مبدأ تفريد العقاب

عرض بعنوان: مبدأ تفريد العقاب PDF

مبدأ تفريد العقاب PDF
مقدمة
إذا كان العيش داخل الجماعة أمر حتمي و لا مفر منه، فإنه العيش بسلام داخل المجتمع يفرض فرض قوانين منظمة العلاقة الأفراد فيما بينهم . زيادة على تدعيمها بجزاءات تطبق على كل من أخل بها . حيث يعرف الجزاء الجنائي برد فعل المجتمع ضد كل من سولت له نفسه خرق قاعدة جنائية أو نص جنائي ، و الذي إما أن يتمثل في عقوبات . سواء منها تلك التي تمس بجسده أو حريته أو حقوقه المالية، أو قد يتمثل في فرض بعض التدابير الوقائية . وحيث أن من المسلمات أنه لا يمكن للمشرع أن يتصور کل ظروف ارتكاب الجرائم و لا خطورة مرتكبيها ، حيث لا تلازم دائما بين نوع الجريمة و خطورة مرتكبها . الأمر الذي حتم عليه منح سلطة تقديرية لقضاة الموضوع فيما يتعلق بتقدير الجزاء الجنائي المناسب الواجب الإيقاع على الماثل أمامه ، لا يقيده في ذلك سوى النص القانوني و خطورة الجريمة و مرتكبها.
وهو ما يعرف بمبدأ تفريد الجزاء الجنائي الذي يمكن تعريفه بتلك السلطة التقديرية الممنوحة لقضاة الموضوع في حدود القانون من أجل توقيع الجزاء المناسب نوعا و قدرا مع ما يتوافق مع الهدف الجديد من توقيع هنا الجزاء.
وقد مر الجزاء الجالي من القرن السابع عشر بمراحل متعددة من التطور حيث لم يكن يعرف للجزاء هدف أو غاية سوى تحقيق الردع العام و الخاص . مما أصبغ على العقوبة صبغة القسوة و الوحشية في التنفيذ، حيث كان منطق العقوبة يهدف إلى نقل المجرم من وضعية الممارس للألم إلى وضعية متذوق فعلي له عن طريق المساس بأحد حقوقه الأساسية سواء تلك المتعلقة بسلامته الجسدية . أو المتعلقة بحريته أو إحدى حقوقه المالية. و بعد مسلسل من التصورات و الأبحاث التي توصلت إليها مختلف المدارس العقابية. أضحى المجرم قبلة النظريات و أفكار جل الفقهاء الذين بادروا إلى البحث عن أنجع الوسائل لجعل الجزاء الجنائي ذا طبيعة نفعية .
حيث تحولت النظرة إلى المجرم من مذنب يجب معاقبته إلى مريض يجب تشخيص حالته و علاجه . وقد كان هذا التطور الذي لحق بالجزاء بسبب تطور الفكر الفلسفي في العصور الوسطى، حيث أن هناك ارتباطا وثيقا بين السياسية الجنائية وبين الفكر السياسي والفلسفي السائد في المجتمع.
وقد أدى هذا التطور إلى ثورة قانونية وفلسفية وحقوقية في القرن الثامن عشر توج بمبدأ تفريد العقاب، مع العلم أن هذه التسمية لم تظهر إلا مع ريمون سالي عام 1898 من خلال دروس قدمها لطلبة الكلية الأهلية الحرة للعلوم الاجتماعية تحت عنوان "تفريد العقوبة وقد ظهر هذا المبدأ بسبب القصور الذي كانت تعاني منه المدرسة التقليدية. التي دعت إلى مسؤولية موضوعية مبنية على أساس جسامة الضرر دون النظر للحالة النفسية لمحدث الضرر . زيادة على اعتبار حرية الاختيار مطلقة لدى الجاني ، مع التأكيد على وظيفة العقوبة في الدفاع على المجتمع.
كما دعت لتحديد سلطة القاضي في أضيق نطاق ، وذلك للقضاء على تحكمه واستبداده الذي كان يصل لدرجة جمع سلطة التشريع و العقاب في يد واحدة ، وذلك بإقرار مبدأ الشرعية.
غير أنه وبسبب الانتقادات التي وجهت للمدرسة التقليدية، وخصوصا تضييق سلطة القاضي . أدى الأمر إلى ظهور مدرسة جديدة (المدرسة التقليدية الجديدة أو النيوكلاسيكية).
نشأت هذه المدرسة في القرن التاسع عشر، وكان ذلك على اثر الانتقادات التي وجهت إلى المدرسة التقليدية في ثوبها القديم ، و من أهم ما جاءت به هاته المدرسة عدم تجاوز العقاب لما تقتضيه المنفعة و ما تفرضه العدالة.
زيادة على الاعتراف بنسبية حرية الاخبارة تفاوتها من إنسان لأخر بل و في الفرد الواحد حسب ظروف الزمان و المكان ، مع الاعتراف للقاضي الجنائي بصلاحية تفريد العقوبة
غير أن الثورة الكبرى كانت مع ظهور المدرسة الوضعية مع ‘‘لمبروزو" و"فيري"، وكذلك القاضي والفقيه جارفالو
فمنذ ظهور الثورة العلمية في منتصف القرن التاسع عشر، اتجهت السياسة الجنائية منهجا جديدا قوامه الطابع العلمي التجريبي، وقد نشأت هذه المدرسة على أنقاض أفكار المدرسة التقليدية المنتقدة التي كانت تنظر إلى الفعل الإجرامي بذاته، بينما اهتم أنصار المدرسة الوضعية بشخصية المجرم وكان لها مكان الصدارة في أبحاثهم، وقد استندت إلى دعامتين أساسيتين وهما: فكرة الخطورة الإجرامية، وفكرة التفريد العقابي .
وقد عملت هذه المدرسة على استخدام المنهج العلمي لدراسة الجريمة و وكذا تحويل النظرة بشكل كلي من الجريمة إلى شخص المجرم
وقد أثر هذا التطور الكبير في الفكر العقابي إلى تغيير النظرة إلى العقوبة، فبعدما كان الهدف منها إيلام الجاني والقصاص منه في ظل الأنظمة القديمة، أصبح الهدف منها يتجلى أساسا في إصلاح الجاني و إعادة تأهليه بالإضافة لتحقيق الردع العام و الخاص. وهو الأمر الذي يحتم إعطاء القاضي سلطة تقديرية في اختيار العقوبة المناسبة لتحقق هدفها.
و بالتالي فإن التفريد يجعل العقوبة من حيث نوعها ومقدارها وكيفية تنفيذها ملائمة الظروف من تفرض عليه، فتفريد العقاب هو تنويعه ليلائم حال كل فرد يراد عقابه، حيث أن العقوبة وسيلة لإصلاح المحكوم عليه، فالعقوبة لا ينبغي أن تطبق عبثا، فلا بد أن تكون ذات مردودية، ولكي يتحقق هذا فالعقوبة لا ينبغي تحديدها مسبقا بصورة دقيقة وصلبة، ولا تنظيمها قانونا بطريقة لا تقبل التغيير لأن الهدف منها فردي، يمكن الوصول إليه باستعمال سياسة خاصة ملائمة للظروف وليس عن طريق تطبيق قانون مجرد لا علم له بملابسات وظروف الحالات و النوازل المعروضة على القضاء
ومن هنا تأتي أهمية موضوعنا هذا الكون مبدأ تفريد الجزاء لا ينفصل عن المفاهيم المعاصرة للسياسة الجنائية، حيث أنه يتصل بالتطبيق المباشر لعقوبة نص عليها المشرع بصورة مجردة، وإنزالها على الواقعة الإجرامية، حيث تقوم سلطة القاضي بإخراجها من قالبها المجرد و إفراغها على الواقع.
و تتجلى إشكالية في ما می لولق المشرع المغربي في اختيار الأليات القانوية الضرورية لتحقيق الغاية من مبدأ تفريد الجزاء الجنائي؟ وما المدى المتروك لسلطة القاضي التقديرية في تفريد هذا الجزاء ؟ و ماهي الحدود التي تقف عليها هاته السلطة ؟ وأي دور للمؤسسة العقابية في هذا التفريد ؟
وللإجابة عن الإشكالية المطروحة و الأسئلة المتفرعة عنها ارتأينا تقسیم موضوعنا هذا إلى المباحث التالية :

المبحث الأول : التفريد التشريعي
المبحث الثاني : التفريد القضائي
المبحث الثالث : التفريد الإداري
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -