استقلال النيابة العامة

عرض بعنوان: استقلال النيابة العامة في القانون المغربي PDF

عرض بعنوان: استقلال النيابة العامة PDF

مقدمة
تعد السلطة القضائية مقوما من المقومات الأساسية لدولة الحق والقانون، ذلك أن ضمانسيادة القانون رهين بوجود مؤسسة قضائية وية وفعالة، قادرة على التطبيق السليموالعادل للنصوص القانونية في إطار الشفافية والمساواة، ولما كان عنصر الثقة في وجود نظام قضائي مستقل ونزيه وفعال، محفز على الاستثما ر والتنمية، بات من الضروري انخراطالمغرب في مخطط واضح لصلاح العدالة، لكي تكون الأخيرة قادرة على ضمان سيادة القانونوحماية الحقوق وكفالة الحريات.
إن استقلال السلطة القضائية، من الأمور التي ما فتئت كل الفعاليات الحقوقية والسياسية تنادي بها، باعتبارها الضمانة الفعلية والحقوقية، لتدعيم أسس دولة الحق والقانون، وترسيخ مبادئ حقوق النسان، كما هي متعارف عليها دوليا، وتحقيق الأمن القضائي.ويقتض ي مبدأ استقلالية السلطة القضائية، أن لا يخضع القضاة في ممارستهم لعملهم لسلطان أي جهة أخرى، وأن يكون عملهم خاضعا لقرار الحق والعدل، وما يمليه عليهم القانون والضمير، دون أي اعتبار آخر، وعدم جواز التدخل والتأثير من قبل الغير فيما يصدر عن القضاء من إجراءات وقرارات وأحكام .
و لا شك أن المتتبع لاستقلال القضاء في الفترة الأخيرة سيشهد تطور وتصاعد النقاش بكيفية واضحة وملموسة، فبعد أن كان النقاش متمركز حول استقلالية القضاء، وضرورة اعتباره سلطة، وتكريس ذلك صراحة في قلب الدستور، فإنه وبعد أن تم تحقيق جزء كبير من تلك المطالب بصدور دستور 2011 ، لم يعد التساؤل والنقاش على ما يبدو، من قبيل هل القضاء مستقل أو سلطة، وإنما تجاوز تلك المرحلة ليدخل خانة تصنيف، ويصبح التساؤل عن استقلال النيابة العامة.
ويأتي هذا الاهتمام بالنظر إلى الدور المحوري الذي يمكن أن تقوم به مؤسسة النيابة العامة اليوم، في حماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات، والذي يكتشف من خلاله مدى انخراط المغرب الجاد في المنظومة الدولية لمرجعيات حقوق النسان.
تعتبر النيابة العامة سلطة عامة تتولى بالنيابة عن المجتمع ومن أجل المصلحة العامة تطبيق القانون في حالة مخالفة له، تترتب عليها عقوبة جنائية مع ا لأخذ بعين الاعتبار حقوق الأفراد والفعالية الضرورية في نظام العدالة الجنائية ، كما تعتبر الهيئة القضائية التي تهتم بكفالة تنفيذ القوانين والأحكام القضائية والدفاع وحماية الأشخاص العاجزين عن حماية أنفسهم .
وخير وصف للنيابة العامة تلك العبارات التي تحدث الفقيه الفرنس ي ''بورتاليس'' عندما قال: إن هذه المؤسسة هي التي أنقدت الحكومات المعاصرة من جيش الوشاة، هذا الجيش الذي كان يشكل خطر اجتماعي كبير على الأسر المحترمة وعلى الدولة نفسها في عهد أباطرة روما القديمة، وهي حارسة القضاء وموجهة الاجتهاد، وعون الضعفاء المظلومين وخصم أشقياء العتاة، وسند المصلحة العامة، ثم إنها خير ممثل لجهاز المجتمع بأسره .
وقد مرت النيابة العامة مثل كل أجهزة الدولة بتطور تاريخي حافل بالأحداث والوقائع الكبرى، ذلك أن نشأة النيابة العامة مع بداية القرن الرابع عشر بالضبط سنة 1303 ، عندما كلف الملك فيليب لو بون بعض أفراد حاشيته للقيام بمهام النيابة العامة، أو بالأحرى النيابة عن الملك لدى المحاكم، ولا سيما تمثيل الملك في توقيع العقوبات واستخلاص التاوات، فاعتبرت حينئذ من حاشية القصر.
وهذا ما جعل قادة الثورة الفرنسية سنة 1789 يعبئون ضد هذه المؤسسة، ويعمل ون على إلغائها مباشرة بعد نجاح الثورة، باعتبارها من رموز الملكية المستبدة وأداة للظلم والفساد، غير أنه سرعان ما تبين لهم عكس ذلك، وعمل وا على إحيائها من جديد، واقتنع وا أن دورها يمكن أن يجعل العدالة تتحقق بشكل أفضل، فأحدثوا وظيفة المدعي العام L’accusateur public وكان عضو في البرلمان، ويطلق على قضاتها تسمية القضاء الواقف Magistrat debout لأنهم يلقون مرافعاتهم كطرف مدع في الدعوى العمومية وهم واقفين تمييزا لهم عن قضاة الحكم، القضاء الجالس Magistrat de siège .
وقد دخلت هذه المؤسسة أول مرة إلى المغرب بمقتض ى ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتنظيم القضائي للحماية الفرنسية بالمغرب، غير أنها لم تتعد في ذلك الوقت المحاكم العصرية الفرنسية بسبب ثنائية التشريع الجنائي، لكن سلطات الحماية سرعان ما تنبهت لأهمية مراقبة المحاكم التي لا تخضع لنفوذها، وتم لها ذلك بواسطة المندوب المخزني والمندوب الحكومي، هذين الموظفين اللذين عملت الحماية على توسيع مهامهما فيما بعد بنصوص لاحقة، جعلت كلها في خدمة السياسة الستعمارية .
وإثر حصول المغرب على استقلاله بادر إلى وضع قانون المسطرة الجنائية بتاريخ 10 فبراير 1959 الذي جاء نقلا حرفيا لمقتضيات قانون المسطرة الجنائية الفرنس ي لسنة 1958 ، ناسخا بالتالي مهام النيابة العامة كما هي في القانون الفرنس ي، والذي اعتبر على علته مكسبا مهما في الحقل القانوني المغربي، عرف بعد ذلك مسلسل من التعديلات خلال هذه المدة نحو عشرين تعديلا، واختتمت بسن القانون 22.018 في 3 أكتوبر 2002 المتعلق بالمسطرة الجنائية، كما تعديله وتتميمه بمقتض ى القانون 23.05 والقانون 24.05 .
وفي المقابل جاء دستور 2011 على غرار الدساتير السابقة بمجموعة من المقتضيات الجديدة التي تهم استقلال السلطة القضائية باعتبارها سلطة مستقلة عن باقي السلط (ف 107 )الذي خصص لها باب كامل ) الباب السابع من الدستور( للسلطة القضائية، ضم 22 فصلا، يتحدث في خضمها ضمنيا عن استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية، بحيث أن الاستقلال الفعلي والحقيقي للسلطة القضائية لن يتأتى إلا باستقلال النيابة العامة وتبعيتها حصرا للسلطة القضائية، حتى تنأى عن كل المحاولات لجعلها تابعة للسلطة التنفيذية، فقد نص الفصل 110 من الدستور عن التزام قضاة النيابة العامة بتطبيق القانون بالضافة إلى التزامهم بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها.
وبالتالي فإن الدستور وضع السلطة على رأس النيابة العامة دون أن يعينها، وهي غير المجلس الأعلى للسلطة القضائية، على اعتبار أن الفصل 116 من الدستور ينص في فقرته الأخيرة على أن المجلس الأعلى يراعي في الحالات التي تهم قضاة النيابة العامة تقارير التقييم المقدمة من قبل السلطة التي يتبعون لها، مما يؤكد على أن النيابة العامة تتبع لسلطة أخرى غير المجلس، وهي التي تضع التقارير التي تساهم في تسيير قضاة النيابة العامة.
وقد حدد القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية 100.13 باعتباره مكملا للدستور، هذه السلطة في الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، وذلك من خلال الفقرة الأخيرة من الفصل 66 منه.
وفي هذا ا لطار عقدت لجنة العدل والتشريع وحقوق النسان يوم الثلاثاء 11 يوليوز 2017 برئاسة السيد عادل البيطار رئيس اللجنة، وحضور السيد محمد أوجار وزير العدل اجتماعا خصص لمناقشة قانون رقم 33.17 المتعلق بنقل اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، وبسن قواعد لتنظيم رئاسة النيابة العامة .
وفي نفس السياق ومن أجل ترسيخ المبادئ العامة للعدالة وتعزيز احترام حقوق النسان جاءت مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية لتكرس بدورها استقلال النيابة العامة عن وزير العدل ورئاستها من طرف الوكيل العام للمك لدى محكمة النقض وذلك في المادة 51 - 1 ، كما حرصت على إسناد مهمة تنفيذ السياسة الجنائية التي تضعها الحكومة ويبلغها وزير العدل إلى رئيس النيابة العامة الذي يبلغها بدوره إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها وفقا للقانون (51-2) .
وهذا الموضوع له أهمية كبرى يمكن أن نستقيها من خلال البحث في الأدوار المجتمعية الموكولة للنيابة العامة في وضع أو سن أو تنفيذ السياسة القضائية بصفة عامة والسياسة الجنائية بصفة خاصة.
كما تتجلى أهمية الموضوع أيضا من خلال التحديات التي تواجهها النيابة العامة بعد أن أصبحت مستقلة، والتي لم تكن مطروحة من قبل، تحديات تمتحن عبرها مدى احترام النيابة العامة لحقوق النسان التي أصبحت معترفا بها على المستوى العالمي، ومكرسة في العديد من العهود والمواثيق الدولية.
ومن هذا المنطلق ونظرا لراهنية الموضوع الذي يتميز بنوع من الجدة والحداثة يجرنا إلى تبني الطرح الشكالي التالي: إلى أي مدى يمكن أن يشكل استقلال مؤسسة النيابة العامة مدخلا لإرساء قضاء قوي ونزيه ومستقل قادر على مواجهة التحديات في ظل التحو لت الكبرى التي يشهدها المغرب؟
ولمقاربة هذا الموضوع سنعتمد التصميم التالي:

المبحث الأول: استقلال النيابة العامة على المستوى الدولي
المطلب الأول: المعايير الدولية المؤطرة لستقلال النيابة العامة
الفقرة الأولى: مبادئ توجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة
الفقرة الثانية: مبادئ بنغلور للسلوك القضائي
المطلب الثاني: الموقع القانوني والسياس ي للنيابة العامة في الأنظمة الأنجلوسكسونية
الفقرة الأولى: النيابة العامة في النظام القضائي الأمريكي
الفقرة الثانية: النيابة العامة في القانون البريطاني
المبحث الثاني: استقلال النيابة العامة على المستوى الوطني
المطلب الأول: التأسيس الدستوري لستقلال النيابة العامة
الفقرة الأولى: توصيات الهيئة كأساس لستقلال النيابة العامة
الفقرة الثانية: دستور 2011 دعامة لستقلال النيابة العامة
المطلب الثاني: استقلال النيابة العامة من خلال القوانين التنظيمية
الفقرة الأولى: بوادر استقلال النيابة العامة من خلال القانون 100.13
الفقرة الثانية: موقع جهاز النيابة العامة من خلال القانون 106.13
الفقرة الثالثة: القانون التنظيمي المتعلق بنقل اختصاصات وزير العدل إلى رئيس النيابة 33.17


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -