.13.
ثانيا: مبدأ الاستقلالية – استقلال القاضي كفرد
استقلال القاضي كفرد هو المعنى الثاني لمبدأ الاستقلال، ومفاده أن يتمتع القاضي بهامش واسع من القناعة في اتخاذ ما يراه مناسبا من قرارات ومواقف من النزاعات التي تعرض عليه في إطار النصوص والمقتضيات القانونية المطبقة على النوازل[6].
ولا يمكن مبدئيا أن نتحدث عن استقلال القاضي كفرد الا من خلال تبيان حقوق و واجبات القاضي.
حقوق القاضي الضامنة لاستقلاله تتمثل حقوق القاضي الضامنة لاستقلاله في ما يلي:
عدم عزل القضاة أو نقلهم.
أن لا تبقى ترقية القضاة بيد السلطة التنفيذية.
حماية القضاة من التهديدات.
حرية التعبير وتأسيس الجمعيات والانخراط فيها
وقد كانت هذه الضمانات الشغل الشاغل للمهتمين بإصلاح منظومة العدالة خصوصا بعد دستور 2011، الشيء الذي تمخض عنه صدور القانون رقم [7]100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والقانون 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، كما أن هذه الضمانات لازالت قيد الترميم والاصلاح خصوصا في مشروع القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي.
عدم عزل القضاة أو نقلهم.
تساهم هذه الضمانة في تمتيع القاضي بالحماية والاستقرار الشيء الذي ينعكس على جودة أحكامه التي لا يراعي فيها أي تخوف من عزله أو نقله بناء على سلطة تعسفية، وقد أقر المشرع أهمية هذا المبدأ ضمن مقتضيات الفصل 108 من دستور 2011 ” لا يعزل قضاة الأحكام ولا ينقلون الا بمقتضي القانون”.
وقد نظم المشرع مسطرة تأديب القضاة من خلال مقتضيات القانون 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة.
أن لا تبقى ترقية القضاة بيد السلطة التنفيذية.
إذ أن هذه الضمانة تنعكس بشكل مباشر على الوضعية الاجتماعية للقضاة، وهو الأمر الذي يشكل ضمانة أساسية في تمتيع القاضي بأكبر هامش من الاستقلالية.
وبالنظر لأهمية هذا المعطى، نجد أن دستور 2011 نص على هذه الضمانة بموجب الفصل 113 ” يسهر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ولاسيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم ….”
حيث يستفاذ من هذا الفصل أن المشرع الدستوري أوكل مهمة ترقية القضاة الى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو ما تم إقراره بمقتضى القانون رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية من خلال المادة 74 التي جاء فيها ما يلي :
“يهيئ المجلس لائحة الأهلية للترقية برسم السنة الجارية.
لا يسجل بلائحة الأهلية للترقية لمدة يحددها النظام الداخلي للمجلس، القضاة الذين صدرت في حقهم عقوبة الإقصاء المؤقت عن العمل.
تنشر اللائحة بالمحاكم وبالموقع الإلكتروني للمجلس وبكل الوسائل المتاحة قبل متم شهر يناير من كل سنة.
يمكن للقضاة ، عند الاقتضاء ، أن يتقدموا إلى المجلس ، داخل أجل خمسة (5) أيام من تاريخ النشر ، بطلبات تصحيح اللائحة.
يبت المجلس في هذه الطلبات داخل أجل خمسة (5) أيام من تاريخ توصله بها.
يمكن الطعن في قرار المجلس برفض تصحيح لائحة الأهلية للترقي ، أمام الغرفة الإدارية بمحكمة النقض خلال أجل سبعة (7) أيام من تاريخ تبليغه بكل الوسائل المتاحة.
تبت الغرفة الإدارية بمحكمة النقض في الطلب داخل أجل خمسة عشر (15) يوما بقرار غير قابل لأي طعن.”
ومن خلال المادة 75 هي الأخرى التي جاء فيها:
“يراعي المجلس عند ترقية القضاة :
– الأقدمية في السلك القضائي والأقدمية في الدرجة ؛
– الحرص على إصدار الأحكام في أجل معقول ؛
– جودة المقررات القضائية ؛
– القدرة على التنظيم وحسن تدبير القضايا ؛
– الدراسة القبلية للملفات والسهر على تجهيزها ؛
– استعمال الوسائل التكنولوجية الحديثة ؛
– القدرة على التواصل ؛
– القدرة على التأطير ؛
– الحرص على المواكبة والتتبع والمواظبة.
علاوة على ذلك ، يراعي المجلس على الخصوص بالنسبة لقضاة النيابة العامة :
– تنفيذ التوجهات العامة للسياسات الجنائية ؛
– تطبيق التعليمات الكتابية القانونية ؛
– جودة الملتمسات.
وقد تناول القانون 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة هذه الضمانة أيضا، من خلال تبيانه لمسطرة الترقية عبر المواد من 32 الى 35، حيث نصت المادة 32 على ما يلي: يرقى القضاة من رتبة إلى رتبة ومن درجة الى درجة، بكيفية مستمرة، طبقا لمقتضيات هذا القانون التنظيمي والنصوص المتخذة لتطبيقه.
لا يمكن ترقية القضاة من درجة إلى درجة أعلى إلا بعد التسجيل في لائحة الأهلية للترقية
تحدد بنص تنظيمي أنساق الترقي من رتبة إلى رتبة أعلى.
غير أنه يرى بعض الباحثين[8]، على أنه لا يمكننا التكلم عن استقلال القضاء ما دام أن ترقية القضاة تتوقف على التنقيط الذي يتولى رئيس المحكمة القيام به (ونقصد رؤساء المحاكم بكافة درجاتهم وأنواعهم)، لأن الاستقلال يقتضي ألا يكون القاضي محكوما بالمنطق الرئاسي، أو التسلسل الرئاسي، لأن القناعة القضائية هي أهم ما يميز عمل القضاة.
كما يرى هؤلاء الباحثين على أن اقتران ترقية القضاة بالانتاج السنوي يعد بدوره عائقا أمام استقلالية القضاة، أي أن تمييز قاض عن آخر لا يتم من خلال جودة الأحكام والقرارات التي يصدرها، وإنما من حيث عدد الملفات التي استطاع أن يبت فيها خلال السنة، إذ لا يمكن لهذا الأسلوب الكمي الذي لا يعطي للكيفية أهميته اللازمة، أن يتخذ معيارا في ترقية القضاة.
حماية القضاة من التهديدات.
إن حماية القاضي من مختلف التهديدات التيم يمكن أن تطاله بمناسبة مزاولته لمهامه الوظيفية، هو أكبر ضمانة تساهم في تعزيز وتقوية استقلاليته، سواء أكانت هذه التهديدات مادية أو معنوية.
وقد جاء دستور 2011 معزز لهذه الضمانة من خلال مقتضيات الفصل 109 الذي نص على ما يلي:
” يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء؛ ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط.
يجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهدد، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية”
وأقر المشرع في الفقرة الأخيرة من الفصل 109 على أن القانون يعاقب على كل محاولة للتأثر على القاضي إذا كانت بكيفية غير مشروعة.
ونجد أن القانون 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة جاء معززا للموقف المشرع الدستوري بشأن هذه الضمانة التي تحفظ للقاضي استقلالية من أي تهديد، إذ جاء في مادته 39 ما يلي: “يتمتع القضاة بحماية الدولة وفق مقتضيات القانون الجنائي والقوانين الخاصة الجاري بها العمل، مما قد يتعرضون له من تهديدات أو تهجمات أو إهانات أو سب أو قذف وجميع الاعتداءات أيا كانت طبيعتها أثناء مباشرة مهامهم أو بسبب القيام بها.
وتضمن لهم الدولة التعويض عن الأضرار الجسدية التي يمكن أن يتعرضوا لها أثناء مباشرة مهامهم أو بسبب القيام بها والتي ال تشملها التشريعات المتعلقة بمعاشات الزمانة ورصيد الوفاة، وفي هذه الحالة تحل الدولة محل الضحية في الحقوق والدعاوى ضد المتسبب في الضرر”
حرية التعبير وتأسيس الجمعيات والانخراط فيها
إن هذه الضمانة هي من مستجدات الوثيقة الدستورية لسنة 2011، إذ نص المشرع من خلال الفصل 111 على ما يلي: ” للقضاة الحق في حرية التعبير، بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية.
يمكن للقضاة الانتماء إلى جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية، مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء، وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون.
يُمنع على القضاة الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية.”
وباستقراء هذا الفصل نجد أنه تضمن ثلاثة نقاط أساسية، الأولى تخص الحق في التعبير الذي منحه المشرع للقضاة وفق ضوابط محددة مفادها الحفاظ على واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية، وهو ما تم تكريسه أيضا من خلال مقتضيات القانون 106.13 عبر مادته 37 التي نصت على ما يلي: ” تطبيقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 111 من الدستور، للقضاة الحق في حرية التعبير، بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية، بما في ذلك الحفاظ على سمعة القضاء وهيبته واستقلاله”.
أما المقتضى الثاني فله علاقة بحرية العمل الجمعوي، ونجد أن هاجس الحفاظ على التحفظ والوقار كان المقاس الذي نظم المشرع من خلاله هذا الحق، إذ جاء القانون 106.13 بمقتضيات أكثر دقة مما تضمنته الوثيقة الدستورية بخصوص هذه الضمانة، وذلك من خلال المادة 38 التي أجازت للقضاة الانخراط في جمعيات مؤسسة أو تأسيس جمعيات مهنية، أي أنه بمفهوم المخالفة لا يحق للقضاة تأسيس جمعيات غير مهنية وإنما جاء الأمر قاصرا على الانخراط فيها وفقط، وفيما يلي نص المادة 38 من القانون 106.13 ” تطبيقا لأحكام الفقرة الأولى من الفصل 92 والفقرة الثانية من الفصل 999 من الدستور، يمكن للقضاة المعينين طبقا لمقتضيات المادة 98 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، الانخراط في جمعيات مؤسسة بصفة قانونية وتسعى لتحقيق أهداف مشروعة، أو إنشاء جمعيات مهنية، وفي كلتا الحالتين يتعين مراعاة واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية، واحترام واجب التجرد واستقلال القضاء، والحفاظ على صفات الوقار صونا لحرمة القضاء وأعرافه، غير أنه يمنع على القاضي تأسيس جمعية غير مهنية أو تسييرها بأي شكل من الأشكال”
أما المقتضى الثالث من الفصل 111 من الدستور فقد جاء لمنع القضاة من الانتماء الحزبي أو النقابي، وهو الأمر الذي يحمي جهاز القضاء من التأثر بأي تيار سياسي كان.
وفي سياق حرية التعبير المكفولة للقاضي، يمكنه أيضا تأليف الكتب شريطة ألا يكون تكون بصفته المهنية الا إلا بإذن من الرئيس المنتدب للمجلس كما جاء في المادة 47.
وللقاضي أيضا حرية المشاركة في الندوات مع مراعاة واجب التحفظ وشريطة ألا تؤثر هذه الندوات على مهامه الوظيفية، وهو ما أكدت عليه نفس المادة.
واجبات القاضي الضامنة لاستقلاله إذا كان كل حق يقابله واجب، فواجب القضاة تجاه ما يتمتعون به من حقوق تضمن استقلالهم يتجسد في ما الأمور الآتي بيانها:
1 – الالتزام بما أداه في القسم المنصوص عليه ضمن مقتضيات المادة 40 من القانون 106.13 :
“أقسم بالله العظيم أن أمارس مهامي بحياد وتجرد وأخالص وتفان، وأن أحافظ على صفات الوقار والكرامة، وعلى سر المداولات، بما يصون هيبة القضاء واستقلاله، وأن ألتزم بالتطبيق العادل للقانون، وأن أسلك في ذلك مسلك القاضي النزيه.
تؤدى هذه اليمين أمام محكمة النقض في جلسة رسمية يحرر محضر أداء اليمين ويوجه إلى الأمانة العامة للمجلس، كما توجه نسخة منه إلى المحكمة المعين بها القاضي المعني وكذا إلى الوزارة المكلفة بالعدل وكل إخلال بالالتزامات الواردة في اليمين المذكورة يعتبر إخلالا بالواجبات المهنية .
2 – تطبيقا لأحكام المادة 42 من القانون 106.13، يلتزم القضاة بتطبيق القانون، ولا تصدر أحكامهم الا بناء على التطبيق العادل للقانون. ويلتزم بما يقتضيه القانون من خلال حفاظه على سرية المداولات واحترامه للآجال القانونية المعقولة انسجاما مع منطوق المادة 45 من القانون السالف الذكر، ومقتضيات الفصل 120 من الوثيقة الدستورية..
3 – المحافظة على واجب الاستقلال والتجرد المستفاذ من مقتضيات الفصل 109 من الدستور في فقرته الثالثة ” يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة.”
4 – الامتناع عن الانخراط في الأحزاب السياسية أو الهيآت النقابية، وذلك انسجاما مع سبق وأن تطرقنا له ضمن تحليلنا لمقتضيات الفصل 111 من الدستور، وعملا أيضا بمنطوق المادة 46 من القانون 106.13 الذي أحال بدوره على مقتضيات الفصل 111 من الدستور.
5 – عملا بالفقرة الأخيرة من المادة 48 من القانون 100.13 يمنع على القاضي أن يزاول أي عمل من شأنه إيقاف أو عرقلة تسيير المحاكم
6 – يحافظ القاضي على صفات الوقار والاحترام المهني، وقد تم التنصيص على هذا الواجب من خلال النظام الأساسي للقضاة المادة 44: “يلتزم القاضي باحترام المبادئ والقواعد الواردة في مدونة الأخلاقيات القضائية، كما يحرص على احترام تقاليد القضاء وأعرافه والمحافظة عليها”.
7 – يمنع على القضاة مزاولة أي نشاط آخر تبعا لما جاء في المادة 47 من النظام الأساسي: يمنع على القضاة أن يمارسوا خارج مهامهم، ولو بصفة عرضية، أي نشاط مهني، كيفما كانت طبيعته بأجر أو بدونه، غير أنه يمكن منح استثناءات فردية بموجب قرار للرئيس المنتدب للمجلس، وذلك لضرورة التدريس أو البحث العلمي أو القيام بمهام تكلفهم بها الدولة.
8 – ضرورة التصريح بمختلف الممتلكات وما يملكه أبناؤه القاصرون وأزواجهم، وقد أغفل القانون 106.13 تضمين هذا المقتضى على غرار النظام الأساسي لرجال القضاء الملغى، حيث كان ينص في مادته 16 على وجوب التصريح بالممتلكات، لكن سرعان ما تدارك المشرع هذا النقص من خلال المادة 107 من القانون 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، حيث أوكل مهمة تتبع ثروات القاضي وإحالته على مسطرة التأديب في حالة ما ثبت خرقه لهذا المقتضى.
9 – تطبيقا لأحكام المادة 49، يمنع على القاضي أن يبدي رأيه في القضايا المعروضة على القضاء
كانت هذه أبرز الأسس الداعمة لمبدأ استقلالية القاضي كفرد، أو المدعمة لمبدأ الاستقلالية في عمومتيه. كشق موضوعي واجب التوفر في مؤسسة القضاء، وفي ما يلي سوف نتطرق للمبادئ التي تعني بالشق الشكلي لهذه المؤسسة.

الفقرة الثانية: مبادئ تهم مؤسسة القضاء في شقها الشكلي 

على غرار مبدأ الاستقلالية الذي يعني بجوهر مؤسسة القضاء، هناك مبادئ أخرى تعني بهذه المؤسسة، لكن في شقها الشكلي أو التنظيمي إن صح التعبير، وتتجلى في مبدأ وحدة القضاء (أولا)، ثم مبدأ القاضي الفرد وتعدد القضاة (ثانيا).
وقد أدرجناها تحت مسمى المبادئ التي تهم مؤسسة القضاء في شقها الشكلي، لأنها مبادئ تهتم بالصورة أو النظام الذي تبدو عليه هذه المؤسسة، أما عن المبادئ الأخرى التي لها ارتباط بالقوانين المسطرية الواجب الالتزام بها من طرف المتقاضين، ففي نظرنا أنها لا تؤثر في شكل مؤسسة القضاء بالقدر ما أنها مبادئ تقر بمجموعة من الضمانات أو الشروط التي تهم المتقاضين أولا، لذلك سوف ندرسها في محورها الخاص بها.
أولا: مبدأ وحدة القضاء
يعتبر مبدأ وحدة القضاء من المبادئ المستقر عليها في معظم التشريعات، وقليلة هي الدول التي تبنت في تنظيمها القضائي مبدأ ازدواجية القضاء.
ويفيد هذا المبدأ أن هناك جهة قضائية واحدة في كافة تراب أو إقليم الدولة، والجهة القضائية كما هو معلوم هي وجود محاكم منسجمة وشاملة تنظر في كافة القضايا التي تعرض على القضاء تنطلق من مرحلة أولى درجة لتبلغ مرحلة النقض[9].
كما يكرس هذا المبدأ مساواة فعلية بين المتقاضين أيا كانت جنسياتهم أو مراكزهم القانونية، الشيء الذي ينعكس إيجابا على منظومة القضاء التي تشتغل في تناغم واحد و وفق تسلسل واحد.
وقد طفى على سطح الوسط القانوني نقاش حاد فور إنشاء المغرب للمحاكم التجارية ومحاكم الاستئناف التجارية في 12 فبراير 1997، وإنشاء المحاكم الإدارية في 10 شتنبر 1993، ومحاكم الاستئناف الإدارية في فبراير 2006. حيث رأى الفريق الأول أن المغرب أخذ بمبدأ إزدواجية القضاء فور اعتماده على قضاء متخصص في المادة التجارية ابتدائيا واستئنافيا، واعتماده أيضا على قضاء متخصص في المادة الإدارية ابتدائيا واستئنافيا.
غير أن هناك فريق آخر يقول بعكس هذا، ويؤكد على أن المشرع المغربي لا زال يعتمد على مبدأ وحدة القضاء في قانونه القضائي، وحجتهم في ذلك أن محكمة النقض لا زالت هي المختصة بالنظر في كافة الأحكام الانتهائية المبثوث فيها من طرف كل المحاكم الأدنى درجة منها، سواء أكانت مدنية أو تجارية أو إدارية.
أي أنه لا توجد محكمة نقض مختصة في المادة التجارية وفقط، أو في المادة الإدارية دون غيرها لكي نقول بأن المشرع المغربي أخذ بمبدأ إزدواجية القضاء.
بينما يتطلب الحديث عن ازدواجية القضاء أو تعدد الجهات القضائية بدولة معينة تواجد أو قيام محاكم نقض موازية لهذه الجهات الجديدة، كما هو الشأن بالنسبة لمجلس الدولة الفرنسي الذي ينظر في نقض الأحكام والقرارات الصادرة في المادة الإدارية، وهذا ما يعرف بالاختصاص الوظيفي[10].
وهذا ما يؤكده المشرع من خلال مقتضى الفصل 353 من قانون المسطرة المدنية الذي نص على ما يلي :
“يبت المجلس الأعلى[11] ما لم يصدر نص صريح بخلاف ذلك في :
1 – الطعن بالنقض ضد الأحكام الانتهائية الصادرة عن جميع محاكم المملكة باستثناء : الطلبات التي تقل قيمتها عن عشرين ألف (20.000) درهم والطلبات المتعلقة باستيفاء واجبات الكراء والتحملات الناتجة عنه أو مراجعة السومة الكرائية.
2 – الطعون الرامية إلى إلغاء المقررات الصادرة عن السلطات الإدارية للشطط في استعمال السلطة.
3 – الطعون المقدمة ضد الأعمال والقرارات التي يتجاوز فيها القضاة سلطاتهم.
4 – البت في تنازع الاختصاص بين محاكم لا توجد محكمة أعلى درجة مشتركة بينها غير المجلس الأعلى.
5 – مخاصمة القضاة والمحاكم غير المجلس الأعلى.
6 – الإحالة من أجل التشكك المشروع.
7 – الإحالة من محكمة إلى أخرى من أجل الأمن العمومي أو لصالح حسن سير العدالة.”
وهو نفس التوجه الذي سلكه المشرع في مشروع القانون المتعلق 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، فمن خلال مراجعة أحكام مادته الأولى يتضح إبقائه على محكمة النقض متربعة فوق الهرم التسلسلي للمحاكم، إذ جاء فيها:
“يشمل التنظيم القضائي:
أولا: محاكم أول درجة، وتضم:
1 المحاكم الابتدائية
2 المحاكم الابتدائية التجارية
3 المحاكم الابتدائية الإرادية
ثانيا: محاكم ثاني درجة، وتضم:
1 محاكم الاستئناف
2 محاكم الاستئناف التجارية
3 محاكم الاستئناف الإدارية
ثالثا: محكمة النقض ويوجد مقرها بالرباط”
وقد عزز المشرع المغربي تبنيه لمبدأ وحدة القضاء من خلال المادة 5 من مشروع القانون 38.15 الذي أقر فيه بصريح العبارة على ايلي: ” يعتمد التنظيم القضائي على مبدأ وحدة القضاء، وتعتبر محكمة النقض أعلى هيئة قضائية بالمملكة.”
ثانيا: مبدأ القاضي الفرد وتعدد القضاة
إن مبدأ القاضي الفرد وتعدد القضاة ليس بالمبدأ الذي يقتصر دوره في تعداد عددي للقضاة المعروضة أمامهم القضية وفقط، إنما هو مبدأ له تأثير على آجال التقاضي أولا، ثم على جودة الأحكام ثانيا، ثم ميزانية الدولة ثالثا.
وقد تأرجح المشرع المغربي بين القضاء الفردي والقضاء الجماعي كم مرة، فبعدما كان قد استقر على مبدأ القاضي الفرد كقاعدة متبعة في القضايا أمام المحاكم الابتدائية، بغية تبسيط المساطر وتسريعا لوتيرة التقاضي، طالته مجموعة من الانتقادات الموجهة بالأساس الى جودة الأحكام واتساع دائرة الوقوع في الخطأ من طرف القاضي الفرد، الشيء الذي أدى فيما بعد الى تبنيه القضاء الجماعي كقاعدة متبعة في القضايا المعروضة على أنظار المحاكم الابتدائية، وقد طالت هذا الأخير مجموعة من الانتقادات أيضا، موجهة بالأساس الى تكلفته المادية المرتفعة، إذ أصبحت القضية الواحدة تكلف ثلاثة قضاة، ناهيك عن تعقد المساطر المتبعة أمامه وبطء وتيرة إنتاج الأحكام.
وهو ما أدى الى عدول المشرع عن القضاء الجماعي واتخاذه القضاء الفردي كأصل متبع في القضايا المعروضة أمام المحاكم الابتدائية، وقد تم ذلك أولا بصدور القانون رقم 15.03 الصادر بتنفيذ ظهير 11 نونبر 2003 الذي عدل بموجب المشرع ظهير التنظيم القضائي لسنة 1974، ، إذ نص من خلال مادته الرابعة: ” تعقد المحاكم الابتدائية جلساتها بحضور ثلاثة قضاة بمن فيهم الرئيس، وبمساعدة كاتب الضبط مع مراعاة الاختصاصات المخولة لرئيس المحكمة بمقتضى نصوص خاصة في الدعاوى الآتية:
- دعاوى الأحوال الشخصية والميراث باستثناء النفقة
- الدعاوى العقارية العينية والمختلطة
- دعاوى نزاعات الشغل
الجنح المعاقب عليها بأكثر من سنتين حبسا والتي يسند قانون المسطرة الجنائية الاختصاص فيها الى المحاكم الابتدائية
وقد جاء القانون 34.10[12] مكرسا لخيار القضاء الفردي كقاعدة، والذي نص في مادته الرابعة : “تعقد المحاكم الابتدائية بما فيها المصنفة جلساتها مع مراعاة المقتضيات المنصوص عليها في الفصل 5 بعده، وكذا الاختصاصات المخولة لرئيس المحكمة بمقتضى نصوص خاصة، بقاض منفرد وبمساعدة كاتب الضبط ما عدا الدعاوى العقارية العينية والمختلطة وقضايا الأسرة والميراث التي يبت فيها بحضور ثلاثة قضاة بمن فيهم الرئيس وبمساعدة كاتب الضبط”.
غير أنه إذا كان هناك حديث عن قضاء فردي وقضاء جماعي في المحاكم الابتدائية، فإن الأمر على خلاف ذلك في الحاكم التجارية أو محاكم الاستئناف التجارية وفق ما تنص عليه أحكام المادة 4 من القانون 53.95[13] المحدث للمحاكم التجارية: “تعقد المحاكم التجارية و محاكم الاستئناف التجارية جلساتها و تصدر أحكامها و هي متركبة من ثلاث قضاة من بينهم رئيس، يساعدهم كاتب ضبط ما لم ينص القانون على خلاف ذلك.”
الأمر نفسه بالنسبة للمحاكم الإدارية ومحاكم الاستئناف الإدارية، إذ تنص المادة 5 من القانون [14]41.90 المحدث للمحاكم الإدارية: ” تعقد المحاكم الإدارية جلساتها وتصدر أحكامها علانية وهي متركبة من ثلاثة قضاة يساعدهم كاتب ضبط، ويتولى رئاسة الجلسة رئيس المحكمة الإدارية أو قاض تعينه للقيام بذلك الجمعية العمومية السنوية لقضاة المحكمة الإدارية”
وتنص المادة الثالثة من القانون 80.03[15] المحدث لمحاكم الاستئناف الإدارية على ما يلي : “تعقد محاكم الاستئناف الإدارية جلساتها وتصدر قراراتها علانية وهي متركبة من ثلاثة مستشارين من بينهم رئيس يساعدهم كاتب ضبط.
يجب أن يحضر الجلسة المفوض الملكي للدفاع عن القانون والحق.
يدلي المفوض الملكي للدفاع عن القانون والحق بآرائه مكتوبة ويمكن له توضيحها شفهيا لهيئة الحكم بكامل الاستقلال سواء فيما يتعلق بالوقائع أو القواعد القانونية المطبقة عليها ، ويعبر عن ذلك في كل قضية على حدة بالجلسة العامة.
يحق للأطراف الحصول على نسخة من مستنتجات المفوض الملكي للدفاع عن القانون والحق.
لا يشارك المفوض الملكي للدفاع عن القانون والحق في المداولات.”
ولا حديث عن القضاء الفردي أيضا في محكمة الاستئناف، إذ تنص المادة 7 من ظهير التنظيم القضائي على ما يلي : تعقد محاكم الاستئناف جلساتها في جميع القضايا وتصدر قراراتها من طرف قضاة ثلاثة، وبمساعدة كاتب الضبط تحت طائلة البطلان ما لم ينص القانون على خلاف ذلك..”.
وتنص المادة 11 من نفس القانون على ما يلي: “تعقد محكمة النقض جلساتها وتصدر قراراتها من طرف خلسة قضاة بمساعدة كاتب الضبط ما لم ينص القانون على خلاف ذلك..”.
ومن نتائج هذا المبدأ، أن القاضي الذي يقوم بكافة الإجراءات والتحقيقات التي يستلزمها النزاع وتجهيز الملف تمهيدا للبث فيه، يعرف بالقاضي المكلف بالقضية، وهو الأمر الذي يجعل المشرع في قانون المسطرة المدنية كلما أراد تناول إجراءات الدعوى الخاصة بالمحاكم الابتدائية التمييز بين اصطلاحين، القاضي المكلف بالقضية (القضاء الفردي) والقاضي المقرر ( القضاء الجماعي)، أما القاضي الذي يعهد إليه بتجهيز القضية متى تعلق الأمر بالتشكيلة الجماعية فيعرف بالقاضي المقرر[16].
وتتجلى أهمية هذا التمييز بين المصطلحين من الناحية العملية، كون القاضي المكلف يقوم بتجهيز الملف والبث فيه بعد حجزه للتأمل، أما القاضي المقرر يقتصر دوره على إجراءات التحقيق دون أن تكون له سلطة للبث بمفرده في القضية، لأن الفصل في يعود للهيأة الجماعية المكونة من باقي القضاة، وذلك بعد المداولة.
وبعد استعراضنا لأهم المبادئ التي ارتئينا ترتيبها ضمن المبادئ التي تهم مؤسسة القضاء حسب وجهة نظرنا، سنمت الآن الى المبادئ التي تخص المتقاضين.

المطلب الثاني: مبادئ مقررة لحماية المتقاضين 

على غرار المبادئ التي تهم مؤسسة القضاء، هناك مبادئ أخرى مقررة لحماية المتقاضين، منها ما ينظم عملية ولوجهم الى مرفق القضاء والاستفادة من خدماته (الفقرة الأولى)، ومنها ما ينظم عملية التقاضي المقررة لمستعملي هذا الحق (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: المبادئ المقررة لحق ولوج المتقاضين الى مرفق القضاء 

إن احتكار الدولة للعدالة يقابله ضرورة تمكين الأفراد من الاحتكام الى سلطة القضاء، ومن تم كان لابد من إقرار مجموعة من المبادئ لتمكين الجميع من حق ولوج هذا المرفق وعدم اقتضاء نزاعاتهم بأنفسهم.
يقصد بحق الولوج، أن كل شخص يحق له أن يتجه إلى المحاكم من أجل المطالبة بحقوقه التي تم المساس بها، وقد نصت الوثيقة الدستورية على هذا الحق بمقتضى الفصل 118 ” حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون…”، و لا يمكن أن يسأل أي شخص عن استعماله لهذا الحق ولو أدى استعماله له إلى إلحاق الضرر بالغير ما لم ينحرف في استعماله له، عن طريق لجوئه لمقاضاة شخص آخر بطريقة كيدية، أو كان سيء النية[17]. وهذا ما تم إقراره من خلال مقتضيات المادة الخامسة من قانون المسطرة المدنية التي نصت على ما يلي: ” يجب على كل متقاض ممارسة حقوقه طبقا لقواعد حسن النية”.
ويتمظهر هذا الحق في الواقع العملي من خلال مبدأ المجانية (أولا)، ثم من خلال مبدأ التقاضي على درجتين[18] (ثانيا).
أولا: مبدأ المجانية
يعني مبدأ المجانية أن القاضي لا يتقاضى أجره من المتقاضين، بل إن الدولة نفسها لا تتقاضى أية مبالغ من هؤلاء مقابل قيامها بوظيفة القضاء، لذا فالمتقاضي غير ملزم بأداء أي مبلغ عن خدمات القضاء التي تقدمها الدولة، بل إن هذه الأخيرة هي التي تؤدي أجور القضاة وسائر موظفي المحاكم من كتاب الضبط والتراجمة وأعوان التنفيذ وغيرهم[19].
ويجد هذا المبدأ مشروعيته في تقاطعه المباشر مع مبدأ الاستقلالية، إذ أنه يستلزم وجوبا استقلال القاضي ماديا عن المتقاضين لضمان محاكمة عادلة.
غير أن هذا المبدأ قد يتشابه مع غيره من المؤسسات القانونية الأخرى، ونخص بالذكر مؤسسة المساعدة القضائية، لذا سنعمل على تبيان الفروقات بين مبدأ المجاني ومفهوم المساعدة القضائية، تم بعد ذلك سوف نتناول أنواع المساعدة القضائية وشروطها المقررة قانونا.
أ – تمييز مبدأ المجانية عن نظام المساعدة القضائية.
إن تمييز مبدأ المجانية عن نظام المساعدة القضائية لا تعدو أن تكون مسألة لغوية وفقط، وإنما هي ضرورة تمليها حالة اللبس التي شابت بعض النصوص القانونية.
فبالرجوع الى مقتضيات الفصل 121 من دستور 2011 نجد أنه أقر ما يلي: ” يكون التقاضي مجانيا في الحالات المنصوص عليها قانونا لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي”. والحال أن المشرع قد أراد بمفهوم المجانية في هذا الفصل المساعدة القضائية لمن لم يستطع أن يتكفل بالمصاريف القضائية، لأن المجانية هي مبدأ مقرر لكل المتقاضين وليس فقط لفئة معينة.
إذا كان مبدأ المجانية يرمي الى عدم دفع المتقاضين أجور القضاة بمناسبة فصلهم في النزاعات المعروضة على أنظارهم، فإن المساعدة القضائية تفيد بمفهوم المخالفة أن هناك نفقات يتعين أداؤها من قبل المتداعين[20]. إن مسطرة التقاضي تتطلب اعباء تثقل كاهل المتقاضي تتمثل في اداء الرسوم القضائية واداء الاتعاب للمحامي، الا انه بالنظر الى الوضعية المادية لبعض المتقاضين التي لا تسمح لهم بمباشرة هذه المسطرة امام المحاكم، فقد اوجد المشرع غطاءا لحماية حقوق هؤلاء الاشخاص المحتاجين حتى يتمكنوا من الولوج الى القضاء اقرارا لمبدا المساواة القانونية التي تنص عليه كل المواثيق والاعلانات الدولية الخاصة بحقوق الانسان، ولهذا الغرض تم احداث نظام المساعدة القضائية[21].
وتقدم مساعدة قضائية للأشخاص المتوفرة فيهم الشروط المحددة بمقتضى القانون، وذلك عن طريق إعفائهم من هذه المصاريف.
كما أن مشروع القانون 38.15 يشير بدوره لهذا اللبس الحاصل بين المفهومين، إذ تنص مادته السادسة على ما يلي: ” طبقا لأحكام الفصل 121 من الدستور، يكون التقاضي مجانيا في الحالات المنصوص عليها قانونا لمن لا يتوفر على موارد كافية للتقاضي.
تتم الاستفادة من المساعدة القضائية والمساعدة القانونية طبقا للشروط التي يحددها القانون”.
والمقصود بمفهوم المجانية الوارد في هذه المادة هو المساعدة القضائية، وهو ما أشار له في الفقرة الأخيرة من هذ المادة، وفي واقع الأمر يستلزم هذا اللبس والخلط بين المفهومين تدخلا تشريعيا لعدم الخلط بين مبدأ المجانية ونظام المساعدة القضائية من جهة، ولعدم إفراغ مفهوم المجانية من دلالاته القانونية.
فبالرغم من تشابه المفهومين، الا أن البون بينهما شاسع جدا، لأن مبدأ المجانية إذا كان يقر بعدم دفع المتقاضين لأجور القضاة، فذلك لا يتنافى مع ضرورة تحمل المتقاضين لجزء من تكاليف الدعوى والمتمثلة أساسا في المصاريف القضائية[22]، وهذه الأخيرة هي التي قد تكون محلا للمساعدة القضائية بالنسبة للمتقاضين الذين لا طاقة لهم بهذه المصاريف وفق شروط محددة قانونا.
فالقول بوجود مصاريف قضائية لا يقزم من مبدأ المجانية، لأنه إن تم تمديد مبدأ مجانية القضاء الى المصاريف اللازمة لسير الدعوى ( مصاريف تقييد الدعوى، والتبليغات، وأجور الخبراء، وأتعاب المحامين، وأجور التراجمة، ومصاريف تنقل الشهود، ومصاريف المعاينات، والتنفيذات…) فيه تشجيع على تكاثر الدعاوي الكيدية، وعلى التقاضي بسوء نية ما دام أن المتقاضي يعلم مسبقا أنه غير ملزم بأي أداء ولا متبوعا بأي جزاء حتى ولو ثبت أن رفعه للدعوى أو قيامه بإجراء ما، لم يكن يرمي إلا إلى الكيد بغريمه وتطويل الإجراءات دون وجه حق[23]. ومن ثم كانت المصاريف القضائية واجبة على كل المتقاضين، دون أي ضرب في مبدأ المجانية.
أنواع المساعدة القضائية
إذا كانت المساعدة القضائية هي نظام أقره المشرع لكل من كانت حاجته في التقاضي ولم يستطع لمصاريفها سبيلا، فقد جعل منها نظاما محكما بشروط محددة قانونا، أقرها المرسوم الملكي رقم 514.65[24] المتعلق بالمساعدة القضائية، المتمثلة أساسا في
تقديم طلب الى وكيل الملك لدى المحكمة التي ستنظر في النزاع
إثبات الطالب للمساعدة لفقرة وحاجته وعدم قدرته على تحمل الصوائر والرسوم القضائية الخاصة بالدعوى التي هي طرف فيها
و تشمل المساعدة القضائية كل مراحل التقاضي، سواء تعلق الأمر بالمرحلة الابتدائية، أو بالمرحلة الاستئنافية، أو تعلق الأمر بمرحلة النقض طبقا لأحكام الفصل الأول من المرسوم السالف الذكر؛ يمكن منح المساعدة القضائية لدى جميع محاكم المملكة وكيفما كان الحال ….”
أما أنواع المساعدة القضائية، فهي إما مساعدة قضائية بناء على طلب، أو مساعدة قضائية بقوة القانون.
فالمساعدة القضائية بناء على طلب لا تمنح الا إذا توافرت الشروط التي ينص عليها مرسوم المساعدة القضائية، والمتمثلة في تقديم طلب، وإثبات العسر. أما المساعدة القضائية بقوة القانون فلا تستوجب مثل هذين الشرطين وإنما يكفي أن يكون المستفيد ممن متعهم القانون بالمساعدة القضائية لغاية معينة كما هو الشأن بالنسبة للأجراء في مجال الشغل[25] .
ثانيا: مبدأ التقاضي على درجتين
يعتبر مبدأ التقاضي على درجتين من المبادئ التي تخول للمتقاضين حق ولوج مرفق القضاء لمرة ثانية بعد أن استفادوا من حق الولوج الى هذا المرفق في المرة الأولى.
ومعنى ذلك أن الدعوى ترفع في البداية أمام محكمة الدرجة الأولى (المحاكم الابتدائية، المحاكم التجارية و المحاكم الإدارية)، وحينما تصدر هذه الأخيرة حكمها يمكن للمحكوم عليه أن يتظلم من الحكم الصادر أمام محكمة أعلى درجة (المحاكم الاستئنافية، محاكم الاستئناف التجارية و محاكم الاستئناف الإدارية)[26]. وذلك عبر آلية الاستئناف التي تجسد مفهوم هذا المبدأ، ويتحقق بإعادة نشر الخصومة القضائية على محكمة موضوع أعلى درجة من التي أصدرت الحكم المستأنف، وذلك من خلال الطعن في هذا الحكم – بالاستئناف- بقصد إلغائه، ثم الحكم وفق ما يلتمسه الطاعن[27]
ويجد هذا المبدأ سنده القانوني من خلال قانون التنظيم القضائي في مادته الخامسة التي جاء فيها ” تختص المحكمة الابتدائية…. ابتدائيا أوو ابتدائيا مع حفظ حق الاستئناف بالنظر في جميع الدعاوى …”، وما يستفاد من هذه المادة أنها تطرقت لمبدأ حفظ حق الاستئناف أمام محكمة أعلى درجة كمبدأ.
كما تنص المادة 9 من نفس القانون، هذه المادة التي أبرزت اختصاصات محكمة الاستئناف، وجاء فيها، تختص محكمة الاستئناف بالنظر في الأحكام الصادرة ابتدائيا عن المحاكم الابتدائية …..”.
فيما جاءت المادة 5 من القانون 80.03[28] المحدث لمحاكم الاستئناف الإدارية بالمقتضى التالي، ” تختص محاكم الاستئناف الإدارية بالنظر في استئناف أحكام المحاكم الإدارية…”
فيما يجد هذا المبدأ سنده أيضا من خلال قانون المسطرة المدنية، حيث جاء في الفصل 18 من هذا الأخير، ” تختص المحاكم الابتدائية مع مراعاة الاختصاصات الخاصة المخولة الى أقسام قضاء القرب، بالنظر في جميع القضايا المدنية وقضايا الأسرة، والتجارية والإرادية والاجتماعية ابتدائيا وانتهائيا أو ابتدائيا مع حفظ ح الاستئناف…”.
فيما جاء الفصل 19 من نفس القانون مبرز ما يلي: “تختص المحاكم الابتدائية بالنظر:
ابتدائيا، مع حفظ حق الاستئناف أمام غرف الاستئنافات بالمحاكم الابتدائية، إلى غاية عشرين ألف درهم (20000) درهم.
وابتدائيا، مع حفظ حق الاستئناف أمام المحاكم الاستئنافية، في جميع الطلبات التي تتجاوز عشرين ألف درهم (20000) درهم.
يبت ابتدائيا طبقا لأحكام الفصل 12 أعاله، مع حفظ حق الاستئناف أمام المحاكم الاستئنافية”
ومن خلال هذين الفصلين من قانون المسطرة المدنية، يمكن استخلاص ما يلي:
إذا كان التقاضي كدرجة ثانية مقرر قانونا لمحاكم الاستئناف التي تختص به كأصل، فقد خرج المشرع على هذه القاعدة من خلال ما أورده في الفصل 18 المشار إليه، حيث أوكل البث استئنافيا أي بمفهوم درجة ثانية أمام المحكمة الابتدائية نفسها معتمدا في ذلك على معيار قيمي، “ابتدائيا، مع حفظ حق الاستئناف أمام غرف الاستئنافات بالمحاكم الابتدائية، إلى غاية عشرين ألف درهم (20000) درهم.” وقد أحدث المشرع هذا الاستثناء بموجب القانون رقوم 35.10[29]، وبه يطرح النزاع أمام هذه المحكمة من جديد لتفصل فيه بحكم نهائي حائز من حيث المبدأ لقوة الأمر المقضي به[30].
وهناك قضايا لا تقبل الاستئناف، حيث أخرجها المشرع من دائرة مبدأ التقاضي على درجتين، وهي إما زهيدة القيمة حيث لا تتجاوز المبلغ القيمي المحدد للقول بإمكانية الاستئناف، وعلى اعتبار أن النزاعات التي لا تتجاوز خمسة آلاف درهم لا تقبل أي طعن عاديا كان أو استثنائيا، وهي كما تنص على ذلك المادة 10 من قانون قضاء القرب الصادر في 17 غشت 2011 تدخل في المفهوم الواسع لاختصاص المحاكم الابتدائية[31].
ويبقى على المشرع المغربي أن يلائم قواعد قانون المسطرة المدنية مع أحكام مشروع القانون رقم 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي، التي تخلت عن غرف الاستئنافات بالمحاكم الابتدائية[32].

الفقرة الثانية: المبادئ المقررة لتنظيم لعملية التقاضي 

المقصود بالمبادئ المقررة لتنظيم عملية التقاضي، هي تلك المبادئ التي تنظم المسطرة المتبعة أمام القضاء والواجبة الاتباع من طرف أي شخص ولج الى هذا المرفق (أولا)، ثم تبيان كيفية سير الجلسات (ثانيا).
أولا: مبدأ شفوية المرافعة و كتابية المسطرة
يقصد بمبدأ شفوية المرافعة تمكين الخصوم من شرح نزاعهم بشكل مباشر أمام المحكمة -واستماعها إليهم- أي – بالحضور الشخصي – أو إلى وكلائهم والشهود والخبراء من أجل الوصول للحقيقة من خلال خلاصة أقوالهم وملاحظتهم وأيضا بالاعتماد على الوثائق المعروضة بما يسمح لها من تكوين قناعتها[33].
في حين تتميز المسطرة الكتابية بالدور الجوهري للقاضي المقرر في عملية تحقيق الدعوى، ومساهمة كتابة الضبط في تنفيذ وإنجاز تعليماته. وهي منظمة ومحددة في الفصول من 329 إلى 336 من قانون المسطرة المدنية، ابتداء من إحالة الملف عليه إلى حين إصداره الأمر بالتخلي[34].
وبعد سلسلة من التعديلات التي طالت قانون المسطرة المدنية، ، نجد أن نطاق مبدأ شفوية المرافعات عرف تقلصا ملحوظا في مقابل الأخذ بالمسطرة الكتابية كأصل، وهو ما أقره الفصل 45 من هذا القانون:
” تطبق أمام المحاكم الابتدائية وغرف الاستئنافات بها قواعد المسطرة الكتابية المطبقة أمام محاكم الاستئناف وفقا لأحكام الفصول 329 و331 و332 و334 و335 و336 و342 و344 الآتية بعده.
تمارس المحكمة الابتدائية ورئيسها أو القاضي المقرر ، كل فيما يخصه ، الاختصاصات المخولة حسب الفصول المذكورة لمحكمة الاستئناف ولرئيسها الأول أو للمستشار المقرر.
غير أن المسطرة تكون شفوية في القضايا التالية :
القضايا التي تختص المحاكم الابتدائية فيها ابتدائيا وانتهائيا ؛
- قضايا النفقة والطلاق والتطليق ؛
- القضايا الاجتماعية ؛
- قضايا استيفاء ومراجعة وجيبة الكراء ؛
- قضايا الحالة المدنية.”
ولا ينبغي أن يفهم من خلال الطابع العام الذي وردت به القضايا التي حرص فيها المشرع على تبني مبدأ الشفوية أنه قصد تعميم شفوية المرافعات، وإنما جعل الأمر ينحصر في جزء منها فحسب، فحين يتحدث الفصل عن القضايا الاجتماعية فإن ذلك لا يعني كل ما يدخل في المادة الاجتماعية، بل يقتصر الأمر على حوادث الشغل والأمراض المهنية دون نزاعات الشغل التي يلزم فيها سلوك المسطرة الكتابية، نفس الشيء يقال بخصوص قضايا الحالة المدنية، فالمقصود ليس كل هذه القضايا وإنما التصريح بالولادات والوفيات فحسب[35].
ويترتب عن الأخذ بهدة المسطرة أو بتلك التمييز بين حضور وغياب الأطراف، فمتى كانت المسطرة الشفوية يتحقق غياب الطرف بعدم حضوره شخصيا هو أو من ينوب عنه، أما في المسطرة الكتابية فيكفي للقول بالغياب عدم الإدلاء بالمذكرات والمستندات التي يتطلبها سير الدعوى[36].
وتجدر الإشارة الى أن هناك ترابط بين مبدأ شفوية المرافعة ومبدأ علنية الجلسة، وهذا ما سنعمل على تبيانه في النقطة الموالية.
ثانيا: مبدأ علنية الجلسات
يعتبر مبدأ علنية الجلسات يعتبر من بين ضمانات العدالة، مادام أنها تمكن الجمهور من مراقبة القضاء، حيث تجعل القاضي متيقضا بشكل كبير في مجلسه ولفظه ونظره لإظهار المساواة بين الخصوم، مما يؤدي إلى تجنب الوقوع في الخطأ أو على الأقل تعمد الحيف والميل إلى أحد الأطراف، إضافة إلى أن المناقشة العلنية وما يستتبعها من صدور الأحكام على مرأى ومسمع من الحضور تبعث الطمأنينة في نفوس المتقاضين[37]. وقد كرس المشرع الدستوري هذا المبدأ من خلال تنصيصه عليه في مقتضى الفصل 123 ” تكون الجلسات علنية ما عدا في الحالات التي يقرر فيها القانون خلاف ذلك”. كما أكد مشروع القانون 38.15 بدوره على هذا المبدأ من خلال مادته 11 التي أحالت بدورها على الفصل 123 من الوثيقة الدستورية.
وقد نص قانون المسطرة المدنية لسنة 1974 على مبدأ علنية الجلساء في الفصول 43 و50 و345 و 375، كما نص قانون قضاء القرب هو الآخر على هذا المبدأ من خلال مادته 7. وأنه يتعين أن تصدر الأحكام في جلسة علنية سواء تعلق الأمر بالمرحلة الابتدائية كما ينص على ذلك مقتضى الفصل 50 من ق.م.م :”تصدر الأحكام في جلسة علنية …”، أو تعلق الأمر بمرحلة الاستئناف كما يقضي بذلك الفصل 345 من ق.م.م في فقرته الرابعة ” تكون القرارات معللة، ويشار إلى أنها صدرت في جلسة علنية وأن المناقشات وقعت…”.، وهو الأمر نفسه أيضا أمام محكمة النقض طبقا للفصل 375 من ق.م.م في فقرته الأولى ” يصدر المجلس الأعلى قراراته في جلسة علنية “باسم جلالة الملك”.
غير أنه تجدر الإشارة الى أنه يتعين التمييز بين علنية الجلسات وعلنية النطق بالأحكام في الجلسة، فأما المراد بعلنية الجلساء فهو جريان الدعوى بشكل علني حيث يحضر الجلسات الأطراف أو ممثلوهم وكافة من يهتم بمتابعة الدعاوى، وهذا يستلزم انضباط الجميع لنظام الجلسة تحت طائلة العقوبات اليي يمكن لرئيس الجلسة أن يصدرها في حق كل من لم يلتزم بالاحترام الواجب للقضاء[38]. وذلك طبقا لأحكام الفصل 43 من ق.م.م ” تكون الجلسات علنية إلا إذا قرر القانون خلاف ذلك.
لرئيس الجلسة سلطة حفظ النظام بها ويمكنه أن يأمر بأن تكون المناقشة في جلسة سرية إذا استوجب ذلك النظام العام أو الأخلاق الحميدة…”
والمستفاد من هذا الفصل، أن الخروج عن قاعدة علنية الجلسات لا يكون الا بمقتضى القانون أو بناء على دواعي تنظيمية موكولة لرئيس الجلسة من أجل الحفاظ على الجلسات من العرقلة.
أما علنية النطق بالحكم في الجلسة، فهي إجراء قرره المشرع ولم يجعل له أي استثناء، إذ لا يمكن صور صدور حكم بطروقة سرية، وإلا كان للطرف المعني حق الطعن في الحكم مثيرا الدفع بعيب المسطرة عملا بمنطوق الفصل 49 من ق.م.م : ” يجب أن يثار في آن واحد وقبل كل دفاع في الجوهر الدفع بإحالة الدعوى على محكمة أخرى لتقديمها أمام محكمتين مختلفتين أو لارتباط الدعويين والدفع بعدم القبول وإلا كان الدفعان غير مقبولين.
يسري نفس الحكم بالنسبة لحالات البطلان والإخلالات الشكلية والمسطرية التي لا يقبلها القاضي إلا إذا كانت مصالح الطرف قد تضررت فعلا”
وغني عن البيان أن ثمة ترابط قويا بين مبدأ علنية الجلساء ومبدأ شفوية المرافعات، فشفوية المرافعات تجد مجالا مناسبا لتطبيقها متى كانت الجلسات علنية بحيث يكون كل من حضر الجلسة على علم بما يثيره كل طرف من الملاحظات ولو أنه من المتصور القيام بالمرافعة الشفوية حتى خلال الجلسات التي تجري بسرية[39].

خاتمة : إن مبادئ التنظيم القضائي، ليست بمجرد بنيات نظرية وشكلية تؤطر مرفق القضاء، وإنما هي ركائز أساسية ودعائم رصينة واجبة الاتباع من طرف أي دولة تسعى الى أن تقر على كيانها الحق والقانون، وأن تبني منظومة عدالة قوية عادلة توفر ضمانات قوية للقضاة والمتقاضين.
فلا يمكن الحديث عن دولة الا بإقرار قضاء قوي ومستقل وجريء، ولا يمكن لهذا الأخير أن يتأتى الا عبر مبدأ الاستقلالية في شقه المتعلق بالسلطة القضائية والآخر المتعلق بالقاضي الفرد.
ولا يمكن أن نعزز ثقة المتقاضين في مرفق القضاء الا بتيسير عملية ولوجه، والاستفادة من خدماته على درجتين وتيسير للمساطر وضبط لآجال التقاضي. وقس على ذلك باقي المبادئ.
وهو ما دفع بالمشرع المغربي الى تبني هذه المبادئ، والارتقاء ببعضها الى مناص القاعدة الدستورية، وتكرار بعضها الآخر بين قانون التنظيم القضائي وقانون المسطرة المدنية، إذا لا يجب أن يفسر هذا التكرار بمثابة الحشو التشريعي، بقدر ما هو تبيان وتفسير وتسهيل على المتقاضين والقضاة في كيفية استعمالهم للنص القانوني وتكييفه تكييفا صحيحا والوقائع المعروضة أمامهم.
غير أنه رغم هذا التحديث والتطوير والملائمة التي سعى المشرع المغربي لتفعيلها في منظومته القضائية بما يستجيب لأحكام هذه المبادئ، لازالت هناك العديد من النواقص التي وجب تداركها، كما هو الحال في الفصل 108 من الدستور الذي جعل من قاعدة عدم عزل القضاة أو نقلهم حكرا على قضاة الأحكام دون غيرهم من قضاة النيابة العامة، والحال أن قضاة النيابة العامة أضحوا جهازا مستقلا تابعا للسلطة القضائية.
كما وجب تقويم بعض المعوقات التي تحول دون إصدار الأحكام في الآجال المعقولة، الحديث هنا عن تعقيد بعض المساطر الكتابية التي تنعكس سلبا على وتيرة التقاضي. والحديث هنا أيضا على الأسلوب الكمي المعتمد في ترقية القضاة والذي يكون على حساب مجهود القاضي من ناحية، وعلى حساب جودة الأحكام القضائية من جهة ثانية.
وفي نهاية هذا البحث لا يسعنا الا أن نثير بعض التساؤلات تكون بمثابة استشراف نحو أبحاث أخرى، لعل أبرزها ينطوي حول ما مآل ومستقبل مبدأ وحدة القضاء في التشريع المغربي ؟ وكيف سيحافظ المشرع المغربي في سياق رقمنته لمرفق القضاء على هذه المبادئ التي وجدت أساسا لضمان مفهوم المحاكمة العادلة ؟
 _____________________________
الهوامش :[1] نور الدين الناصيري، الموجز في المسطرة المدنية، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 2019، الصفحة 6
[2] عبد الكريم الطالب، التنظيم القضائي المغربي، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الخامسة 2018، الصفحة 23
[3] ظهير شريف بمثابة قانون رقم 1.74.338 بتاريخ 24 جمادى الثانية 1394( 15 يوليوز 1974) يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، الجريدة الرسمية عدد 3220 بتاريخ 26 جمادى الثانية 1394 (17 يوليوز 1974)، ص 2027
[4] عبد الكريم الطالب، المرجع السابق، الصفحة 24
[5] الصادر بظهير شريف رقم 1.16.41 صادر في 14 من جمادى 1437 الموافق ل 24 مارس2016، الجريدة الرسمية عدد 6456 بتاريخ 6 رجب 1437 (14 (ابريل 2016)؛ ص 3160
[6] عبد الكريم الطالب، المرجع نفسه، الصفحة 24
[7] الصادر بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.16.40 في 14 من جمادي 1437 (24 مارس 2016)، الجريدة الرسمية عدد 6456 في 6 رجب 1437 ( 14 أبريل 2016) ص 3143
[8] أنظر مرجع الأستاذ عبد الكريم الطالب، المرجع السابق، الصفحة 25 و26
[9] عبد الكريم الطالب، المرجع السابق، الصفحة 35
[10] عبد الرحمان الشرقاوي، التنظيم القضائي المغربي بين العدالة المؤسساتية والعدالة المكملة أو البديلة، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الخامسة 2019، ص8
[11] تجدر الإشارة الى أنه تم استبدال مسمى المجلس الأعلى باسم محكمة النقض بموجب التعديل الدستوري لسنة 2011
[12] الصادر بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.11.148 في 16 من رمضان 1432 ( 17 أغسطس 2011 ) بتنفيذ القانون رقم 34.10 بتغيير وتتميم الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.338 المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة. الجريدة الرسمية عدد 5975 الصادرة بتاريخ 6 شوال 1432 ( 5 سبتمبر 2011 )
[13] الصادر بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.97.65 صادر في 4 شوال (12 فبراير 1997) بتنفيذ القانون رقم 53.95 القاضي بإحداث محاكم تجارية، الجريدة الرسمية عدد 4482 في 15/05/1997.
[14] الصادر بمقتضى الظهيـر الشريف رقم 1.91.225 صادر في 22 من ربيع الأول 1414 (10 سبتمبر 1993)، الجريدة الرسمية عدد 4227 بتاريخ 03/11/1993 الصفحة 2168.
[15] الصادر بمقتضى الظهير الشريف رقم 07ء06ء1 صادر في 15 من محرم 1427 (14 فبراير 2006) بتنفيذ القانون رقم 80.03 المحدثة بموجبه محاكم استئناف إدارية.
[16] عبد الكريم الطالب، المرجع السابق، الصفحة 31
[17] عبد الرحمان الشرقاوي، المرجع السابق، ص10
[18] وقد ارتأينا تضمين مبدأ التقاضي على درجتين ضمن المبادئ التي تكرس حق الولوج الى مرفق القضاء، لأن عملية التقاضي للمرة الثانية في نفس القضية هو حق للانتفاع مرة ثانية من خدمات هذ المرفق.
[19] محمد كرام، الوجيز في التنظيم القضائي المغربي، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، الطبعة الأولى 2010، ص 33
[20] عبد الكريم الطالب، المرجع السابق، الصفحة 31
[21] النقيب بنعيسى المكاوي، مقالة بعنوان “المساعدة القضائية بين مجانية الدفاع وأداء الأتعاب في القانون المغربي و المقارن”، جريدة الاتحاد الاشتراكي 19 – 12 – 2014
[22] يقصد بالمصاريف القضائية (أو مصاريف الدعوى) مبالغ الرسوم القضائية إلى جانب أتعاب الخبراء والتراجمة ومصاريف تنقل المحكمة ومصاريف تنقل الشهود، ولا تشمل أتعاب الدفاع ولا مصاريف تنقل الأطراف وكتابة المذكرات.
عبد الحميد أخريف، محاضرات في قانون التنظيم القضائي، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية فاس، السنة الجامعية 2011/2012، ص 19
[23] سعيد أبلق، الدعوى الكيدية بين أحكام القانون المغربي والقانون المقارن، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون الخاص، كلية الحقوق بمراكش 2008/2009 ص 25
[24] مرسوم ملكي رقم 514.65 بتاريخ 17 رجب 1386 (فاتح نونبر 1966) بمثابة قانون يتعلق بالمساعدة القضائية، الجريدة الرسمية عدد 2820 بتاريخ 16/11/1966 الصفحة 2379
[25] عبد الكريم الطالب، المرجع السابق، الصفحة 39
[26] نور الدين الناصيري، المرجع السابق، ص 280
[27] نور الدين لبريس، نظرات في قانون المسطرة المدنية، مطبعة الأمنية/ الرباط 2012، ص 147
[28] الصادر بموجب الظهير الشريف رقم 07-06-1 صادر في 15 من محرم 1427 (14 فبراير 2006)، الجريدة الرسمية عدد 5398 بتاريخ 24 محرم 1427 (23 فبراير 2006)، ص 490.
[29] الصادر بموجب ال ظهير شريف رقم 1.11.149 صادر في 16 من رمضان 1432 (17 أغسطس 2011) بتنفيذ القانون بتنفيذ القانون رقم 35.10 بتغيير و تتميم قانون المسطرة المدنية
[30] نور الدين الناصيري، المرجع السابق، ص 280
[31] عبد الكريم الطالب، المرجع السابق، الصفحة 29
[32] عبد الرحمان الشرقاوي، قانون المسطرة المدنية، دراسة فقهية وعملية مقارنة مع مسودة مشروع قانو المسطرة المدنية، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الرابعة 2019، ص 204
[33] ادريس العلوي العبدلاوي، الوسيط في شرح المسطرة المدنية (القانون القضائي الخاص) وفق آخر التعديلات الجزء الأول، أساس القانون القضائي الخاص – النظرية العامة للعمل القضائي – المبادئ الأساسية للنظام القضائي، النظام القضائي المغربي- الاختصاص- التحكيم؛ مطبعة النجاح الجديدة/ الدار البيضاء؛ الطبعة الأولى 1998؛ ص: 294
[34] نور الدين لبريس، نظرات في قانون المسطرة المدنية؛ مرجع سابق، ص 64
[35] عبد الكريم الطالب، المرجع السابق، الصفحة 35
[36] عبد الكريم الطالب؛ الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، دراسة في ضوء مستجدات مسودة مشروع 2015، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الثامنة 2016، س 182
[37] سعود بن سعد آل دريب: التنظيم القضائي في المملكة العربية السعودية في ضوء الشريعة الإسلامية ونظام السلطة القضائية، رسالة في السياسة الشرعية؛ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية/وزارة التعليم العالي؛ نشر الإدارة العامة للثقافة والنشر 1999، ص 539
[38] عبد الكريم الطالب، المرجع السابق، الصفحة 33
[39] عبد الكريم الطالب، التنظيم القضائي المغربي، المرجع السابق، ص 34
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -